خلصت لجنة تقصي حقائق 30 يونيو، إلى أن كيانات التيار السياسي الإسلامي أخطأت في حق المجتمع المصري عندما حاولت أن تختزله بتراثه الفكري، وتنوعه الاجتماعي، وطموحاته السياسية والاجتماعية في أيديولوجيتها الجامدة المختلف عليها حتى بين تيار الفكر السياسي الإسلامي ذاته. وأشارت لجنة تقصي الحقائق، خلال مؤتمر عقدته اليوم بمقر مجلس الشورى، إلى أن الجماعة أخطأت عندما اختزلت مفهوم الديمقراطية في نتائج "غزوة الصناديق" على نحو ما أطلقوه على الانتخابات النيابية، وتجاهلت كل الجوانب الأخرى لمفهوم الديمقراطية من مبادئ وإجراءات ومؤسسات لا تكتمل بغيرها شرعية الانتخابات مثل تمثيل الرأي الآخر، وإدارة الصراعات بالوسائل الديمقراطية، خاصة أن شرعية صناديق الانتخاب تتجاذبها في المراحل الانتقالية شرعيات متعددة مثل "الشرعية الثورية" و "شرعية الانجاز"و "شرعية التوافق الوطني" فيما يظل المكون الجوهري للشرعية في أعمق معانيه هو رضاء الناس، وفقا لما ذكرته وكالة أنباء الشرق الأوسط. وأضافت اللجنة أن الجماعات أخطأت أيضا عندما عصفت بسيادة حكم القانون وحراسه من قضاء دستوري وعادي وإداري على نحو غير مسبوق ، فحاصرت المحكمة الدستورية لإعاقة قضاتها عن النظر في دستورية قانون انتخابات مجلس الشورى، وتعدت على أحكامها بحل مجلس الشعب، بسبب عدم دستورية قانون انتخابه، وأطاحت بالنائب العام، وسعت إلى إقرار قانون للسلطة القضائية يفضى إلى إنهاء خدمة حوالي 3 ألاف قاض ، وعصفت بأحكام قضائية باتة وملزمة بإطلاق سراح سجناء مدانين بجرائم إرهابية. وناصبت جماعة الإخوان العداء لكل من القوات المسلحة والشرطة والإعلام والأزهر والكنيسة والمؤسسات الثقافية والأحزاب السياسية المدنية. وعندما جاءت لحظة مواجهة الحقيقة بمظاهر تحول المجتمع عن الجماعة، وتصعيد مطالبه بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو إجراء استفتاء يفصل في شرعية الحكم من جديد، عجزت عن رؤية هذه التحولات، فقللت من شأن مظاهرها، واستهانت بالمهلة التي حددتها القوات المسلحة لكل الأطراف للحيلولة دون اندلاع أعمال عنف واسعة النطاق، وبالمثل المهلة الإضافية التي مددتها. ثم جاء الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه عندما اختارت المواجهة بدلا من الحوار برفض الدكتور سعد الكتاتني رئيس حزب الحرية والعدالة الدعوة للمشاركة في وضع خارطة المستقبل مع غيره من القوى السياسية والاجتماعية يوم 3 يوليو 2013، وبدلا من ذلك حشدت قواها وحلفاءها، وانتهجت سياسية "الأرض المحروقة" في الداخل والاستقواء بالخارج، فخسرت في الأولى عطف المترددين، وسلكت في الثانية مسلكاً خاطئاً، حتى أوشكت البلاد أن تنجرف إلى حرب أهلية. لكن يثور السؤال عما إذا كانت جماعات التيار السياسي الإسلامي وحدها المسئولة عما آلت إليه الأمور و الواقع أن هذا السؤال يظل في أحسن الفروض "سؤالاً استنكاريا" إذ يتحمل المجتمع والسلطة الانتقالية بدرجات متفاوتة مسئولية ما آلت إليه الأمور حتى نشبت ثورة 30 يونيو 2013. فالشباب الذي فجر ثورة يناير 2011 لإسقاط حكم استبدادي، ولم يبخل بحياته وسلامته البدنية وحريته، ونجح في حشد المجتمع المصري من ورائه لإنجاز مطالب المجتمع في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لم يستطع هذا الشباب أن ينظم صفوفه للمساهمة في بناء النظام الجديد، وانصرف إلى النزاعات الأيديولوجية التي تؤجج الخلافات بدلا من التوحد حول التوافقات العريضة على المطالب العامة للمجتمع، واستسلم لنزاعات الزعامة. بينما يحسب للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير طنطاوي انحيازه إلى مطلب الجماهير في التغيير وتجنيب البلاد مواجهات دامية، فقد غلّب قيمة استعادة الاستقرار على مطالب المجتمع، مما ترتب عليه ترجيح كفة الإخوان الفريق السياسي الأكثر تنظيما على الساحة السياسية في إدارة الدولة، فضم في أول قرار اتخذه بتشكيل لجنة تعديل الدستور أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين ومعه فريق من مناصريهم. كما انساق في الإعلان الدستوري الذي أجرى الاستفتاء عليه في 30 مارس 2011 لرؤية الإخوان في تراتبية المسار السياسي فيما اصطلح على تسميته "خريطة الطريق لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة" بالبدء في بناء المؤسسات وإجراء الانتخابات النيابية قبل وضع الدستور، وأدى إلى تشكيل برلمان أغلبه من الإخوان وحلفائهم، كما ترك الإعلان الدستوري النظام السياسي مفتوحا دون توجيه، وأوكل لمجلسي الشعب والشورى انتخاب الجمعية التأسيسية دون وضع المعايير الواجبة في هذا التشكيل، وهو المدخل الذي فرضت من خلاله الجماعة هيمنتها على هذه الجمعية، وإعداد دستور إقصائي عام 2012. وبينما استفادت الأحزاب السياسية من مناخ الحرية الذي أطلقته ثورة 25 يناير وقانون الأحزاب الجديد، فازدهر تأسيسها حتى زادت أعدادها على ستين حزبا آنذاك، فقد أخفقت في تقدير قدراتها التنافسية، واستهان بعضها بإمكانات منافسيه من الأحزاب ذات المرجعية الدينية، وتباينت رؤاها في خوض الانتخابات، فالتحق بعضها بتحالفات انتخابية مع الجماعة، وغلَب بعضها الآخر التنافسات الانتخابية على العمل الجبهوي، فأضاعت فرصة نادرة في بلوغ تمثيل قوي في مجلسي الشعب والشورى، وتفاقم المشهد في الانتخابات الرئاسية. ولم يستطع الاتحاد العام للعمال الذي كان قانونه قد أسسه لكبح الاحتجاجات العمالية والمفاوضة الجماعية استيعاب الاحتجاجات العمالية، وانصرف إلى منازعة القوى العمالية الصاعدة المتمثلة في النقابات المستقلة التي انتشرت في كافة القطاعات العمالية، فعجز عن الدور الذي لعبه نظيره في تونس- الإتحاد التونسي للشغل- في تأطير الحركة العمالية وتأثيره السياسي. وانطلقت المطالب العمالية المشروع منها والانتهازي بغير سقف، ففاقت قدرات الدولة، وعطلت الكثير من المصالح الحيوية للمجتمع، وشابتها في بعض الأحيان مظاهر عنف، وتعددت مشروعات الاتحاد العام للعمال والنقابات المستقلة لتطوير قانون العمل، فأخفقت في تمريره في المرحلة الانتقالية الأولى. ويكمن وراء هذه الإخفاقات المشار إليها عدد من الإشكاليات الجسيمة الموروثة والمستجدة يمكن إجمالها في الدمج بين الدين والسياسة، وهو أمر أساء لقداسة الدين وأفشل السياسة معا، فالدين مطلق يقوم على اليقين، والسياسة نسبية ومتغيرة ،و انسحاب الدولة المتوالي من أهم وظائفها الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة العامة والرعاية الاجتماعية مما أتاح الفرصة أمام جماعات" الإسلام السياسي" للحلول محلها ، وتعميق أيديولوجيتها الإقصائيه وإشاعة التعصب. كما تشمل تلك الإشكاليات النتاج الهدام لسياسة إضعاف المؤسسات الحزبية والنقابية بشقيها المهني والعمالي وتقييد منظمات المجتمع المدني التي اتبعها النظام الأسبق والتي أدت إلى تجريف الحياة السياسية وعجز هذه المؤسسات عن تأطير المجتمع وتنمية الوعي السياسي ، فضلا عن إضعاف قدراتها التنافسية ، و غياب الشفافية، وعدم إتاحة المعلومات مما أضعف سياسات التخطيط الاقتصادي والاجتماعي وغرس الشكوك في سياسات الدولة وأتاح مناخا خصبا للشائعات. وشملت أيضا إتباع نمط مشوه في التنمية يقوم على النمو الاقتصادي بدلا من التنمية، وتجاهل التوازنات الضرورية التي تنتهجها الدول الراسخة في الاقتصاد الحر بالضمانات القانونية والاجتماعية مما أدى إلى اختلافات اجتماعية عميقة مثل توسيع الفجوة بين الطبقات، وتضخم القطاع غير النظامي، وتراكم المديونية، وتفاقم التهميش وانتشار العشوائيات ، و تفشي الفساد واتخاذه طابعا منهجيا، وتأثيره في حرمان قطاعات عريضة من المجتمع من السلع والخدمات العامة الأساسية فضلاً عن السلع الضرورية ، بالإضافة إلى شيوع آفة التمييز والمحسوبية وغيرها من المفاهيم السلبية التي تهدر على حقوق المواطنة. كما تضمنت الإشكاليات ترهل بيروقراطية الدولة وإدارة الحكم المحلي، وإهمال تطوير قوانينها ولوائحها، مما أدى إلى تحول كثير من القطاعات الحكومية إلى عبء على سياسات الدولة العليا بدلا من دورها كأداة لتنفيذ هذه السياسات ، و استسهال الحلول الأمنية في المشكلات الفنية المتخصصة بدلا من مواجهتها بحلول سياسية واقتصادية واجتماعية مما أثر على وظيفة أجهزة الأمن ووضعها في مواجهات مستمرة مع المواطنين. وورثت جمهورية 25 يناير -30 يونيو هذا العبء، كما ورثت معه 3 إشكاليات إضافية ،أولها: تحدى مواجهة الإرهاب الذي استفحل في أعقاب أحداث 30 يونيو 2013، وأفضى إلي سقوط مئات من القتلى، وآلاف من المصابين من المدنيين وضباط وجنود الشرطة والجيش ،و ثانيها: ميراث ثلاثين عاما من الإهمال العميق للبنية الأساسية والمرافق العامة في البلاد من تعليم وصحة وإسكان ومياه صالحة للشرب وفرص عمل وضمان اجتماعي وتوقف مئات المصانع عن العمل، والاعتداء المتواصل والفج على الرقعة الزراعية وهو ما كشفت عنه سلسلة الأحداث المأساوية التي تعرضت لها البلاد. أما ثالثها دخول البلاد مستوى العجز المائي وتفاقم المشاكل البيئية، والإدارة القاصرة للنظامين السابق والأسبق في التعامل مع هذه المشاكل مما فاقم منها مثل مشكلة سد النهضة. وتفرز هذه الإشكاليات في مجملها تحديين رئيسيين أولهما تحديد الأولويات بالفصل بين المطالب المشروعة، وثانيهما استحقاقات الحد الأدنى من العيش الكريم. وحسم دستور 2014 العديد من التوجهات حيال هذه القضايا بحظر التمييز والحض على الكراهية وتجريمه وتكريس مفهوم المواطنة، وتأكيد حرية الفكر والاعتقاد، وتعزيز الحريات العامة والتأكيد على العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الأولى بالرعاية، وغيرها من "القيم المظلة " لمبادئ حقوق الإنسان، بيد أنه أحال تنظيم 80 مبدأ دستوريا للقانون، مما ينقل عبء المحافظة عليها للمجالس التمثيلية و القضاء والسياسات العامة للدولة. وتقودنا الدروس المستفادة من خبرة التجربة السابقة التي مرت بها البلاد إلى اقتراح عدد من السياسات الكلية للسلطة الوطنية جنبا إلى جنب مع التوصيات التفصيلية التي تبناها تقرير اللجنة القومية المستقلة لتقصى الحقائق في مواجهة الإشكاليات التي عبرت عنها الملفات التي عالجتها. و يأتي في صدارة هذه الأولويات استكمال خارطة المستقبل بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدد حتى يتسنى للمجتمع أن يسهم في صياغة مستقبله، ودعم دوره الرقابي على أداء السلطة التنفيذية ، وترسيخ دعائم دولة القانون، ومراعاة المعايير الدولية للعدالة الجنائية من خلال عقد المؤتمر الثاني للعدالة بهدف إجراء الإصلاحات التشريعية المنشودة بعد التوقف المؤقت الطويل الذي أعقب المؤتمر الأول في نهاية الثمانينات. كما تشمل الأولويات دعم استقلال المؤسسات الوطنية والمجالس القومية المتخصصة، وصلاحياتها وإلزام أجهزة الدولة بإتاحة المعلومات اللازمة لأداء مهامها، والتجاوب الفعال مع الشكاوى التي تحيلها إلى أجهزة الدولة ،و سرعة إنشاء المفوضية المستقلة لمنع التمييز والحض على الكراهية التي نص عليها الدستور، وإعادة النظر في تأسيس مفوضية مستقلة لمكافحة الفساد والتي سبق النص عليها في دستور 2012 المعدل امتثالاً لمبدأ مكافحة الفساد وتجاوزها دستور 2014 رغم إبقائه على المبدأ، ورغم ما أثبتته الدروس المستفادة من الحاجة إليها. وبينما تتابع الدولة التزاماتها الوطنية والدولية لمكافحة الإرهاب، ينبغي النظر في تأسيس مرصد لتعزيز احترام حقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب، ينبه أجهزة الدولة للأعراض الجانبية لمكافحة الإرهاب، ويقترح الإجراءات المناسبة لتلافيها وجبر الأضرار التي تقع على المضارين، ويمكن أن يتبع هذا المرصد الأمانة العامة لمجلس الدفاع الوطني أو أمانة مجلس الوزراء أو مجلس الأمن القومي.