دائما ما يوجد في حياتنا ثوابت و تقاليد وقواعد لا يمكن مخالفتها، أو تجاوزها، أو حتي مجرد التفكير في ذلك. لم نطرح علي أنفسنا سؤالا: هل هي حقيقية أم لا؟. وبغض النظر عن مدي واقعية هذا "الثبات" دائما ما تصدر قرارات تنبه وتؤكد علي اهمية هذه الثوابت، والتأكيد علي وجودها اكثر واكثر.. المشكلة هذه الثوابت ان الواقع عادة ما يكون قد تجاوزها فعليا، وان الناس في حياتهم اليومية رغم اعترافهم بهذه الثوابت الا انها لا تتحكم في سلوكياتهم الا بقدر ما تتحكم صورة قديمة علي الحائط لم يعد يلتفت اليها احد بحياة افراد العائشين داخل البيت. وانطلاقا من عقيدة الثوابت طالعتنا الصحف بقرار رئيس جامعة الازهر أسامة العبد في اول ايام الدراسة هذا العام بمنع التحدث وإإإإإلقاء المحاضرات باللهجة العامية، ومن تثبت مخالفته لتلك التعليمات سيتم لفت نظره الي عدم العودة إليها ثانية حتي لا يحال إلي التحقيق"! الدافع وراء قرار رئيس الجامعة حسب ما اوردته الصحف انه من العيب علي الازهر معقل العلوم العربية والاسلامية ان يشتكي فيه الطلاب الوافدون بعدم فهمهم للغة الاستاذ لأنه يتحدث بالعامية المصرية" من ناحية اخري وصف العبد القرار بأنه "محاولة من الجامعة لحماية طلابها من العشوائية الثقافية التي تصدرها العولمة لنا!! حاولنا الوصول الي رئيس الجامعة ولكن الرجل كان في جولة بأوروبا، كنا نريد سؤال رئيس الجامعة عن مدي عملية قراره بمنع العامية، فهل يستطيع كل الاساتذة والطلاب التحدث ب"الفصحي"؟، وان استطاعوا التحدث بالمفردات "الفصيحة" فهل سيتمكنون من ضبط "الاعراب"؟ وهل يضمن هذا القرار حل "المشكلة" المفترضة بين الفصحي والعامية..؟ وهل التحدث بالعامية هو عشوائية ثقافية سببها العولمة؟؟. لكن استطعنا الوصول الي الدكتور عبد الغفار هلال العميد الاسبق لكلية اللغة العربية بجامعة الازهر وسألناه عن القرار فأثني العميد علي القرار ووصفه بأنه قرار صائب يجب علي الجميع الالتزام به، وتمني لو طبق علي جميع مراحل التعليم الأزهري والعام، فبالنسبة له "اللغة هي علامة القومية والهوية التي ينتمي اليها الشعب، وعندما يتمسك بها يشعر بأن له قيمة وخصائص تميزه عن غيره، واذا تركها يشعر بالهزيمة النفسية والاجتماعية".
سألت الدكتور هلال لكن اي فصحي تقصد؟ فأجاب انها اللغة السهلة الملزمة بالقواعد حيث ان تلك اللغة "يمكنها ان تصل الي الجميع ويفهمونها، بينما العامية فيها تراكيب حشو كثيرة لا معني لها..فكلمات العامية هابطة، تترك النموذج الامثل". هنا سألته مرة أخري: ما معني هابطة؟؟ فأجاب انها تبتعد عن النموذج الامثل، يجب ان نتحدث بلغة القرآن لاننا ننتمي الي هذه اللغة. ولكن هل العربية التي نستعملها الأن هي لغة القرآن؟؟ أجاب هلال: نعم هي نفسها، ولكن تراكيب القرآن اشد سبكا ومن هنا تأتي عظمة القرآن. ولكن هل يستطيع احد عمليا التحدث بالفصحي؟؟ اذا تمسك لن يلحن، فانا استطيع التحدث بلغة عربية سليمة لعشر ساعات متواصلة، ويذكر ان الفراء كان في مجلس هارون الرشيد، فأخطأ في الحديث فقال له الرشيد أتلحن يا فراء؟ فأجاب الفراء "أن طباع اهل الحضر اللحن، ولكن اذا تمسكت لن ألحن" ، وهكذا بالتدريب سيستطيع الاساتذة التخلص من اللحن والخطأ في اللغة. اذا انتقلنا الي جانب أخر،اذا كان الفراء قد ألحن فلماذا لا يتم تقعيد العامية للخلاص من هذه الثنائية؟؟ "في حدة" لا يجوز تقعيد العامية، لانها غير مألوفة، وهي عبارة عن خليط من لغات وعاميات ووضع القواعد لها صعب، واذا قعدنا العامية فسنضعف القرآن، وستنفصل مصر الي اقاليم يتحدث كل منها لغته الخاصة. وفي الواقع العامية بنت الفصحي واذا ماتت الفصحي ستموت العامية، ومن الخطورة ان نسمح بتقعيد العامية فهذا يعني ضياع اللغة العربية. ولكن لماذا لا يحدث مع اللغة العربية ما سبق وحدث مع اللغة اللاتينية التي اصبحت الان مجموعة لغات ايطالية وفرنسية واسبانية وهكذا؟؟ ما حدث مع اللاتينية ناتج عن فعل الجماعة، وهذا ما يتمني الغرب ان يحدث مع اللغة العربية كي لا يتمكن حد من قراءة القرآن ويصبح غير مفهوم، فما يقلق الغرب ان العرب والمسلمين حافظوا علي لغتهم، ولو سرنا علي طريق اللاتينيين سيصبح القرآن مهجورا وستموت شريعة الله. هكذا وصل الحديث مع العميد السابق الي طريق يبدو مسدودا، فالفصحي هي واحدة لم تتغير من عصر "القرآن" حتي عصر "الجزيرة"، ووضع قواعد للعامية سيميت شريعة الاسلام، وستتفتت مصر الي أقاليم، وبالتالي العالم العربي الي دويلات، وحتي إذا كان الفرّاء قد أخطأ، فبإمكاننا نحن ان "نتمسك" ولن نخطيء. سألنا الدكتور عبد الحكيم راضي الاستاذ بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية اللأسئلة ذاتها ربما يحمل إجابة مختلفة ...قال:"القرار خطوة علي الطريق الصحيح، الصعب بعض الشيء، ولكن كما يعتاد الطفل الكلام بعد ان يسمع والديه، فمن الممكن ان يعتاد الطلاب الحديث بالفصحي بعد ان يسمعوا اساتذاتهم" وان كان عضو المجمع قد وسع مسألة وضع اللغة حيث أشار إلي أن "الاعلام يتعامل مع اللغة باستهتار شديد، وبشكل يحط من شأن اللغة العربية وخصوصا في الاعمال الدرامية حيث يبدو الشخص المتحدث بالعربية موضع استهزاء وسخرية". حاولت العودة الي السؤال الذي توقفنا عنده في الحديث مع العميد: هل الفصحي التي نستعملها حاليا هي الفصحي المستعملة في "عصر القرآن"؟؟ فأجاب الرجل "أن لغة القرآن هي لغة عربية فصحي، وان التطور في اللغة مبدأ معترف به، ولكن مجتمعنا انفصل عن لغته". هل انفصل المجتمع عن لغته أم ان اللغة بهذا الشكل هي التي انفصلت عن مجتمعها؟؟ لا المجتمع هو الذي انفصل عن لغته، انظر كيف يتم كتابة التاريخ في الصحف بالارقام الافرنجية، ومن الشمال إلي اليمين، هناك مبالغة في الاستهانة بلغتنا، وهناك أسطورة تهيمن علينا ان التطور يعني فقط الشيء الجديد، ولكن التطور يعني ان نعمل علي تركة الماضي حتي لا يأتي يوم لا نستطيع فيه قراءة القرآن.
ولكن د.عبد الحكيم عاد مرة أخري وأشار إلي أن اللغة رهن بالتطور، واذا تركت اللغة تموت، وأكد انه لا ينادي بالتقعر لأننا مهما تفاصحنا لن نتكلم لغة الجاهليين، ولكن يبقي الفيصل هو ان لا انسلخ من هويتي، فالأصالة تكون أحيانا في اتباع القديم. تبدو الاجابات حتي الان تؤدي إلي نفس الحائط الكبير.."الهوية" التي ستسقط، و"الاسلام"و" القرآن" الذي سيضيع، سألنا المترجم خليل كلفت صاحب كتاب "من اجل نحو عربي جديد" عن القرار الجديد والفائدة التي يمكن ان تنتج عنه، فأجاب كلفت: القرار غير علمي، ويصر علي تجاهل معني الفصاحة، التي هي الوضوح والأبانة وبهذا المعني فما نسميه "الفصحي" و"العامية" كلاهما فصيح، وتسمية "العامية" هي تسمية عدوانية بالاساس يقصد بها التحقير من شأن اللغة التي يتكلمها الشعب، رغم وجودها منذ القرن الثاني الهجري في الامصار، والقرن الرابع في البادية. ويتحدي كلفت ان يتحدث اي احد بدون ان يخطيء في الاعراب، وبالتالي فهو ضد اي فرمانات تأتي من مستوي فوقي فالجماعة اللغوية هي التي تحدد لغتها، وهذه الجماعة حددت منذ أكثر من اثني عشر قرنا، وبالتالي فمثل هذه القرارات محكوم عليها سلفا بالفشل لانها ضد طبيعة الجماعة اللغوية. ومن ناحيته يري الشاعر والباحث اللغوي مؤمن المحمدي أن القرار بمنع الحديث بالعامية المصرية في أروقة الجامعة حلقة جديدة في سلسلة الهروب من مواجهة أزمة اللغة العربية ، إذ إن المواجهة الحقيقية لا تعني المنع، فكما أن الحفاظ علي الانضباط في المجتمع لا يتحقق بفرض قانون الطوارئ فإن الحفاظ علي اللغة العربية لا يتحقق بمنع الحديث بالعامية وإنما بمواجهة الواقع وتساؤلاته. ويتساءل المحمدي مثلا، ما هي اللغة العربية التي يريد الأزهر الحفاظ عليها؟ هل يوجد حقا ما يسمي باللغة العربية أو لغة القرآن؟ ثم يتابع "إن منع الحديث بالعامية لن يؤدي إلا لخلق مستوي جديد من مستويات الاستخدام اللغوي، لا هو بالعامية ولا هو "بالفصحي"، وهو ما يحدث طوال الوقت مما ينتج مستويات لا نهائية للاستخدام اللغوي، دون أن تنحل المشكلة الأساسية وهي ازدواجية اللغة". ويحلل صاحب "تخاريف خريف" المقولة الاخيرة بقوله " حتي تعبير ازدواجية اللغة نفسه تعبير غير دقيق لأن هناك أكثر من لغة، فالفصحي التي كان العرب يتحدثون بها وقت نزول القرآن، وبصرف النظر عن أنها عشرات اللغات بحسب القبائل، فإنها تختلف كليا وجزئيا عن الفصحي المكتوبة اليوم، سواء علي مستوي النحو أو الصرف أو حتي علي المستوي المعجمي، وهو ما يبدو واضحا من صعوبة قراءة الشعر الجاهلي حتي من قبل المتخصصين دون الاستعانة بشروح وقواميس وسيطة.كما أننا إذا اعتمدنا مثلا علي القواعد التي وضعها علماء اللغة الأوائل، فإننا سنصطدم بأنه نموذج تخيلي لم يكن له وجود علي أرض الواقع، ولن يكون، أما اللغة المكتوب بها الجرائد فهي أقرب للعامية منها للفصحي المتخيلة" وختاما يري المحمدي أن "الطريق الوحيدة لمواجهة الواقع اللغوي المعقد للعالم العربي هو ضرورة مواجهة هذا الواقع بقبوله أولا، ولذلك فإن التقعيد للعاميات والاعتراف بها "لغة" هو أولي خطوات الإصلاح".
اخيرا نتساءل نحن هل من الممكن ان يصبح قرار رئيس جامعة الأزهر الاخير مفجرا لمناقشة حقيقية حول اللغة العربية وحالتها الواقعية للخروج من نمط التعميمات الخيالية، والفرمانات الاتية من أعلي، والتي لا تحل مشكلة، ولا تغير وضعا، ولكنها تأزم المسألة أكثر بدون حل؟؟