لم يكن الفنان"محمود سعيد"(1897-1964) وهو يرسم لوحته "ذات العيون العسلية"(1943) يود أن ينقل نموذجاً لإمراة, يراها أمامه فى الواقع, وإنما أراد أن يرسم صورتها المدهشة التى سكنت خياله,والتى تتمثل كحقيقة تولدت فى ذاته. فيستعيد الفنان برسمها العلاقة العاطفية المفتقدة بينه وبين الطبيعة,وأن يعيد تقييمه للعديد من المسائل المتعلقة باختياراته فى الحياة , وعلاقته بالجمال فى الطبيعة ,اعتماداعلى تصوره للأنثى التى يتمناها ,والتى غالباً تتصف بالخصوبة والإشتعال الغريزى بعفوية, بعينيها الواسعتين وشفتيها الغليظتين . ومهما بدت متمتعة بالحشمة , فسوف تستعرض مفاتنها التى تخفى وراءها الرغبة المستعرة. وفى كل الأحوال يبدأ ابتهاج الفنان بجاذبية الأنثى , بقدر دلالها فى مقابل الحياء والتردد اللذين سلحتها بهما الطبيعة. وتلك" الأنوثة" لا تفرق فى قوة إثارتها بين ذوات الطبقة الراقية وأولاد البلد. لأن المرأة حينما تكون على طبيعتها –الفطرية تعطى الإحساس بمعنى الحرية الكاملة . وهو إحساس سار يشبه السرور المصاحب لرؤية لون زهورالنرجس, ويشبه لذة مشاهدة زرقة البحر بروعة أمواجه, والاستمتاع بنورالشمس المشرقة ,وبخضرة العشب البرى, أوبتوهج اللون الذهبى لرمال الصحراء الذهبية,أو بانسيابية مياه النهر, وبالطعم اللذيذ لثمار الرمان. والأصل فى الأنثى أن تبدو ضعيفة فى مواجهة جسارة الرجل, رغم أن الطبيعة وهبتها أساليب من الدهاء للتغلب على قوة الرجل. وفى الطبيعة تدل صحة جسد المرأة ونفسيتها المتحررة من مشاعر الكبت ,على التمتع بالجاذبية, ومن علامات خصوبة الأنثى كونها شابة وتتمتع بالصحة.
ومع ذلك يصور "محمود سعيد" فى لوحته "ذات العيون العسلية" الواقع برؤية ذاتية - خيالية , تحمل فكرة ورمز عن "جمال الأنثى" المتفجرة بقوى الطبيعة الفطرية ,ببريقها ونبلها . وبهذه الطريقة الرمزية يقوى التعبيرالفنى, مع تحويل فكرة الجمال الأنثوى الفريد إلى صورة فنية جذابة . ولذلك لا يهتم الفنان هنا برسم ما يراه, وإنما يهمه أكثر التعبيرعما يشعر به ,أو يدور بخلده تجاه تلك الفكرة, وذلك ليمنحها شكلاً محسوساً , فيجعلها مرئية - ملموسة بطريقة إبداعية - مدهشة .
لقد رسم الفنان الأضواء متلألئة وساحرة بجاذبيتها , حينما تباغت الظلال بوميضها, والألوان الدافئة متوهجة ,حتى تحولت بجمالها إلى جواهر, مثل الياقوت الذى يعد بطاقة وفيرة. وقد جمعت بنية اللوحة بين جمال الجسد وجمال والنفس ,مثلما جمعت بين عناصر الحركة وعناصر السكون . ولم تتعارض سمرة البشرة القمحية مع نعومتها التى تستشعرها الأصابع , وهى تمر عليها بحرية تدل على معنى الشباب اليافع . والأسلوب الفنى الذى يعتمد على عمليات التبسيط والتكثيف ,كسبيل لمنح العمل الفنى قوته,تعكس فيه المعالجة المتحررة من القوالب الفنية التقليدية الرؤية الإبداعية. فالحرية عنوان العنصر الإنسانى فى العمل الفنى. والفن الذى يعكس حرية الفنان يتضمن مضمونا ًروحيا, يدركه المشاهد بحدسه أوخيالهً.و بوسع الفنان أن يستنطق برؤيته الحرة جمال الطبيعة الصماء كتمثيل رمزى.
إن حياة المدينة العصرية التى تتعارض مع متطلبات الطبيعة الإنسانية قد قيدت حرية الإنسان الطبيعية,و حرمته من الإستمتاع بمشاعر الفطرة فى بساطتها ,وتركته وحيداً فى صراعه مع الفوضى والشقاء بدلاً من أن توفر له السعادة.
غير أنه ليس شرطاً أن يعثر المشاهد على الجمال الذى تعكسه لوحة "ذات العيون العسلية" متوفراً فى المرأة التى جلست أمام الفنان نموذجاً , فمن الجائز لو صادفها فى الواقع بجسدها لما أعجبته أو حتى لفتت انتباهه, كأنثى جميلة جمالاً طبيعياً .لأن جمال الصورة الفنية من النوع الفنى الذى يستند إلى رؤية إبداعية خاصة بالفنان. وهنا تطرح قضية العلاقة بين الجمال الطبيعى والجمال الفنى نفسها,لأن قيمة اللوحة التى أنجزها" سعيد" لاتتوقف على جمال المرأة التى اختارها موديلا ًتجلس أمامه لنقل ملامحها, وإنما قيمتها فى الحقيقة الفنية التى مضمونها فكرة التصارع بين صفة الرقة كطبيعة فطرية فى الأنثى ,والوحشية البكر, بسحرها ونبلها التى جسدها الفنان برؤية إبداعية توصل إليها بحدسه وإلهامه. هكذا منح الفنان الصورة فخامة وبهاء بفضل المعالجات الضوئية والتآلفات المدهشة والتماثلات والانسجامات المتوازنة .وذلك يؤكد على حقيقة ارتباط الجمال فى الفن برؤية الفنان .