ثبت من خلال وقائع وتجارب عدة، وعلى مدى أكثر من 60 سنة، أن تطبيق "السرية المصرفية" يساهم في جذب الاستثمارات، والغاؤها وكشف حسابات المودعين، يسبب هروباً كبيراً للاستثمارات وبالتالي الودائع المصرفية. وبما أن تونس تشهد موجة هروب للاستثمارات منذ اكثر من ثلاث سنوات، وتسعى حالياً ليس فقط للحد من هذه الموجه، بل لجذب استثمارات جديدة هي بأمس الحاجة اليها، وتستعد لعقد مؤتمر دولي في الثامن من ايلول (سبتمبر) 2014 ، تحت عنوان " استثمر من اجل تونس " ، لذلك رفض المجلس التأسيسي(البرلمان التونسي) للمرة الثانية الغاء "السرية المصرفية " ، خلافاً لرأي حكومة مهدي جمعة المؤيدة للإلغاء ، وكانت المرة الاولى في العام 2012 عندما حاولت حكومة علي العريض السابقة اصدار قانون بالإلغاء ، ولكن سرعان ما تخلت عن محاولتها، تحت ضغط اعضاء المجلس التأسيسي. وإذا كانت حكومة الولاياتالمتحدة تضغط على حكومات دول العالم لتطبيق قانون "فاتكا" لجهة تحصيل الضرائب من الاميركيين في الخارج ، حتى ولو تتطلب ذلك الغاء "السرية المصرفية"، وهذا ما حصل لدى المصارف السويسرية العريقة، التي تخلت عن المفتاح الرئيس لنجاحها على مر التاريخ، وهو " السرية " لصالح البرنامج الاميركي، مع العلم أن الثروات المودعة لديها تبلغ نحو 630 مليار دولار، فان تونس تهدف من هذا التدبير تحصيل الضرائب من التونسيين المتهربين منها، لزيادة الايرادات ودعم خزينة الدولة وتخفيض العجز المالي للموازنة. وقد حددت الحكومة هدفاَ لتخفيض نسبة العجز المالي من 6.9% من اجمالي الناتج المحلي عام 2013، إلى 5.8% عام 2014 ، محذرة من أن عدم اجراء أي اصلاحات مالية وضريبيه، سيؤدي إلى ارتفاع النسبة إلى 9.6%، الأمر الذي يسبب مخاطر تهدد نمو الاقتصاد التونسي البالغ 2.6% فقط في العام الماضي . وتنفيذاً لقانون المالية التكميلي الذي صدقه المجلس الوطني التأسيسي في السابع من أغسطس/ آب 2014 ، بدأت الحكومة التونسية تطبيق اجراءات ضريبيه جديدة، يتوقع أن توفر لخزينة الدولة نحو 360 مليون دينار للعام الحالي، إضافة إلى اجراءات صارمة تهدف إلى ارساء العدالة الضريبية وتوجيه الدعم إلى مستحقيه والترشيد في النفقات وتعليق الانتداب في الوظيفة العامة. هروب الاستثمار لعل السبب الرئيسي لعدم الموافقة على الغاء "السرية المصرفية" هو الخوف من هروب المزيد من الاستثمارات من تونس إلى الخارج، فضلاً عن الكثير من أصحاب رؤوس الأموال قد يحجمون عن التعامل مع المصارف لادخار اموالهم، خوفاً من انكشاف حساباتهم وبياناتهم الشخصية ومعرفة الكثير عن ثرواتهم الحقيقية التي تخضع للضرائب . لقد سبق أن تعرضت تونس لموجة هروب شملت الاستثمارات الاجنبية والعربية وحتى التونسية، خلال السنوات الأخيرة من عمر الثورة التي اطاحت بنظام الرئيس الاسبق زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني (يناير) 2011، ووفق معلومات الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة أن 300 مؤسسة اجنبية غادرت البلاد وسببت بخسارة 40 ألف فرصة عمل، وآخر مثال على ذلك هو قرار شركة فرنسية مختصة في صنع مكونات الطائرات بالتخلي عن إقامة مشروع لها في تونس، بسبب الاضطرابات والتحركات النقابية التي عاشتها الشركة، مع العلم أن هذا المشروع كان سيوفر عدداً كبيراً من فرص العمل خصوصاً لكوادر ومتخرجين من الجامعات التونسية، وهذا المثال ليس سوى نموذج لمؤسسات أخرى تركت تونس وتوجهت إلى بلدان منافسة لها مثل المغرب أو بلدان شرق اوروبا، بسبب سوء مناخ الاستثمار والذي جعل حتى المستثمرين التونسيين مترددين في بعث مشاريع جديدة، فضلا عن عدم تشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار. ووفق ارقام قدمتها الوكالة التونسية للنهوض بالصناعة والتجديد (مؤسسة حكومية) سجل الاستثمار تراجعاً ملحوظاً في المناطق الداخلية، وبنسبة قاربت 50%، وأظهرت الأرقام أن حجم الاستثمارات انخفضت من 1350 مليون دينار (نحو 850 مليون دولار) في النصف الاول من عام 2013 الى 650 مليون دينار (نحو 425 مليون دولار) في النصف الاول من عام 2014. ومثال على ذلك في منطقة سيدي بوزيد، وهي مهد الثورة التونسية، فقد بلغت قيمة الاستثمارات المصرح بها حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي 51.6 مليون دينار، في حين كانت مقدرة بنحو 570 مليون دينار في الفترة نفسها من السنة الماضية. وهكذا يرى خبراء الاقتصاد أن هذه الأرقام تشير إلى أن مناخ الاستثمار في تونس لا يوفر في الوقت الحالي العوامل التي تشجع رجال الاعمال على بعث المشاريع لا سيما في المناطق الداخلية الفقيرة التي تبقى في حاجة اكيدة لمشاريع تنمية وفرص عمل لتشغيل التونسيين. واذا كانت الاستثمارات الاجنبية المباشرة إلى تونس قد انخفضت في العام 2013 أكثر من 28%، فان هذا الانخفاض حسب وكالة انعاش الاستثمارات الاجنبية جاء نتيجة تقلص الاستثمارات في قطاع الخدمات بنسبة 89.7%، وفي قطاع الصناعات التحويلية بنسبة 10%. أصدقاء تونس وفق معلومات البنك المركزي التونسي، بلغ حجم الموارد المالية التي جرى جمعها خلال النصف الاول من العام الحالي نحو 1420 مليون دولار، ويتكون من 200 مليون دولار من تركيا، و 250 مليوناً من الجزائر، و250 مليوناً اخرى من البنك الدولي، ويبقى المبلغ الاكبر أي 720 مليون دولار، فقد حصلت عليه تونس من صندوق النقد الدولي، وهي تتطلع للحصول على مبلغ 660 مليون دولار جديدة من الصندوق وهو حصتها من القرض الائتماني الذي تعهد به والبالغ نحو 1.7 مليار دولار، ولكن الحصول عليه مرهون بتنفيذ توصياته بشأن اصلاح منظومة الدعم والتخلص التدريجي من اعباء صندوق التعويض. وعلى الرغم من أن تونس قد رفعت مؤخراً اسعار المحروقات للتخفيف من كلفة الدعم، فان هذا الملف يعد من أعقد الملفات المطروحة على طاولة المفاوضات، خصوصاً وان الصندوق بات الممول الاكبر للاقتصاد التونسي في ظل تنامي المخاطر واحجام بقية الممولين عن تمكين تونس من قروض مالية. وفي هذا المجال لا بد من الاشارة إلى التأثير السلبي لهجرة الليبيين بسبب الاضطرابات الامنية، وقد أدى لجوء أكثر من مليوني ليبي منذ عام 2011 الى تونس، إلى مضاعفة نفقات صندوق الدعم ست مرات خلال ثلاث سنوات ونيف، وذلك من 600 مليون دولار عام 2010 إلى 4 مليارات دولار في العام 2014، وهو يمثل نحو 20% من إجمالي ميزانية الدولة. وفي ضوء كل هذه التطورات، تستعد تونس لعقد مؤتمر في الثامن من ايلول (سبتمبر) المقبل في العاصمة تحت اسم "استثمر من اجل تونس" بدلا من تسمية "مؤتمر اصدقاء تونس"، وذلك بعد مشاورات مكثفة حصلت بين الحكومتين التونسية والفرنسية. والهدف من تغيير عنوان المؤتمر، حتى لا يكون مجرد جهود من الدول الصديقة لجمع المساعدات والهبات، بل العمل على جذب الاستثمار الاجنبي وتقوية علاقات تونس السياسية والاقتصادية مع شركائها التقليديين وخصوصاً الدول الاوروبية بقيادة فرنسا، والدول العربية ولا سيما دول الخليج، مع العلم ان تنظيم هذا المؤتمر انطلق ببادرة من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند عند استقباله رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة خلال زيارته لباريس في حزيران (يونيو) الماضي. وتبرز أهمية هذا المؤتمر من خلال تلبية الدعوى التي وجهت إلى قادة نحو 55 دولة في مختلف انحاء العالم، وفي مقدمهم قادة بلدان الاتحاد الاوروبي والولاياتالمتحدة الاميركية وبلدان الخليج العربي والمغرب العربي، وبلدان من شرق آسيا، وشمال القارة الاميركية، إضافة إلى رؤساء المنظمات العالمية وبينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومؤسسات التمويل وصناديق التنمية العربية، ومدى استعداد المشاركين للمساهمة في تمويل سلسلة مشاريع استثمارية ستطرحها الحكومة التونسية في مجالات البنية التحتية والزراعة والنقل والصناعة وغيرها.