من الموضوعات ذات الأهمية في ثورات الربيع العربي موضوع معالجة العلاقات المدنية العسكرية في مرحلة ما بعد اسقاط النظام القديم. فنظرا لطبيعة المنطقة العربية الجيواسترتيجية واستهدافها من قبل الصهيونية وحلفائها الغربيين، فضلا عن ضعف النخب السياسية المحلية وشخصنة الحياة السياسية والحزبية، فقد شهدث عدة دول عربية في مرحلة ما بعد الإستعمار عمليات تسييس للمؤسسة العسكرية انتهت إلى تحكم هذه المؤسسة في مقاليد الأمور بشكل مباشر أو غير مباشر منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي وتطلع الشعوب العربية إلى نظم حكم ديمقراطية تقوم على حكم القانون والمؤسسات والمواطنة، وتحترم حريات الإنسان وكرامته، وتضع سياسات تنموية حقيقية تستفيد منها الطبقات الفقيرة قبل الميسورة، ظهرت إشكالية جديدة قوامها: كيفية معالجة موقع المؤسسة العسكرية في النظام الديمقراطي المنشود في ظل تعاظم دور المؤسسة العسكرية، ومعها المؤسسات الأمنية والمخابراتية الأخرى، لكن دون تعريض البلاد إلى خطر التقسيم في الداخل أو الإستهداف من الخارج. هذه إشكالية حقيقية بالنظر إلى أن هناك جيوش تسيطر على أجزاء ليست باليسيرة من الاقتصاد الوطني، كما أن هناك جيوش ذات طبيعة طائفية أو قبلية. هذا ناهيك عن العلاقات المميزة التي ربطت بعض قيادات هذه الجيوش بالدول التي تقدم لها السلاح والتدريب والتمويل. وفي ظل التوتر القائم منذ عقود فيما يخص الصراع العربي الصهيوني ووجود دولتين رئيسيتين على الحدود مع فلسطينالمحتلة من دول الربيع العربي، فإن الأمور تزداد تعقيدا. تهتم هذه المقالة بمسألة معالجة العلاقات المدنية العسكرية في الدول التي تشهد تغييرًا جذريًا في أنظمتها السياسية نحو الديمقراطية، وتحاول، بنظرة مقارنة، تقديم عدة دروس وعبر مستمدة من حالات التحول الديمقراطي التي تمت في العقود الأربعة الأخيرة. ولتحقيق هذا الغرض تتضمن المقالة موضوعات ثلاثة رئيسية، هي: التمييز بين عدد من المفاهيم ذات الصلة بالانتقال إلى الديمقراطية، العلاقات المدنية العسكرية في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، العلاقات المدنية العسكرية في مرحلة التحول الديمقراطي وترسيخ نظام الحكم الديمقراطي. أولا: التمييز بين المفاهيم الرئيسية للتحول إلى الديمقراطية: في الحالات التي شهدت تحولا سياسيا نحو الديمقراطية يتم التمييز عادة بين عدد من المفاهيم. أولها الإنتقال الديمقراطي (democratic transition)، والذي يشير إلى تحويل السلطة من يد الحكام المطلقين إلى حكومة ديمقراطية منتخبة، أي اجتياز المسافة الفاصلة (threshold) بين أنظمة الحكم غير الديمقراطي وأنظمة الحكم الديمقراطي. وعادة ما يتحقق الانتقال بعد انهيار النظام القديم، وتوافق القوى السياسية على اختيار النظام الديمقراطي الجديد بمؤسساته وإجراءاته وضماناته المتعارف عليها. في هذه الحالة لا يتخلص النظام الديمقراطي الوليد من كل المشكلات التي كانت قائمة قبل الانتقال مثل تجاوزات العلمية الانتخابية، أو انخفاض الوعي السياسي، أو تخلف الوسائل الإعلامية، أو بالطبع نفوذ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. يلي ذلك عملية التحول الديمقراطي (democratic transformation) – وهي عملية ممتدة بمراحل متعددة تختلف أبعادها من دولة إلى أخرى، وقد تشتمل على عمليات مرتدة تعمل في الإتجاه المعاكس، وتنتهي (في حالة النجاح) إلى حالة جديدة هي ترسيخ قواعد النظام الديمقراطي (democratic consolidation)، بمعنى الحالة التي يمكن معها القول، بقدر كبير من الثقة، أنه لا خطر على النظام الديمقراطي لا من الجيش ولا من الأحزاب ولا من الجماهير ولا من الخارج. إنها الحالة التي توصف معها النظم الديمقراطية بأنها نظم راسخة (consolidated or established democracy). وتتصل هذه الحالة الأخيرة بمؤشرات مختلفة تختلف من حالة إلى أخرى، أبرزها وجود اجماع معقول بين النخب والجماهير على الديمقراطية وقواعد اللعبة الديمقراطية كمبدأ وليس كإجراء، وكذا مشاركة واسعة للناخبين في الانتخابات، واقتناع كل القوى السياسية الرئيسية بأنه لا بديل عن العملية الديمقراطية لتسوية الصراعات السياسية، وعدم وجود مؤسسة ما أو جهة قادرة على أن تتدعي لنفسها حق الإعتراض على قرارت وسياسات صناع القرار المنتخبين كالمؤسسة العسكرية أو الدينية، وشيوع الثقافة الديمقراطية وسط الشعب وغير ذلك. وتختلف عملية ترسيخ الديمقراطية عن إستقرار النظام. فقد يستقر النظام دون أن يتم ترسيخ الديمقراطية كما في روسيا وأكرانيا وفنزويلا، وقد لا يقترن ترسيخ الديمقراطية بالإستقرار، فقد يقوم نظام ديمقراطي من نوع ما لكن مع استبعاد الأقليات كما في جنوب أفريقيا تحت الحكم العنصري والكيان الإسرائيلي منذ نشأته وحتى اليوم.