الحج تعبير بالفعل عن حب الخالق ويتجسد به معنى التوحيد ثياب الإحرام رمز الوحدة الكبرى بين الأجناس تقبيل الحجر الأسود هو تزود من غائب..والنحر ذبح للشهوات "اليوم الجمعة الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات..الجبل مزروع بالخيام..مليون وخمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض..لا تعرف الواحد من الآخر..لا تعرف من الفقير ومن الغني..اختفت الجنسيات..واختفت الأزياء المميزة واختفت اللغات..الكل يلهج بلسان واحد..تستطيع أن تفهم من الجميع وتستطيع أن تسمع أنهم يهتفون..لبيك اللهم لبيك". هكذا يصف د.مصطفى محمود المشهد حين ذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام في كتابه "الطريق إلى الكعبة"، الصادر عن دار "العودة" ببيروت. سر ثياب الإحرام سألني صديقي وهو رجل كثير الشك: وما السر في ثياب الإحرام البيضاء وضرورة لبسها على اللحم وتحريم لبس المخيط..وما معنى رجم إبليس والطواف حول الكعبة..ألا ترى معي أنها بقايا وثنية؟. قلت له: أنت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حباً عذرياً أفلاطونياً وإنما تريد أن تعبر عن حبك بالفعل بالقبلة والعناق واللقاء..وبالمثل من يسعى إلى الله بعقله وقلبه..يقول له الله أن هذا لا يكفي..لابد أن تسعى على قدميك، والحج والطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعوراً وقولاً وفعلاً. وهنا معنى التوحيد. أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس ويتساوى فيها الفقير والغني..ونحن نلبسها على اللحم كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد وكما سوف يحدث حينما نغادره بالموت..جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم ونخرج من الدنيا بذات اللفة. هي رمز التجرد لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد ولهذا قال الله لموسى: "اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى" هو التجرد المناسب لجلال الموقف. وهذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية ولقاء مع الخالق. فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية أما أمام الله فنحن لا شئ ..لا نكاد نساوي شيئاً. وعلينا أن نخلع كل ثياب الغرور وكل الزينة. قال صديقي في خبث: ورجم إبليس؟ قلت: أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول وتلقي خطبة لتحيته..هل أنت وثني؟ لماذا تعتبرني وثنياً إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر ولعنته..إنها نفس الفكرة. كلها رمزيات، أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز وأنه ليس جندياً، وأنا أعلم أيضاً أن هذا التمثال رمز وأنه ليس الشيطان، وبالمثل السعي بين الصفا والمروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل وأمه هاجر..هي إحياء ذكرى عزيزة ويوم لا ينسى في حياة النبي والجد إسماعيل وأمه المصرية هاجر. وجميع شعائر ديانتنا ليست طقوساً كهنوتية بالمعنى المعروف، وإنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور والتي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها. إنها وسيلة لخلق إنسان موحد..قوله هو فعله..فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحاً شفوياً باللسان وإنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرماً حقيقياً..هل هذه الحركة وثنية أو طقساً كهنوتياً. وبهذا المعنى شعائر الإسلام ليست شعائر وإنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني. ولهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس وبلا كهنوت وبلا كهنة. يواصل محمود: ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة ويركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب ولا مآذن ولا قباب ولا منابر ولا سجاجيد ولا سقوف منقوشة بالذهب ولا جدران من المرمر والرخام..لا شئ سوى العراء.ونحن عراء.ونفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء. وسكت صديقي وارتفعت أصوات التلبية من مليون وخمسمائة ألف حنجرة..لبيك اللهم لبيك..لبيك لا شريك لك لبيك. وما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات. على قبر سيد البشر الطريق نزولاً من عرفة كيوم الحشر..هذا المد البشري الذي يسمونه "النفرة" يتم في هدوء ودون حادث واحد ودون مشاجرة. وهو أمر لا تفسير له إلا أن المشاعر الدينية الفياضة تضع الناس في حالة لياقة نفسية تامة..الكل ترفعهم مشاعرهم الدينية إلى أقصى درجة من المسئولية والصبر والتحمل والتراحم والتعاون والمحبة فيحققون هذه المعجزة المرورية دون حادث واحد..ولولا هذا الشعور الديني المهيمن لكان يمكن أن تكون هذه النفرة مجزرة ومذبحة بشرية تتلاحم فيها الأذرع في ألف مشاجرة ومشاجرة. ومن جبل عرفة إلى مزدلفة حيث يصلي الناس العشاء مكان صلاة النبي في المشعر الحرام ثم ينزلون إلى منى لرمي الجمرات ثم يختمون مراسم الحج بطواف الكعبة. ولم يكن يشغلني بعد ختام الحج سوى شئ واحد هو زيارة قبر الرسول..ذلك الرجل الأمي الشريف البسيط الصادق الأمين، والحق أن صورة النبي لم تبرح خاطري منذ وضعت قدمي في مكة..كنت أحاول أن أرسم له صورة في خيالي..أن أتخيل ابتسامته وخطوته ونبرة صوته. والمسافر يمر على معالم تاريخية شقت لها مكاناً في قلوب الناس وحفرت أسماءها في قصة ظهور الإسلام التي تعددت فصولاً. هذه قرية بدر حيث واقعة بدر الشهيرة..نمر عليها بعد خمس ساعات من السفر..و إلى جوارها مقبرة القليب حيث دفنت قريش المهزومة قتلاها. وهنا مكان العريش الذي بناه المسلمون للنبي ليقود منه المعركة. هذه بدر العظيمة..وهذه شعابها..وبطاحها ورمالها وترابها. وندخل المدينة فنمر بجبل أحد. يحكي المؤلف تاريخ بقعة أخرى..هذا التل الصغير هو "جبل الرماة" حيث أوصى النبي الرماة أن يرابطوا لحماية ظهر الجيش المهاجم. وهنا كانت رحى الحرب تدور بين سبعمائة من المسلمين وثلاثة آلاف من قريش. ونتجاوز جبل أحد لنصعد على اكمة حيث عدة تعاريش كان يصلي فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وتعرف الآن بمساجد الصحابة. ثم ننزل الوادي إلى حيث مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام ثم نبلغ قلب المدينة حيث قبر الرسول وحيث يسجى الجسد الطاهر في نفس البقعة التي مات فيها في بيته وغرفته.وإلى جواره أبو بكر وعمر. هذا إذاً محمد ونحن في غرفته ومن هذا الباب كانيأتيه جبريل. وفي هذا المحراب كان يصلي. وعلى هذه البقعة كان يسجد. سلام على محمد. سلام على سيد البشر يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً. الهجرة إلى بيت الله قد يسأل سائل: لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج..ولماذا هذه الهجرة المضنية..والله معنا في كل مكان..بل هو أقرب إلينا من حب الوريد..وهو القائل أنه "قريب مجيب الدعوات" بل أن قربه هو منتهى القرب..فما الداعي إلى سفر وارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها..وهو القريب منا قرب الدم من أجسادنا. يجيب مصطفى محمود: السؤال وجيه. والحقيقة أن الله قريب منا بالفعل وأقرب إلينا من الدم في أجسادنا ولكننا مشغولون على الدوام بغيره. إنه لاي قيم دوننا الحجب ولكننا نحن الذين نقيم هذه الحخجب. نفوسنا بشواغلها وهمومها وأهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات. وعقولنا تضرب حولنا نطاقاً من الغرور..وكبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر ثم العمى..فلا نعود نرى أو نحس بشئ سوى نفوسنا..وهذا هو البعد رغم القرب. والهجرة على القدمين وتكبد المشقات والنفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل وتفريغ القلب لذكر خالقه ولإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله. ومن هنا كانت كلمة "عرفة"..فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ على "معرفة" فهو يتعرف على ربه ويكتشف قربه و"يتعرف" على نفسه ويكتشف بعدها. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم: "نعم اليوم يوم عرفة لأن أهل الأرض يعرفهم أهل السماء" هي إذاً معرفة شاملة من كل الوجوه. وحينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة..وإذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه سوف يدع الذنوب ظاهرة وباطنة وسوف يكف عن منازعته في أمر قدره وقضائه لأنه اكتشف كامل عدله وحكمته. وبعد العلم يكون العمل على مقتضى التوحيد وهذا هو الدين. قل: لا إله إلا الله واستقم على معناها. وهذه هي رحلة الهجرة إلى الله..والحج والصلاة والصيام صورتها البدنية. والحج في معناه خروج. خروج من أسمائنا إلى أسماء الله. وخروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به. وخروج من العبودية للأسباب "المال والولد والأرض والعقار والمنصب والسلطة والنفوذ والجاه" إلى عبودية له وحده باعتباره سبب الأسباب. هكذا يقطع المهاجر إلى الله مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى الميقات فيفنى عن نفسه ويموت عن صفاته ويصبح حاله في الظاهر والباطن حال من يحيا بالله وحينئذ يحق عليه الغسل ولبس ثوب الإحرام على العري فهذا هو ثوب الميت المولود.. وهو ثوب من قطعتين رمزاً لستر العورة الظاهرة وستر العورة الباطنة التي لا يراها إلا الله..ومن هنا كانت الخرقتين الرمزيتين. أما النحر والذبح فهو في حقيقته ذبح للنفس ورغباتها وشهواتها وأهوائها..وقد افتدى الله النفس بذبح الضحية..فتضحي ببعض مالك رمزاً لقتل شهواتك وهوى نفسك. أما تقبيل الحجر الأسود فهو تزود من غائب فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي شفتيه. والذي يسأل لماذا يكون الطواف سبعة أشواط والرجم سبع حصوات..نقول له ولماذا لا يكتمل نمو الجنين إلا في الشهر السابع ولماذا يولد ميتاً إذا نزل قبل السابع ولماذا تكتمل النوتة الموسيقية بالدرجة السابعة فلا تكون النوتة الأعلى بعد ذلك إلا جواباً للنوتة الأولى. إنه سر في بناء الكون المادي والروحي إنه سباعي التكوين وأن السبعة هي درجة الاستواء والتمام. والنفس البشرية بالمثل سبع درجات. أسفلها النفس الأمارة ثم تليها النفس اللوامة ثم النفس الملهمة ثم النفس المطمئنة ثم النفس الراضية ثم النفس المرضية ثم للنفس الكاملة. ولهذا يكون الطواف سبعة أشواط والرجم سبع حصوات والسعي سبع مرات عن الأنفس السبع. والسعي بين الصفا والمروة هو رمز لتاريخ الوجود بين المحو والإثبات..في البداية كان الصفا. كان الله ولا شئ معه..الخواء والمحو المطلق. كان الأزل وما سبق لنا في علم الله قبل أن نوجد وقبل أن يخلق الزمان. ثم كانت المروة حينما نبع الماء..وخلق الزمان وتدفق الوجود وقامت الحياة. والسعي بين الصفا والمروة هو شهود الفضل في الحالين..وهو الانتقال من الحقيقة إلى الشريعة للجمع بينهما في القلب. وحينما يحلق الحاج رأسه يحلق الكبرياء عن عقله..فهو يعلم أن الكنز الحقيقي الذي يستحق أن يجهد في تحصيله هو كنز البراءة..البراءة من الحول والطول والقوة والغرور والكبرياء..لا حول ولا قوة إلا بالله هي الكنز.