فى كل لحظة أعيشها ..وفى كل خطوة أخطوها..يتغير مفهومي تجاه الحياة, ففى طفولتي كانت أثقل همومي هى خوفى من "الأستاذ أو الأبله" فى المدرسة أو رفض أمي الذهاب للعب مع رفاقي..وأعترف إنني كرهت طفولتي كثيراً عندما كنت أرى رفاقى يكتبون باليد اليمنى..وأنا وحدى من تكتب باليسرى. فقد كنت فتاه مرهفة الحس..تبكى من أقل شئ..وأتذكر شعوري بالظلم لأول وهلة فى حياتى..عندما كنت ألعب مع "ابن الجيران" فى الشارع ,بجانب عجلة جارنا"عم حميدو" وكانت هذه العجلة محكمة بصندوق من حديد..وكان يوجد على الأرض "قلة مكسورة" نلعب ببقاياها فى الطين كعادة الأطفال.. وإذا بهذا الصبي يتهيأ للوقوف..فاصطدمت رأسه بطرف الصندوق الحديد بقوة شديدة..فارتفع صراخه حتى ملأ أنحاء الشارع ..وأخذ يعدو ناحية منزله...وهو يصرخ لكى يستنجد بأمه, وأنا مازلت واقفة مكانى مذعورة...عندما رأيت الدماء تسيل من رأسه..وعندما اختفى الصبي..أسرعت بالدخول إلى العمارة التى كنا نقطن فيها.. وأول ما فعلته عندما عبرت باب الشقة اختبأت "تحت السرير" ولا أعلم لما اختبأت وأنا لم أفعل شئ!!! إنه من اصطدم بالصندوق ولستُ أنا من صدمته به..وبعد لحظات سمعت أصوات ضجيج عالية.....آتيه من ناحية باب الشقة وإذا بوالدة الصبى تطرق باب شقتنا... فقد كانت امرأة ضخمة البنيان..غليظة الصوت.. ثم قالت لأمي: "ينفع كده بنتك الصغيرة تفتح دماغ الواد بالقلة ويجى سايح فى دمه", وأنا مازلت مختبئة "تحت السرير" أسمع دقات قلبى المضطربة من شدة الخوف!! وعندما غادرت والدة الصبي الشقة..كان عقاب أمي لي هو تحدثها معى بعنف وقسوة قائلة: "فتحتى دماغ الواد ليه؟؟" وفى الحقيقة كانت أمى فى غاية الدهشة عندما عرفت ذلك,فهي تعلم أننى فتاه مطيعة وهادئة بطبعي وأكره الاذى لاى أحد..فكيف فعلت ذلك؟! وحينها شعرت بالعجز ...فلا أعلم لما لم أدافع عن نفسى وقتها والتزمت الصمت!! ومازالت أسرتي حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها تدرك "أنني من كسرت القلة على دماغ الصبي" ولكن قلمي قد أعتاد أن يفصح عما بداخل قلبي..وها هو يفعل الآن وبعد أن قابلت ذلك الطفل أدركت أن قد أخطأت عندما كرهت طفولتى يوماً ما.. فقد كان جالساً على الأرض فى إحدى محطات المترو..وأمامه قماشة بيضاء فوقها "مناديل" ثم تقدمت نحوه سائلة:- ما أسمك؟؟ فأجاب.."نادر خليل" فقلت له..أزيك يا نادر فأجاب.."الحمد لله كويس" ثم سألته: كم عمرك؟؟ فأجاب..."12 عاماً" فقلت له:فى أى سنة أنت فى المدرسة؟؟ فقال.."أنا ما دخلتش المدرسة خالص" فقلت: لماذا؟؟....فقال لى "أبويا ماقدمش ليا فى المدرسة" ثم سألته: وما الذى جعلك تخرج لبيع المناديل ومازلت طفلا صغيراً؟؟....فأجابنى: "عشان أصرف على أخواتي" وحينها شعرت أننى أتحدث إلى رجلاً ناضجاً...يسعى لكى يكفى احتياجات زوجته وأولاده وظننت أنه يتيم الأب والظروف قد أجبرته على الخروج لبيع المناديل... ومن هنا وجهت سؤالى: هل والدك على قيد الحياة؟؟.. واندهشت عندما قال لى "نعم" واستمررت فى حديثى قائلة:ولماذا لا يعمل هو ؟؟ فقال: "أصل ابويا بقاله كتير مش بيشتغل عشان تعبان..هو كان شغال فى الجبس والأسمنت وجاله تعب فى صدره..وكمان هو بيشرب سجاير..لقى نفسه تعب قعد فى البيت" ثم سألته: وهل هو من أمرك ببيع المناديل؟؟ فقال" لا أنا اللي نزلت أبيع من نفسى عشان اصرف على أخواتي" فقلت له: هل والدتك موجودة؟؟...فقال: "نعم" "فهى تعمل بائعة ذرة..وزى ما أنتي عارفة الشغلانة دى مش بتكسب كتير" ثم سألته: هل لديك أشقاء؟؟..فأجاب.."عندى زينب أصغر منى كانت بتبيع معايا وبطلت تيجى وديحة وفرحه وبهجت..وأنا اكبر واحد فيهم " فقلت له: ما المبلغ الذى تحصل عليه من بيع المناديل في اليوم؟؟ فأجاب"30 أو 35 جنيه" وكان سؤالي الأخير لنادر... ما هى أمنيتك فى الحياة؟؟ فأجابني: "نفسي أروح المدرسة أوى...أنا ليا ابن خالي أمه بتوديه المدرسة وهو مش عايز يروح" وهنا أدركت إحساس نادر بالنقص بسبب عدم التحاقه بالمدرسة كباقي الأطفال.. هكذا رأيت طفولة "نادر" كالماء الذي انحدر على لوح رخام مائل لم تتعلق به قطرة ماء واحدة!! ومازلت أنا أرى طفولتي "كفتات الأرز الذي يشقى به العمش وأنصاف العمى"