قال الروائي التونسي الحبيب السالمي : كل روائي معنيٌّ بتيمة أو تيمات محددة ويشتغل عليها. فيما يخصني أنا كاتب مهووس بالواقع أو ما أسميه "لحم الواقع." وأضاف صاحب "روائح ماري كلير" في شهادته بملتقى القاهرة السادس للرواية العربية : منذ أن أقمت في باريس وازددت احتكاكًا بثقافتها اكتشفت أن للحياة اليومية التي نستهين بها نحن العرب في أغلب الأحيان أهمية، إذ إنها ليست مفصولة عن الحياة الفكرية والثقافية. ثمة علاقة دائمًا ما بين الكتابة وهذه الحياة اليومية، أي الحياة في تجلياتها، في لحظتها الطازجة، في انخراطها في الزمان والمكان. صرت أكثر انتباهًا لذلك. ولكن هذا الاهتمام بالواقع لا يعني أن رواياتي تندرج ضمن تيار "الواقعية" بالمعنى المتعارف عليه في أوساط النقاد لأن غايتي من الكتابة ليست نقل الواقع وتصويره لمحاكاته. أن نكتب عن الواقع لا يعني أننا "واقعيون"، وإلا فإن كل الكتاب بمن فيهم التجريبيون والسورياليون واقعيون لأن كل كتابة حتى رواية الخيال العلمي تصدر بمعنى ما عن الواقع. الواقع يجتذبني باستمرار، إذ إنه يتبدى لي دائمًا وخلافًا لما يتصور البعض ثريًا رجراجًا مخاتلاً. أحب تحولات الواقع الدائم السيلان كنهر هيراقليطس وأنا مولع باقتفاء آثار هذه التبدُّلات على الأمكنة والوجوه تمامًا كالرسام الانطباعي الذي يقتفي آثار تحولات الضوء على أشياء العالم. الكثيرون يتحدثون عن الواقع كما لو أنه معطى موضوعي وقائم بذاته، كما لو أنه خارج الذات ومنفصل عنها، وعن علاقة منطقية واضحة بين الواقع والشخصيات. ولكن ما معنى الواقع؟ المسألة تتعلق إذن بمقاربتنا لما نسميه "الواقع"، وخصوصًا لفهمنا وتصورنا لكلمة "الواقع" وهي من أشد الكلمات غموضًا لو أردنا أن نتعمق قليلاً في الأمر. هل الواقع هو هذا العالم الفيزيائي الملموس الذي يحيط بنا ونتحرك داخله؟ هل هو تمثلنا الذهني له؟ ثم هذا المعطى المباشر هل له وجود خارج وعينا به؟ ثم أين ينتهي الواقع وأين تبدأ الذات؟ المسألة كما نرى أكثر تعقيدًا مما نتصور. الكاتب الإسباني بالستير مثلاً يعتبر الأحاسيس والأحلام والهلوسات وكل ما يعبر الذهن من خواطر أيضًا واقعًا. ثمة مسألة أخرى تشغلني، وهي أن الرواية بالنسبة لي ليست حكاية بقدر ما هي اشتغال على حكاية. لذلك فأنا لا أميل إلى الإطالة وإلى الإكثار من الشخصيات والأحداث، فما يهمني في الرواية ليس الأحداث في حد ذاتها، على الرغم من أهميتها، وإنما ما يمكن أن أنسجه انطلاقًا من هذه الأحداث أو ما أستطيع أن أولِّده منها من أحاسيس ورؤى وأفكار وانطباعات. هناك أيضًا مسألة اللغة في الرواية الجديدة. وهذا أمر أساسي بالنسبة لي -كلما ابتعد الكاتب عن البلاغة بالمعنى الشائع والإنشاء اقترب من الكتابة - أعتقد أن البذخ اللغوي الذي لا يزال يثير إعجاب الكثيرين يعتم على تجربة الذات في زخمها وحرارتها. أحرص بشدة على أن تكون اللغة في رواياتي مقتصدة ودقيقة. أنفر من كل زخرف، فجمالية اللغة لا تعني بالنسبة لي البذخ اللغوي. ما يهمني هو جمالية التقشف. للجفاف وللتقشف وللاقتصاد جماليته. أحب هذه اللغة الناشفة لكن القادرة في الآن ذاته على أن تنقل لنا أدق الأحاسيس. أما بخصوص ما يسمى ب"شعرية "الرواية فأنا لا أعتقد أن هذه الشعرية تتحقق بتبني الروائي لغة القصيدة الغنائية كما يفعل الكثيرون. هذه الغنائية الحلوة المطربة التي تنتفي حلاوتها برأيي مثل حبة السكر بمجرد أن ننتهي من قراءتها لا تخدم الرواية. شعرية الرواية بالنسبة لي مختلفة تمامًا فهي تنبع من التطور الدرامي ومن المناخ العام الذي يستطيع الروائي أن يشيعه ومن الطريقة التي تتتابع بها المواقف. كما أنها تأتي من إيقاع السرد وحركته الداخلية وليس من هذه "الجمل الشعرية" التي ندسها هنا وهناك في النص. بهذا المعنى فإني أجد من الشعر في روايات بيكيت مثلاً التي تبدو جافة وباردة ما لا أجده في كل الروايات العربية التي توصف بأنها "شعرية".