ما ذلت لغة شعب إلا ذل .. حكمة قالها مصطفى صادق الرافعي، ولكنها تتجدد فينا، لقد سقط الغربيون صرعى جمال اللغة واكتمالها المفاجيء الذي ولدت به، ولم يدرك أهلها هذه العظمة فتناسوها، ولم تصطبغ أحاديثهم اليومية ومكاتباتهم ببهائها، بل وتناسوا الآيات المنزلات "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" ! وقد خرج اللغوي الكبير د. خالد فهمي، يكاشف حضور بالعشرات تحلقوا بساقية الصاوي قائلا : هل تعلمون أن ما ينفق لنشر الإنجليزية كلغة عالمية يوازي مجموع ميزانيات العالم العربي مضروب في عشرة! .. وهل تعلمون أن اللغة العبرية كادت تتلاشى لولا رجل يدعى اليعازر بن يهودا ؟ .. ماذا عن اللغة العربية معجزة العرب الباقية في قرآنهم؟ ، وهي بيت هويتهم، والتي يدخل بفضلها آلاف الأعاجم للإسلام حينما يتكشفون معجزاتها، إنها لغة مقدسة منيت بتجاهل أغلب أهلها، ربما لأن الاهتمام باللغة جزء من التحضر الغائب عن عالمنا، فكان زوال اللسان الفصيح عارض لمرض أصاب الجسد! وتابع بقوله : تخيلوا لو أن حاكما في طول العالم العربي يخرج في الصباح فيقول قررنا أن نتحول للسان العربي؟ بالتأكيد سنجد البوقة الإعلامية في نفس الاتجاه وهكذا التعليم. ويستعين خالد فهمي بكلمات للمستشرق الغربي ماسينيو عن اللغة العربية التي شبهها بموسيقى عذبة في معبد خاشع بالسكون، وبهذا فواجبنا أن نمتع أبناءنا بجمال اللغة بعد أن نفرتهم مناهج التعليم العقيمة، متأسين بقول الصوفي بن الفارض : بازل روحه في حب من يهواه .. ليس بمسرف! وفي بداية الاحتفالية التي أقامتها ساقية الصاوي ليلة الخميس احتفاء باللغة الأم، أكد محمد الصاوي ، مؤسس الساقية ، أن العناية باللغة العربية بداية إصلاح الأمة والإسهام بتقدمها الإنساني، مؤكدا أن الساقية بدأت برنامجها للاحتفاء باللغة الأم منذ عام 2006، في محاولة لصنع ساحات للبحث في اللغة وتذوقها والأساليب الميسرة لتعلمها. شارك بالاحتفالية : حسام الدين مصطفى رئيس جمعية اللغويين والمترجمين المصريين، ود. حسن مغازي أستاذ الأدب بجامعة جنوب الوادي ، فيما اعتذر د. حسن الشافعي الأمين العام لمجمع اللغة العربية عن الحضور لظروف الطقس البارد . كما شاركت مبادرات "كلمتنا" و"الفارس العربي" و"أبجد" بحديث حول تجاربها الحية لإحياء اللغة بين عموم الناس. أما مقدم الاحتفالية فكان اللغوي والشاعر د. محمد حجاج ، والمعروف ب"سفير اللسان" حيث أمتع الحضور بفواصل شعرية في عظمة العربية، يقول منها : لغتي حياتي إنها عنواني .. ما عشت إلا كي أقيم لساني ، يا فخر نفسي بالعروبة أرتوي .. بالنبع صاف هاديء الجريان. تميزت الاحتفالية بفيلم مسجل حول تاريخ اللغة العربية جاءت معجزة تخص العرب المشهورين ببلاغتهم وفصاحتهم، ولكن اللغة قام رجل بتثبيت قواعدها ليسهل نطقها بشكل سليم لا يختلط فيه المعنى ، خاصة وأن اختلاط المعاني سيصل للقرآن الكريم ، لو لم يحسن القاريء فهم موضع اللفظة ومعناها، فحين فهم أعرابي من آية قرآنية أن الله بريء من رسوله، وحاشا، كان هناك رجل قد بدأ في ضبط قواعد اللغة ونطقها وهو أبو الأسود الدؤلي، بدعوة من والي أموي، ومن بعده جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض وتلميذه النجيب الأعجمي سيبويه، وكان بينهما ود كبير . يتذكر الحضور عظمة العربية حين يستعيدون القصيدة الخالدة لحافظ إبراهيم وكأنه يحدثنا بلسان عصرنا الراهن وحال العربية فيه ، فيقول : وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي تحديات عصيبة أوجز د. خالد فهمي التحديات التي تواجه اللغة العربية في خمس تحديات ، أولها طلائع الاستعمار التي تبشر باللسان الإنجليزي التقدمي وصلاحيته ليحل محل كل لغات العالم، ويتزامن هذا الأمر مع "قابلية للاستعمار" مني بها العالم العربي، وحذر منها من قبل عدد من أبرز المفكرين ومنهم الطاهر بن عاشور ومالك بن نبي، والأخير كان جزائري يبكي لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه باللغة العربية لأن فرنسا كانت قد اجتاحت بلاده لغة وثقافة قبل أن يكون الاجتياح بنشر العساكر على الأرض . لقد حذر الكاتب فهمي هويدي من تحول اللسان العربي لمصاف العبيد، وهو ما شبهه بانتحار اللغة وخاصة ببلاد الخليج العربي. من بين التحديات ، حالة التردي العربي الشامل، سياسيا وعلميا، وأي لغة تنهض بما يقدمه أبناؤها للعالم ، وكيف لنا أن نكون هكذا على وفرة العلماء في مصر، ولكن البلاد منيت بحالة رخاوة لا ينتظر منها قرار وصارت تتناوشنا نحن وكل بلاد العرب، كل قوى التآمر حول العالم ، ويزيد الطين بلة حين ننظر لشهوة الاستهلاك الغير مبررة والتي عرفت بها الشعوب العربية، فها هي تفاخر بالأسماء الأجنبية على الملبس والمطعم وكل شيء ! ولذلك ينادي د. خالد فهمي، رجال الأعمال العرب، بأن ينفقوا لنشر اللسان العربي، وسوف يحقق لهم ذلك أعظم عائد مادي وأدبي، ودعا لتوقيف مشروعات تنموية لهذا السبيل. وقال أن استنهاض العربية يأتي بربط اللسان العربي بالدين، وقد لاحظت إحدى الباحثات أن اللغة العربية مقدسة وهو سر لا يجهله الناس العاديون، وقد ذهبت للكنائس المصرية وعلمت أن بهجة المسيحيين تكون أكبر حين تكون العظة باللغة الفصحى . ومن بين الحلول التي دعا إليها د. خالد فهمي، رئيس دار الكتب والوثائق السابق، أن يتم تأكيد علاقة اللسان العربي بالهوية، ولا شك أن مزاحمة اللسان الأعجمي للسان العربي الفصيح تؤخر مرتبته، وربما ذلك هو ما جرى للسان كليم الله موسى عليه السلام والذي اضطر للهجرة من مصر عشر سنوات، فكان أن طلب من ربه أن يشد عضده بأخيه الأفصح لسانا منه! لأن الدعوة تستلزم حسن البيان . اللغة .. حياة هل يمكن أن تتحول لغتنا من غايتها العظمى لمجرد تراتيل مقدسة نتلوها بمساجدنا؟ لا تندهش، فهذا هو المآل الطبيعي لحالة إهمال اللغة ، وهذا ما شهدته اللغة اللاتينية التي تحولت للغة غير متداولة تقرأ بها الطقوس الكنيسة . وقد ركز د. حسام الدين مصطفى على دور جمعية المترجمين في تصدير اللغة لغير الناطقين بها، ومواجهة موضة كتابة العربية بحروف إفرنجية، والاستعانة بالترجمة كي تصبح وسيلة لدعم اللغة لا هدمها كما يجري الآن، فالترجمة عملية إبداع موازية للتأليف، ويجب أن يجتهد المترجم كي تكون اللغة التي ينقل إليها النص عربية سليمة تماما لا تستقي تراكيبها من اللغة المصدر المترجم عنها ، كما نقول مثلا : "كتب هذا بواسطة ريم" وهي صياغة ركيكة . أما د. حسن المغازي فركز بكلمته على ضرورة اهتمام الجامعات بصنوف العلوم اللغوية العربية وليس النحو والعروض فحسب، فهناك الصوتيات مجال مهمل كثيرا . مبادرات شبابية فارس يرتدي ثوبه العسكري الذي يعود ربما لزمن العثمانيين ، يجول شوارع القاهرة، يقابله المارة باندهاش وسخرية، ولكن حين يتحلقون حوله يكتشفون معه متعة سماع قصص العروبة بلسان فصيح .. إنه المدرب اللغوي عبدالرحمن المكي، والذي ولد بمكة المكرمة وتعلم التاريخ العربي فيها وقرر أن يستبدل شخصية "بابا نويل" بشخصية من التراث العربي ابتكرها، تصنع الأحجيات والألغاز وتطرح الجوائز على من يجيب ، وهو يؤكد خلال الاحتفالية بلغتنا الأم، أن الناس لديها شوق كبير للغة العربية، بدليل إقبالهم على تعلمها في دورات مكثفة يشرف عليها، كما أن مناقشة الناس بالفصحى تستميلهم لفعل الشيء ذاته، وبذلك يقوى اللسان الفصيح . أما د. معتز صقر مؤسس مبادرة "ثورة اللغة" فتحدث بسخرية عن بلاد العرب التي يحار فيها من يتحدث بالعربية! ولكنه مع ذلك قرر أن تكون هناك مؤسسة لتعليم مهارات اللغة للمريدين ، وقد كان ، وهو أيضا ما فعلته مبادرة "أبجد" لأحمد أبوخليل، و"كلمتنا" ومنسقها محمد حجاج، والتي تسعى للنقاش باللغة العربية في كافة الأمور المعيشية والتحديات التي يواجهها الشباب في حياتهم . ومن بين أبرز ضيوف الاحتفالية، أستاذ اللغة محمد الوكيل، والذي سافر لتعليم العربية ببلاد كازاخستان، فتمت على يديه المدهشات، وحصل طلابه على أعلى درجات الرقي الأكاديمي والعلمي ببلادهم بفضل إجادة العربية، وهو لا ينسى "ابنته" كما يسميها، والتي حين جاءت للقاهرة شعرت بخيبة أمل بعد أن واجهها الناس بسخرية لأنها تنطق بالفصحى، وقد أضحت العربية غريبة بأرضها . وقد تذكر أشهر قازاقي يأتي لمصر ويستقر بها ويعمل بدار الكتب ، وقد جاء مع أبيه هربا من اضطهاد الروس، فكان أن تحققت على يديه كشوفات تراثية نادرة وقد اختتمت الليلة بتكريم المشاركين بدرع ساقية الصاوي ، لجهودهم بنشر اللغة العربية، وتلا ذلك تكريم خاص من محمد الوكيل والذي أهدى المشاركين لوحات فنية طبيعية، فيما أهدى خاتما خصه به أحد القازاقيين لمنسق الاحتفالية د. محمد حجاج .