على نَوْلِها في مساءِ البلادْ تحاول رضوى نسيجاً وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ .. لكنها في مساءِ البلادْ تُريدُ نسيجاً لهذا العراء الفسيحِ وترسمُ سيفاً بكفّ المسيحِ وجلجلةً مِن عِنادْ لم يكن هناك أفضل من الحبيب ليصف زوجته، التي طالما باهى العالم بصلابتها وعنادها ووفائها الجميل .. إنها رضوى عاشور أما هو فمريد البرغوثي، وابنهما تميم ، علامات أدبية عربية خالصة ترسم لوحة الوطن . لقد كان رحيل صاحبة "ثلاثية غرناطة" فجيعة كبرى لكل المثقفين العرب، كيف تتركينا يا "مريمة" هكذا كانت أبرز شخصياتها الروائية والأقرب إليها، والتي تحكي عن سقوط الأندلس وضياع هوية العرب .. وحقيقة لم تنسلخ رضوى من هذا الشعور ما حيت، فناضلت وتحملت مشقة التكدير بالجامعة التي نادت باستقلالها، واختار لها القدر شاعرا فلسطينيا عظيما ليشكلا ثنائية عربية عابرة للحدود .. رسمت رضوى بأعمالها الأدبية صورة صادقة للغاية للتاريخ والمكان والأحداث والإنسان في المسرح العربي .. وكل أبطال روايتها كانوا باسمين متحدين واثقين ، تماما كما كانت هي .. يواصلون الحياة برغم الألم ويواجهون القمع بأسلحتهم الماكرة .. بحث الشباب عن "رضوى" في الميادين، لم يكن هناك بد، قطعت رحلتها العلاجية بأمريكا، برغم مرض السرطان النادر بالرأس وعشرات الجراحات، وحزمت الأمتعة وقفلت عائدة مع زوجها وابنها اللذان ألهبا الميدان حماسا بشعرهما ، وكانت هي تركض بين المتظاهرين في ثورة يناير المطالبة برحيل نظام مبارك ، تتناسى وهنها وقلة حيلتها وتزهو بجيل جديد استطاع كسر حاجز الخوف .. هي أستاذة جامعية قديرة، تعرف للعلم قدره، تمد يدها لكل باحث مثابر بإخلاص، مهما كلفها ذلك من مشقة. يعرفها قصر الزعفرانة ويبكيها الآن، فلطالما قصدته للدفاع عن الطلاب والمطالبة باستقلال الجامعات وحريتها كشرط لتعليم حقيقي وبحث علمي مثمر .. كانت ترفض الفوضى وترفض الشعارات الأيديولوجية الجوفاء .. فاجتمع على حبها الجميع ، ستجد بين مريديها من كان إسلاميا أو يساريا أو بين بين ، فلا بأس .. طالما أن ما ننشده واحد . قالتها ذات يوم : كن أي شيء ، لكن بشرف ! يصعب أن تجالس رضوى عاشور بغير أن تغمرك البهجة، هكذا كانت تفوح أملا وبهجة برغم ألمها .. وترى أن الحياة بغير ذلك مستحيلة .. بل ترى أن الضحكة قد تقلب المغلوب غالباً .. لذا نحتاجها كثيرا بزماننا .. ذاكرة منهمرة شكلت متلازمة الذاكرة والزمن تيمة أساسية بروايات رضوى عاشور ، تقرأ لها وهي تقول : "هل في الزمن النسيان حقا كما يقولون ؟ ليس صحيحا الزمن يجلو الذاكرة , كأنه الماء تغمر الذهب فيه , يوما أو ألف عام فتجده في قاع النهر يلتمع. لا يفسد الماء سوى المعدن الرخيص يصيب سطحه ساعة فيعلوه الصدأ.لايسقط الزمن الأصيل من حياة الإنسان يعلو موجه صحيح. يدفع إلى القاع يغمر ولكنك إذ تغوص تجد شجيرات المرجان الحمراء وحبات الؤلؤ في المحار. لا يلفظ البحر سوى الطحالب والحقير من القواقع, وغرناطة هناك كاملة التفاصيل مستقرة في القاع غارقة" ترى أن الحياة تمضي كقطار سريع يمر خطفا.. وهذا القلق الوجودي أو قل الاكتئاب أيضا الذي اعترفت به، وإن تجلى بأعمالها لكنها اخترعت أساليب لمواجهته، فتجدها بسيرتها الأخيرة "أثقل من رضوى" تقول : "الحياة في نهاية المطاف تغلب، وإن بدا غير ذلك .. والبشر راشدون مهما ارتبكوا أو اضطربوا أو تعثرت خطواتهم والنهايات ليست نهايات، لأنها تتشابك ببدايات جديدة" .. رضوى .. الأم "لكني عارف بإني ابن رضوى عاشور .. أمي اللي حَمْلَها ما ينحسب بشهور ..الحب في قلبها والحرب خيط مضفور ..تصبر على الشمس تبرد والنجوم تدفى ..ولو تسابق زمنها تسبقه ويحفى ..تكتب في كار الأمومة م الكتب ألفين .. طفلة تحمّي الغزالة وتطعم العصفور .. وتذنِّب الدهر لو يغلط بنظرة عين ... وبنظرة أو طبطبة ترضى عليه فيدور كلمات كتبها نجلها تميم البرغوثي، وحقيقة فأعمال رضوى ترى فيها نبع الأمومة المتدفق، تعلم هنات وأوجاع وهواجس الأمومة منذ سالف الدهر، لذا اعتاد الكثيرون مناداتها ب"أمي" ، لم لا وبطلات رواياتها أمهات فعلن المستحيل من أجل حياة أفضل لأبنائهن من جيل هذا الزمان العربي المنكوب .. غواية الكتابة الكتابة والتلقي عند رضوى فعل حياة، يدخلها بأعماقه، يستوعبها، يجعلها تطير من فوق أريكتها ، فهي إذن مولعة . والكتابة أيضا فعل صمود أمام الفساد . لكن مهلا .. رضوى لا تمسك الورقة والقلم فتكتب بهذه السهولة . . الكتابة عندها معايشة كاملة ودراسة لكل أبعاد المكان والزمان قد تستغرق سنوات ، قبل البدء في اقتحام أي حدث وتحويله لرواية على لسان أشخاص، فعلت ذلك في الطنطورية فأتت بالخرائط والشهادات الموثقة وترجمت وراحت وجاءت وسألت زوجها الفلسطيني وشهود عيان عما جرى بمذبحة 48 بقرية الطنطورية ثم انطلقت لروايتها الخالدة .. وفعلت ذلك قبلها حين صنعت لنا ثلاثيتها الشهيرة عن الأندلس ، فاستفادت من الوثائق والمرويات والترجمات بل وقرأت عن المطبخ في القرن الخامس عشر وبائعات الهوى ، لتجعل الزمان يحكي بنفسه ماضيه . لذا لم يكن غريبا أن تنشر رضوى أولها رواياتها وهي على مشارف الأربعين من العمر، وبعد أن حازت الدكتوراة وعرفت كناقدة أدبية وأستاذة أدب إنجليزي بارعة. وروايات رضوى تمتاز بلغة عذبة سهلة راقية ، أما الموضوعات فتتقدمها قضايا وطنية وإنسانية ولا وقت لعبث ما بعد حداثي يميع كل شيء ويجعل الجنس قضية مفروضة فرض العين.. مصر التي ركزت رضوى عاشور في عدد من أعمالها على تدهور المدنية المصرية، وتراجع الجمال وتفشي القبح، ستجد في "قطعة من أوروبا" تأريخ لمصر في نهاية العصر الملكي ، قبيل ثورة يونيو، وهي دراسة تاريخية منمقة في ثوب روائي، فهي تكتب عن عائلات أجنبية بأكملها وخديوي كان لديه هوس تحويل مصر لقطعة من أوروبا التي انبهر بها ، لكن الحفيدة ستسأل جدها : ما الذي أوصلنا لهذا ؟ وهو لا يدري كيف يجيبها ! هذا المكان شهد الحرب والثورة والاحتجاجات الشعبية وتغير كثيرا وستجد بسيرة رضوى استدعاء لميدان الثورة بامتياز، ليكون شاهدا على كل شيء، وتقول الأديبة بثقة أنها تعلم أن الثورة فعل معقد ينال أهدافه على المدى الطويل، والتشاؤم عموما فعل غير أخلاقي بنظرها .. فالنظام عادة حين يواجه بهبة شعبية رافضة يضحي بشخصيات بعينها ، يغير وزارة ، أو حتى رئيس، وربما يتغنى بثورة الشباب، ولكنه في الوقت ذاته يؤمن علاقات المنفعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الظالمة كي لا تطالها نيران الثورة . بالطبع ، ظلت مسألة التبعية لأمريكا تؤرق ضمير الأستاذة الجامعية والروائية ، وظلت تراهن على أن الأنظمة العربية لا يمكنها الخروج على المنظومة الرأسمالية الحاكمة للكوكب ! المفتاح يزين صدري عبارة تختصر القضية الفلسطينية، وظل أبطال رضوى يكررونها بملحمة الطنطورية بأنغام متنوعة، فعودة اللاجئين لبيوتهم وزيتونهم التي طردوا منها على يد عصابات الصهاينة تبدو حتمية وإن تحالفت قوى الشر ضدها .. تكتب رضوى عن جيل يأتي بالبشارة فتقول : "الصغار الذين يواجهون الدبابة في فلسطين, يفعلون عملا جنونيا, يختارون لحظة مطلقة من المعنى, والقدرة, حرية مركزة وبعدها الموت, يشترون لحظة واحدة بكل حياتهم, هذا جنون, ولكنه جنون جميل لأن اللحظة أثمن من حياة ممتدة في وحل العجز والمهانة" أدب السجون شكلت تيمة القمع ركيزة هامة في أدب عاشور، وطل السجن بقسوته بطلا بعدد من أعمالها الروائية وأشهرها "فرج" والذي تقول فيه : "تقطع الكيلومترات الخمسين من قريتها إلى الخيام، تحمل لزوجها ملابس و مأكولات، تسلمها للحارس وتعود. لا تعرف أنها منذ عامين ونصف أرملة وأن صغارها منذ عامين ونصف، أيتام" ! و تأخذنا الرواية عبر ثلاثة أجيال عانوا القهر والقمع وتجربة السجن من خلال بطلة الرواية التى اُعتقل والدها خلال عهد عبد الناصر، ومر زملاؤها ورفاقها بنفس التجربة خلال الحركة الطلابية في السبعينات ثم أخوها في بداية القرن الجديد أثناء حرب العراق. ولرضوى عمل نقدي هام بعنوان "أدب السجون في العالم العربي" ، وهكذا فقد اهتمت بالكتابة عن القيد والسجان وقراءة كل منتج أدبي في هذا المجال ، وكانت تعتبر كتابات المعتقلين صفعة على وجه سجانيهم. وأن الأدباء المسجونين صنعوا لوحة فريدة تتجاوز قدرة أي فنان فرد وإن كان بوزن بيكاسو، عمل جماعي يشهد على قدرات الإنسان على التحمل والتجاوز والانتصار رغم كل شيء. بالأمل والحب .. تقول رضوى "إنني من حزب النمل. من حزب قشة الغريق, أتشبث بها و لا أفلتها أبدا من يدي. من حزب الشاطرة التي تغزل برجل حمارة. لماذا لا أقول إننا, كل أسرتنا, لا أعني أنا و مريد و تميم وحدنا, بل تلك العائلة الممتدة من الشغيلة و الثوار و الحالمين الذين يناطحون زمانهم, من حزب العناد؟ نمقت الهزيمة, لا نقبل بها. فإن قضت علينا, نموت كالشجر واقفين, ننجز أمرين كلاهما جميل : شرف المحاولة و خبرات ثمينة, تركة نخلفها بحرص إلى القادمين . عزيزي القارئ عزيزتي القارئة, أستدرك لأنهي حديثي بالسطر التالي:هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة, ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" .. (أثقل من رضوى) "لا يمكن أن يكون الحب أعمى، لأنه هو الذي يجعلنا نبصر! هكذا عاشت وهكذا ماتت رضوى