ربما يبدو الأمر غامضاً لأول وهلة خاصة أن الرئيس يميل للكتمان والتحفظ بطبعه، كما أن اللغة غير اللفظية (لغة الجسد) لديه لا تعطي فرصة كبيرة لقراءتها فهي أيضا متحفظة، ومع هذا فإن تسعة وعشرين عاما من حكم الرئيس وقراراته كافية لأن تعطي فرصة لفهم منهجيته في التفكير وتعطي فرصة لتصور رؤيته في الأحداث، وهذا ما سنحاوله الآن بهدف فهم أعمق لقرارات السيد الرئيس ومحاولة توقع ردود أفعاله في المواقف المختلفة. فالرئيس طيار عسكري محترف تعلم مبدأ أساسياً مهماً وعلمه لتلاميذه الكثيرين حين كان قائدا للكلية الجوية، هذا المبدأ هو السرية في المهمة حتي تكتمل، لأن الطيار إذا أفصح عن مهمته أو وجهته فإنه قد يتعرض لخطر هائل يتمثل في ملاقاة وسائل الدفاع الجوي المعادي له، لذلك يقاس نجاح الطيار بمدي قدرته علي كتمان توجهاته حتي اللحظة الأخيرة، وعلي الرغم من انتقال الرئيس للعمل السياسي لسنوات طويلة «جداً» إلا أن هذا المبدأ مازال حاكما لكل قراراته، فهو ربما يستشير من حوله ويستطلع أشياء كثيرة ولكن يظل الأمر يختمر في ذهنه لفترة تطول أو تقصر ولكنه لا يفصح عن ذلك، ولهذا تكثر التكهنات والتساؤلات عما ينويه الرئيس وعما سيصدره من قرارات (والرئيس يري ذلك ولا يعلق عليه) ثم يصدر القرار في توقيت معين يختاره الرئيس «وحده». وربما تحدث تمويهات أو يترك الناس يضعون احتمالات مختلفة دون أن يتدخل أو يؤكد أو ينفي بل يترك الباب مفتوحا لكل الاحتمالات حتي يحتفظ لنفسه بمساحة كافية للحركة واتخاذ القرار الذي يراه «هو» في الوقت المناسب الذي يحدده «هو». وربما تعود كلمة «هو» إلي طبيعته كطيار، فعلي الرغم من التزام الطيار بمهام محددة تحددها خطة القيادة، إلا أن الطيار كثيرا ما تصادفه ظروف مفاجئة فيضطر إلي أن يعتمد علي استقرائه للمجال الذي يتحرك فيه ويتصرف بشكل منفرد في إطار تنفيذ المهمة. وربما يقيس الطيار مدي نجاحه بمدي قدرته علي السرية والاحتفاظ بالأمر لآخر لحظة، وعلي العكس تصبح الشفافية في الخطوات الأولي للإعداد أمرا يعرض المهمة للخطر. هذا المفتاح المهم لمنهجية التفكير واتخاذ القرارات يجعلنا نفهم الكثير من الأحداث التي مرت والتي حرص السيد الرئيس فيها علي الكتمان حتي اللحظة الأخيرة. وإذا طبقنا هذا الأمر علي موضوع يشغل الجميع الآن سواء الموالين أو المعارضين، وهو موضوع خليفة الرئيس، وهل سيكون السيد جمال مبارك خليفته بالتوريث (والذي يمكن تفعيله بأشكال دستورية) أم سيكون شخصاً آخر؟.... وطبقا للقاعدة التي ذكرناها آنفا فإنه لا أحد يعلم ما في نية السيد الرئيس (حتي ولا أقرب المقربين منه)، ولكن الأمر محسوم في عقله إلي أن يحدد توقيت تفعيله. وقد لا يعجب هذا الأمر كثير من المعارضين، علي اعتبار أن أمور الدولة الحيوية ليست سرا يحتفظ به الرئيس وحده، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة صحة هذا الأمر من عدمه لكننا نكتفي بمعرفة منهجية التفكير دون التعليق علي آثارها. النقطة الثانية في فهم منهجية التفكير نشأت في لحظة اغتيال الرئيس السادات حيث رأي وعايش الرئيس هذه اللحظة بكل تفاصيلها وقد عايش ما سبقها من أحداث وأخطاء حين كان السادات يتبع سياسة الصدمات والمفاجآت والمواجهات وأحيانا الاستفزازات، ومن هنا وعي السيد الرئيس هذا الدرس، وحرص طوال حكمه أن يبتعد عن هذه الألغام التي انفجرت في الرئيس السادات، وربما وافق هذا شخصية كل من الرئيسين، فالسادات كان يميل للدرامية في الأحداث والدينامية المستمرة في القرارات، والإبداعية العالية في الأفكار، إضافة إلي قدرة هائلة علي المغامرة والمناورة يعكسها تاريخه الثوري والسري معا، أما الرئيس مبارك فشخصيته تميل إلي الثبات والاستقرار، والالتزام بالقواعد واللوائح، كما يعكس هذا تاريخه الوظيفي سواء العسكري أو السياسي. إذن فمسألة الثبات، والتي تترجم سياسيا بالاستقرار مسألة شديدة الأهمية والمحورية، وهي مرتبطة بالشعور بالأمان، فهو يشعر بالأمان طالما أن الأمر في نطاق الثبات، ويعتبر التغيير المفاجئ أو المتكرر تهديداً للاستقرار، ولهذا نجد درجة عالية من ثبات الأشخاص المحيطين به والمتعاونين معه، ودرجة عالية من الثبات في السياسات، وهو يحافظ علي هذا الثبات علي الرغم من كل التحديات المحيطة به، وكل العوامل التي تدفع للحركة. وهذا الثبات لا يتوقف فقط عند المواقف والقرارات، ولكن تلمحه أيضا في ملامح الوجه والتي تعكس حالة من الاستقرار، ولو قارنت صوره منذ تولي الرئاسة حتي الآن فلن تجد تغييرا كثيرا في الملامح والقسمات، بل هي نفس النظرة ونفس الجلسة، ونفس لون الشعر، أي أن هناك ميلا فطريا لتثبيت الصورة خارجيا وداخليا ويساعد هذه القدرة علي التثبيت حالة من الثبات الانفعالي الهائلة يتمتع بها ويتحدث عنها ويعتبرها أحد مزاياه، فهو يواجه المواقف الصعبة بأعصاب هادئة وانفعالات قليلة، وليس من السهل استفزازه، أو دفعه لاتخاذ قرارات انفعالية، وقد يصل هذا الأمر إلي تأخر صدور قرارات أو عدم تناسبها مع المواقف (علي الأقل في نظر معارضيه). وهو لا يميل إلي التغيير بالفطرة، وإنما يميل إلي التغيير بالتراكم الهادئ أو حتي البطيء، ولو نظرنا إلي أغلب الإنجازات فسنراها في إطار البنية التحتية، وقد يكون في هذا اختيار حسب احتياجات المجتمع ولكنه يعكس اهتماما شخصيا بالثوابت والأساسيات والضروريات. وإذا تخيلنا أن السيد الرئيس يجلس مع نفسه الآن (وقد تجاوز الثمانين من العمر والثامنة والعشرين سنة من الحكم)، فكيف يري الصورة ؟. إنه قد يري أنه حافظ علي توازنات مهمة جنبت البلد مشاكل كثيرة فهو يدرك أن مصر مثل طائرة عريقة ولكنها تحوي أعطالا فنية كثيرة، لذلك حين يقودها يكون غاية في الحذر حتي لا تتهاوي أو تتعرض لنيران معادية أو صديقة، فهو يعرف عن هذه الطائرة كل شيء (علي الأقل في نظره)، ولديه خبرة طويلة في قيادتها، ويعرف عدم تحملها للمناورات أو المخاطرات، ولذلك يطير بها ببطء وثبات يناسب حالتها والظروف المحيطة بها (قد يري معارضوه غير ذلك بالطبع)، وقد يري أنه ابتعد بها عن الدخول في صراعات حادة مع إسرائيل طوال هذه السنين، ولم يتورط في مواجهات غير محسوبة إبان اعتداءات إسرائيل واستفزازاتها المتكررة في فلسطين ولبنان، وأنه لم يطلق طلقة واحدة طوال حكمه حفاظا علي السلام الذي يحقق الاستقرار وبالتبعية يحقق التنمية. وقد يري أنه جنب مصر مخاطر التورط في أحداث دولية ومحلية جسيمة مثل حرب الخليج وحرب لبنان والمشكلات المزمنة بين الفرقاء العرب، وفي ذات الوقت حافظ علي شعرة معاوية مع الجميع (ننبه ثانية إلي أننا نعرض لتخيلنا لرؤية الرئيس وليس لرؤية معارضيه والتي نتوقعها ونحترمها أيضا). وقد يري أنه حافظ علي السلام الداخلي وحمي بلده من تهديدات إرهابية كانت كفيلة بزعزعة الاستقرار في أي بلد آخر كما حدث في لبنان والجزائر والعراق. كما أنه يري أن سياسته مع الإخوان المسلمين كانت أنجح من سياسة عبدالناصر وسياسة السادات، إذ نجح هو في ضبط إيقاع هذه الجماعة الكبيرة والمؤثرة، فهو لم يمكنها من شرعية العمل الذي يسهل لها الانطلاق بلا حدود، وفي ذات الوقت لم يحاول اجتثاثها بما يؤدي إلي مواجهات خطرة، وإنما حافظ علي قدر من التوازن بين بقائها الحتمي، وبين ضبط حركتها وإجهاض انتفاضاتها، بل توظيف وجودها حين التعامل مع الخارج والداخل المعارض لها. وقد يشعر الرئيس بالارتياح للتجربة الديمقراطية - كما يراها - من حيث إنه أتاح فرصة كبيرة لحرية الرأي تبدو واضحة فيما يكتب في الصحف وما يقال في برامج التوك شو علي الفضائيات، وفي نفس الوقت كانت الأمور تحت السيطرة سواء من ناحية الأحزاب أو من ناحية الإخوان. وقد يري أنه نجح في تفادي المشكلات التي كانت ربما تحدث إبان فترة حكم بوش الابن، فقد كان هذا الرئيس الأمريكي المتغطرس والطائش يمارس ضغوطا علي مصر لتجاري سياساته بشكل حرفي، وكان الأمر صعبا حيث لم يكن ليحتمل معارضته، كما أن طاعته كانت مكلفة للغاية ومؤثرة في صورة مصر ومكانتها، وأن الطريقة التي اتبعها الرئيس كانت تتسم بالحكمة والروية، ونجح في العبور من هذه الفترة بدون خسائر مصرية، أو علي الأقل بقدر قليل من الخسائر. وقد يري أنه أعطي فرصة للشباب في الحكومة حيث تحوي عددا من الوزراء صغار السن، ومع هذا احتفظ ببعض رموز وقيادات الحرس القديم ليحافظ علي ثبات الأمور كما يريدها. وعلي الرغم من انتقاد معارضيه له علي الاستمرار في الحكم كل هذه السنين فإنه قد يري الصورة من جانبه بشكل آخر، فعلي الرغم من تجاوزه سن الثمانين، وعلي الرغم مما بذله في حياته العسكرية والمدنية من مجهودات هائلة، وعلي الرغم من احتياجه للراحة والهدوء والاستمتاع بحياته العائلية، فإنه ضحي بكل هذا وآثر أن يستمر في تحمل المسئولية كأي جندي مخلص لبلده حتي آخر قطرة دم في حياته، خاصة أنه يشعر كما ذكرنا أنه لا يوجد - علي الأقل حتي الآن - طيار مثله يعرف أسرار قيادة هذه الطائرة (مصر)، ويعرف مشكلاتها وكيفية التصرف في أعطالها، وكيفية تفادي الأخطار المحيطة بها. وفي سبيل ذلك تحمل الكثير من الانتقادات التي طالته بشكل شخصي وطالت أفراد أسرته، ومع ذلك كان يتغاضي ويتسامح، ويتنازل عن حقه الشخصي، ولكنه لم يكن يفرط أو يتهاون في حق البلد وأمنه الوطني. وقد يشعر بالقلق تجاه مستقبل البلد من بعده، إذ هو لا يتخيل مصير البلد إذا صارت الأمور بيد المعارضة الأقوي ممثلة في الإخوان، إذ كيف تسير الأمور وهم يغامرون (في نظره) بمصير البلد وسط معارضة دولية شديدة، أو كيف يكون حال البلد من بعده وقد تنازع الجميع علي الحكم، وظهرت الطائفيات والعصبيات والجماعات من تحت السطح، كما حدث في العراق. وقد يكون استمرار الأمر بابنه أقرب إلي الاستقرار حيث إن الابن موجود فعلا في السلطة وممارس لها وقد تشرب أسلوب الأب في القيادة، وله علاقات واسعة بذوي التأثير في الأمور، وتعتبر السلطة قد انتقلت إليه فعلا ولو بشكل غير رسمي، لكنه في ذات الوقت يدرك بحكم خبرته مدي المشكلات التي تترتب علي هذا الأمر في حالة إعلانه بشكل واضح خاصة مع ما يظهر علي السطح في الوقت الحالي من معارضة للتوريث. وهنا قد يكون الخيار - طبقا لمنهجية التفكير التي ذكرناها - بين أن يتولي الابن مقاليد الأمور طبقا للاعتبارات السابقة، أو يكون البديل أحد العسكريين الذين يحملون نفس المدرسة في التفكير، وأقربهم إلي ذلك هو السيد عمر سليمان، وقد يفاجئ الرئيس الجميع في اللحظة الأخيرة ببديل لا يخطر لأحد علي بال، لكنه يحقق اعتبارات الثبات والأمان والاستقرار كما يراها الرئيس. ومن يتأمل صور الرئيس في الصحف أو علي شاشات التليفزيون يلمح قدرا كبيرا من الرضا والارتياح، ويبدو أن الأمور محسومة وبسيطة لديه، فلا تري علي وجهه علامات قلق أو توتر، ولا تري ذلك أيضا في حركات يديه أو جسمه، فهو دائما يتحرك حركة محسوبة وهادئة وأحيانا بطيئة، مما يعطيه الفرصة لالتقاط الأنفاس، ولا يستجيب لمن يستعجله أو يضغط عليه لتغيير مواقفه أو حساباته، ولكي يحتفظ بهذه الحالة فهو يحرص علي أن تكون الأمور دائما تحت السيطرة، وأن يمسك بكل الخيوط حتي لا يفلت من حساباته شيء يقلقه، أو يهدد الاستقرار. ولهذا لا يميل إلي الحركة كثيرا أو إلي تحريك المواقف أو خلقها، وإنما يكتفي بمواجهة الآثار والتداعيات، وفي أعماق أعماقه الرغبة في العودة إلي حالة الاستقرار والهدوء في أقرب فرصة ممكنة، فهو لا يميل إلي الفعل بقدر ميله إلي رد الفعل، ولديه نزعة إطفاء الحرائق وربما امتد الأمر إلي إطفاء الجذوات حتي لا تتحول إلي حرائق في يوم ما. ولما كان للثبات والاستقرار كل هذه القيمة لديه فإنه قد ضحي بالكثير حتي يحتفظ بهما، وعاني هجوما ومعارضات واستفزازات هائلة من معارضيه كانت تهدف للضغط عليه لأخذ مواقف أو اتخاذ قرارات ساخنة أو حادة أو مؤثرة. وهو فوق هذا يميل إلي الواقعية (كما يراها) وإلي الموضوعية (كما يراها)، ولا يرغب في المواقف الدرامية، والكلمات الحماسية والشعارات البراقة. وهو يميل لتحقيق الأساسيات، ولا يصبو إلي الخيالات والأحلام والانتصارات الثقافية أو الحضارية أو التاريخية التي لا تنعكس في آخر الأمر في صورة لقمة عيش للمواطن، وربما لهذا يتحمل لوم معارضيه له بأنه قلل من دور مصر الثقافي والسياسي والحضاري، وهو لا يلتفت إلي ذلك حيث لديه قناعة بأن هذا الكلام هو من قبيل الشعارات والعنتريات التي ربما تكلف البلد الكثير وتجلب عليه الكثير من المشاكل، وربما يكون قد وعي هذا الدرس من الحقبة الناصرية التي اتسمت بقدر كبير من الأحلام والشعارات القومية الكبيرة ثم تمخضت عن هزيمة ساحقة، وأيضا من الحقبة الساداتية التي اتسمت بالتهور والحركات والقرارات والتحولات المفاجئة والعنيفة والتي أسفرت عن حالة احتقان شديدة وانتهت أو كادت تنتهي بكارثة. وقد يري الرئيس أنه كان علي حق في كل ما فكر فيه وقام به والدليل لديه هو هذه الحالة من الاستقرار التي استمرت طيلة حكمه، وهذه الحالة من السيطرة علي إيقاع المجتمع والحياة والاحتفاظ بهذا الإيقاع في الحدود الآمنة. كانت هذه هي رؤية السيد الرئيس كما تخيلناها بناء علي منهجيته في التفكير كما استقرأناها من الأحداث والمواقف علي مدي ثمانية وعشرين عاما من حكمه المديد، وقد يكون فيها بعض الصواب والكثير من الخطأ، وقد يوافقه البعض علي رؤيته (الحقيقة أو التخيلية) وقد يعارضه الكثيرون عليها، وهذه سنة الله في خلقه. السادات كان يميل للدراما والدينامية في الأحداث والإبداعية العالية في الأفكار لكن شخصية مبارك تميل إلي الثبات والاستقرار والالتزام بالقواعد