بوجبر : تعتيم محير على التراث المناهض للصهيونية .. والتنوير المصري زائف العادلي : محامي مجرم صهيوني جعل القوة مصدر الحق ! الدولة الحداثية تظهر ك"إله بلا قيم".. والبشر مجرد سلعة المترجم يتذكر إسهامات المسيري .. وزيف رواد التنوير في مصر أولبرايت اعتبرت مقتل أطفال العراق "ضرر لا يمكن تفاديه" .. عين الحداثة! هبة رؤوف لمحيط : لست الأفضل والأطهر .. نصيحة لمن يريد نموذج إسلامي فاعل هل كانت جريمة حين خرج عالم اجتماع يهودي بارز يدعى "زيجمونت باومان" ليسلط الضوء على الهولوكست أو أفران الحرق النازية لليهود باعتبارها أول تعبير عن فكر الإبادة الكامن في مشروع الحداثة الغربي، والذي تحول من مشروع يستند إلي مركزية الإنسان في الكون إلي مشروعٍ معادٍ للإنسان. وبذلك فقد أفرغ الرجل قضية الهولوكست من إطارها السياسي الذي استغله الكيان الصهيوني "إسرائيل" وجماعات الضغط التابعة له لابتزاز أوروبا ماديا وأدبيا بدعوى جرائمها إبان الحرب العالمية الثانية !. لكن العالم الغربي يغض الطرف عن محارقه ضد الأغيار، وهنا يقول الراحل الكبير عبدالوهاب المسيري: النازية مثلت لحظة نماذجية نادرة تحقق رؤية الغرب في تنظيم العالم، لكن المذابح التي تسببت فيها نفس الرؤية لم تنته، فقُبيل إسقاط النازية، قُصفت اليابان بقنبلتين ذريتين لأول مرةٍ في التاريخ رغم تأكُّدِ هزيمتها واستسلامها، وبعد سقوط النازية بسنوات معدودة ارتكب الصهاينة جرائم أبشع ضد العرب في فلسطين، ثم ارتكبت الإمبريالية الأمريكية جرائم عديدة أثناء غزو ڤييتنام، وأخيرًا وليس آخرًا الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان ليس هذا فحسب بل إن الكتاب الذي أصدرت ترجمته دار "مدارات" المصرية للنشر ، وناقشته مكتبة "ألف" أمس، بحضور الدكتورة هبة رؤوف عزت والمترجم حجاج بوجبر ، يكشف أن يهود ألمانيا بعضهم شارك "بمنطق عقلاني بحت" بمحارق لليهود الأكثر فقرا والذين صاروا عالة على النظام النازي. ويقترب من أسباب عدم اكتراث الألمان بسحق أكثر من مائة ألف يهودي، فيجد أن تركز هؤلاء في جيتو – عزلة مكانية – جعل منهم كيانا غريبا يخرج عن نطاق التعاطف الإنساني الذي يأتي بالاعتياد والتعامل، وتركزت جهود النخب ليس في التعبير عن اشمئزازهم من الإبادة ولكن لتبرير تلك الإبادة وتنسيقها باعتبارها الخيار الوحيد لصالح دولة الألمان وأوروبا عموما ! وحين يقترب العالم من نفسية من شاركوا بالإبادة يجد أنهم كانوا أسوياء تماما يؤدون واجباتهم بكفاءة، ثم يعودون لبيوتهم يتقاسمون الحياة الهادئة مع أسرهم، وبذلك نجحت الحداثة الغربية في تفريغ أنظمتها والأفراد المطيعين لها من أي بصيرة أخلاقية، وهكذا تم التعامل مع جماعات الغجر والسفافا وغيرهم باعتبارهم فائض بشري عن أوروبا لا نفع منه ويجب التخلص منه كأي كتلة صماء!. دولة العنف لا تعرف أخلاق لقد رفض زيجمونت باومان مشروع الغرب المعرفي الذي جعل العمل "اللا أخلاقي" نسبي تماما ومتغير، فانهارت منظومة القيم الراسخة تباعا. تقول جانينا باومان، زوجة مؤلف الكتاب ، في مذكراتها، أن قدرات الصهاينة المالية والإعلامية الضخمة أجادت استثمار الهولوكوست في ابتزاز الغرب، لشرعنة وجود إسرائيل، وتناسِي ما يقرُب من خمسة عشر مليونًا آخرين ذبحتهم النازية أيضًا في كلمته، أشار صاحب مكتبة "ألف" الكاتب عماد العادلي، أنه أفيد كثيرا بقراءة هذا الكتاب الذي "يشقلب" مفاهيم المبهورين بالحداثة الغربية، على حد وصفه، ويثني كثيرا على الناشر صاحب الرؤية التنويرية الحقيقية بعيدا عن تنميط مؤسسة الثقافة في مصر. ويشير الكاتب إلى أزمة الفكر الحداثي الذي كان نتاجا عنيفا لقهر الكنيسة الغربية وقمعها للمعارضين، فخرجت الثورة الفرنسية تدعو لشنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس، بعد أن صار الدين في الغرب رديفا لقيم القمع والتخلف. واقتبس "العادلي" من الكتاب الحجة الرئيسية التي بنا عليها المحامي الدكتور سرفاتيوس، دفاعه عن آيخمان في القدس فقال : " ارتكب آيخمان أفعالا يكرم المرء علي أدائها إذا انتصر ، وتنصب له المشانق إذا انهزم" وهذه بالتأكيد إحدى العبارات اللاذعة في القرن العشرين ، وهي تبعث برسالة واضحة وبسيطة مفادها أن ( القوة تصنع الحق ) . أما الدكتور حجاج بوجبر، أحد مترجمي الكتاب البارزين وتلميذ الراحل المسيري، فتحدث عن رفض مؤسسة الثقافة الرسمية في مصر نشر ترجمته لهذا الكتاب، برغم أهميته وجدة طرحه ، خمس مرات! وقد عثر المترجم على اسم الكتاب فيما كان يبحث عن موضوع لرسالته للدكتوراة ، ووجد أن مكتبة الجامعة الأمريكية تحوي كل كتب باومان باستثناء هذا الكتاب!! فذهب للدكتور المسيري الذي أعانه في شرائه إلى جانب عدد من الأعمال الشبيهة به. وبالفعل فقد أنجز الباحث ترجمته عام 2006 واكتشف كما يقول أن هناك كتابا لجان بول سارتر تم رفضه أيضا، وهو "تأملات في المسالة اليهودية" ولم يترجم حتى الآن في مصر ! غلاف الكتاب مستوحى من لوحة للفنان العالمي جاك بول عن معسكرات النازي، وتبدو فيها صور الهياكل العظمية لليهود، لكن المؤلف جعلهم من كافة الأجناس وليس اليهود فقط . يقول المترجم حجاج بوجبر : لقد برع الكاتب في كشف حقيقة الحداثة، لكنه أخفق في أن يجد بديلا لها! المحرقة ابنة التنوير يتحدث الباحث بوجبر عن مشاهير الفكر المصري الذين أبهرتهم الحداثة الغربية باعتبارها طوق النجاة ضد دعاة الرجعية والظلام، ومنهم طه حسين وأحمد لطفي وغيرهما، وهي فكرة سائدة حتى اللحظة، وتقودها المؤسسات الثقافية المصرية، ولكن الكتاب يفكك كل ذلك حين يؤكد أن المحرقة ارتبطت بميراث حركة التنوير والتي من بينها تأليه الطبيعة، وتحويل العلم لدين البشر الحنيف. ويضاف لذلك أن تركزت قيم العنف والقهر والإرهاب بقبضة واحدة وهي الدولة ، باسم ترويض النزعات الإرهابية الحيوانية بداخل الإنسان! من جانبها أشادت الدكتورة هبة رؤوف بالقدرة الفلسفية العميقة لدى باومان في تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية، وهو ما يجعل أعماله ذات طاقة تفسيرية أعلى، وقد أعجبت بمحاضرة استمعت لها فيها بجامعة أكسفورد، وحينها كان يتحدث عن الفلسفة المادية التي جعلت الإنسان مادة استعمالية تخضع لحسابات الربح والخسارة، فاليهود 4 مليون نضحي بهم ليعيش الألمان، وهي نتيجة منطقية حين تصبح الدولة هي الفاعل الأخلاقي وليس الفرد، فإن الحكم إلا للدولة، ولا داعي لقيم الدين ولا غيرها، فقد ورثت الدولة تلك العصمة عن أنبياء المؤمنين فصارت لا تخطأ ! وهذا الكلام قاله برتراند راسل من مؤرخي الحداثة وذلك حين قال : "الدولة في الحداثة محل الإله" !! لقد تحدث "فرويد" عن أن الحضارة محاولة تهذيب الإنسان ووضعه بنظام وهو ما يستلزم قمع شهواته، وخاصة الجنسية، لكنه لم يذكر إلى أي مدى يجب كبت تلك الشهوة هل لدرجة قتل الشخص نفسه مثلا ، تتساءل الأستاذة الأكاديمية! ثم تعرج كلمة الدكتورة هبة على ارتباط الحداثة بالتحرر من العادات ، عبر تحرير الفرد من عناصر المنظومة التقليدية، فقد كانت القرية يعرف أفرادها بعضا، ويصعب أن ترتكب فيها شائنة تجلب المعرة على صاحبها. ويمتاز هذا الكتاب أيضا بتركيزه على خطورة فصل الأقليات وقتل الشعور بالتعاطف معهم، وهي فكرة سادت بالغرب ولا تزال حتى الآن فهناك حي للصينيين مثلا ، ولو قامت الدولة باضطهادهم فلن يتأثر المجتمع كثيرا بذلك ربما، ولكن تراث العرب لم يعهدها خاصة أن الدين أباح التعامل مع أهل الكتاب ومشاركتهم طعامهم وأعمالهم، بل والزواج منهم أحيانا. وتتذكر المتحدثة حين دعا أباها المخرج زكي مراد لبيته، وكان يهوديا، فراحت تسأله عن موقفه من الكيان الإسرائيلي، فاندهش وأجابها بأنه مصري، وحتى حين سافر كانت وجهته لأمريكا ولا يقبل ما يجري للفلسطينيين من طرد، وهنا تتلاقي مع الأفراد ليس كفئة وإنما كبشر مختلفين بعيدا عن التعميم . لدينا عدد كبير من المفكرين اليهود الذين أجادوا بتصوير زيف الهولوكوست، وتتذكر منهم المحاضرة "نورمان فلينكشتاين" الذي اعتاد أن يقول أن الهولوكست الحقيقي يكتوي بناره الشعب الفلسطيني، كاشفا عن خطورة من يجيدون "البيزنس" على حساب محرقة اليهود القديمة، كما أن لدينا "روجيه جارودي" كاتب فرنسي شهير وجد في الإسلام ما لم يجده في خارجه بسبب جمعه للمادية والروحانية معا . ضرر لا يمكن تفاديه تضمنت مناقشة الكتاب أيضا تطرق عميق لجوهر الحداثة، فهي لا تحفل كثيرا بالجرائم ضد الإنسانية، التي تقودها عمليات التجريب من أجل "المصالح العليا" ، وقد قالت ذلك أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، حين سُئلت عن أطفال العراق الذين يموتون تحت الحصار ، فردت ببرود : "ذلك ضرر لا يمكن تفاديه" .. يتطرق الكتاب كذلك لواحدة أخرى من تبعات الحداثة، وهي صدمة المهنيين الذين ابتكروا أشياء أدت لدمار البشرية، كالعالم ألفريد نوبل، والفيزيائي صاحب قنبلة هيروشيما ، فهؤلاء اخترعوا متفجرات تشق الطرق، فإذا بالساسة الحداثيين يفجرون بها البشر! كما أن مؤلف كتاب "الهولوكست والحداثة" يشير بشكل جدي، إلى خرافة احتكار العواصم للقيم الحضارية، فالعكس قد يكون صحيحا في أحيان كثيرة، لأن سيادة الحداثة والتفكير العقلاني يجعل من الممكن على النخب وأبناء العاصمة تقبل الجرائم البشعة بدم بارد، كما جرى من قبل يهود ألمانيا أنفسهم أزاء المحرقة. وردا على مداخلة أحد الحضور، قالت الدكتورة هبة رؤوف : الشريعة الإسلامية استقت القوانين الغربية منها فقه الجهاد والحرب، لأن المسيحية ليس فيها غير أن نعطي لعدونا خدنا الأيمن إذا ما ضربنا على الأيسر، أي ثقافة المحبة والتسامح المطلق، وقد أفاقت أوروبا على حروبها الطائلة وهي تتورط فيها بدون أي منظومة معرفية أو قيمية، بينما الإسلام تعامل مع الجانب المتوحش في الطبيعة البشرية، وتعامل مع الحروب باعتبارها سنة في الكون، ووجب أن يتعامل معها المسلمون بنظامهم وقيمهم الخاصة. النموذج الإسلامي/الإنساني البديل تساءلت شبكة "محيط" حول البديل المعرفي الذي يمكن أن يصوغه عالمنا العربي والإسلامي لنظرية الحداثة ، ويكون قابلا للتطبيق بحيث يخرجون من شرنقة القمع بالداخل أو بالخارج، وتساؤل حول فكرة إبادة الآخر التي لم ينجو منها حكام المسلمين في عصور الخلافة ما بعد الراشدة ؟ ورد الباحث حجاج أبوجبر بأن الحداثة الغربية ليست نصا مغلقا أو فيلما انتهى، كان بطله الإنسان الغربي، وتحددت نهايته، فالعرض لا يزال مستمرا، لكن الإسلاميين يملكون خيارات ومشروعات لم تكتمل بعد، وبالمناسبة فالإبادة كانت موجودة فعلا ولدينا جنكيز خان مثلا وتاريخه ، لكن الحداثة وضعت فقط مؤسسات تنظر لهذه الإبادة وتثبت فوائدها للنظام! وهنا تحدثت الدكتورة هبة رؤوف عن مؤامرات حقيقية يتعرض لها جنوب العالم بشكل عام، وليس المسلمين فقط، ولكن التعويل على ذلك وحده في فشل النموذج الإسلامي المعرفي ليس حلا، فقد نجحت دول كجنوب إفريقيا والبرازيل في الخروج من شرنقة التبعية تدريجيا، حتى فلسطين ابتكرت لنفسها نموذجا خاصا من تحت الأرض بعد أن نفدت طرق الحياة فوقها، المهم ألا يشعر الإسلاميون في مصر أو خارجها أنهم الأطهر والأنقى وأصحاب التصورات المطلقة الحقيقية، وأن يستمعوا جيدا لكل الأفكار المفيدة حول العالم والتجارب المشابهة لدول العالم الثالث.. والحقيقة الثابتة، تشرح الدكتورة هبة، أن هدم دولة الحداثة في عالمنا الثالث مستحيل، برغم معرفتنا بأن جيناتها تحمل السلطوية والعلمانية، لكن التغيير خارج الإطار صار وهما يسيطر على اليوتوبيين من الإسلاميين ببناء دولة خلافة جديدة، ونحن نريد أن نتلمس الواقع وأن نبني من داخله نماذج تتكيف مع الظرف وتصلح للنهضة ، ولا بأس إن جاءت بطيئة لكنها تسير واثقة على الطريق، ولا بأس إن تقهقرت قليلا، المهم ألا تكابر وتتصور أنها لا تخطأ، ولا يمكن أن تهزم، كما نرى من بعض المنتمين لحركات إسلامية في مصر. والإسلاميون لم يكونوا هم وحدهم المضطهدون، فالمنتمون لليسار اضطهدوا من قبل في الستينيات، وهؤلاء يجمعهم ببعض الإسلاميين مشكلات أساسية وهي الاستعلاء والتقوقع بعيدا عن المجتمع، وعدم الشعور بأنهم نسيج من هذا الشعب.