الاضطرابات بدأت منذ تولي عليّ للخلافة واشتعال الحروب عصر يشهد بزوغ فرق "الشيعة" و"الخوارج" "يزيد" عاث في الأرض فساداً وانتهك حرمات آل بيت النبي يتناول الجزء الثان من كتاب د.طه حسين "الفتنة الكبرى: علي وبنوه"، الأحداث التي وقعت بعد مقتل عثمان بن عفان وخلافة علي بن أبي طالب، الذي تولى الخلافة في ظروف استثنائية؛ حيث كانت الفتنة تعصف ببلاد الإسلام، وقد سال على أرضها دم خليفتها. وكان أمام عليٍّ بعد توليه الخلافة كما يبين المؤلف الكثير من المهام الجسام التي لا تحتمل التأجيل، ومن أخطرها القصاص من قتلة "عثمان"، غير أن الإمام عليًّا كان يرى ضرورة الانتظار ريثما يُحكم سيطرته على الدولة، أما "معاوية بن أبي سفيان" ومن شايعه فأرادوا القصاص السريع. وذلك كان رأس الفتنة التي راح ضحيتها خيرة المسلمين، وتحوَّل بها نظام الحكم من الشورى إلى الوراثة، وظهر الشيعة " أنصار علي بن أبي طالب"، والخوارج "معارضوه" كأحزاب سياسية، قبل أن تتخذ مسحة اجتماعية ودينية، لكن النتيجة الأكثر إيلامًا هي أن كثيرًا من النكبات التي تعصف اليوم بالمسلمين تَعُود جذورها إلى تلك الفتنة التي ما زالت جذوتها مُتَّقدة حتى اليوم، كما يشير طه حسين في كتابه. الثأر من قتلة عثمان يوضح الكتاب أن المدينة ظلت أياما بعد مقتل عثمان، وليس للناس فيها خليفة وإنما يدير أمورهم فيها الثوار. وكانت أهواء الثوار فيمن يكون الخليفة مختلفة: فأهل مصر مع علي، وأهل الكوفة مع الزبير، وأهل البصرة مع طلحة . الا أن المهاجرين و الأنصار قد مالوا إلى عليّ فأصبح علي هو الخليفة الرابع . وكان أول ما واجهه علي بن أبي طالب من الناس قضية القصاص من قتلة عثمان . و لكنه طلب أن يمهل ريثما يثبت أركان حكمه . فخلق هذا الأمر معارضة قوية له ولما يبدأ حكمه بعد. ثم إنه أراد أن يسوس الناس بسيرة عمر "شدة في غير عنف و لين في غير ضعف"، وهو الأمر الذي لم يحتمله كثير من الناس خصوصا بعدما ألفوه من لين عثمان و دفعه إليهم بالعطايا والمنح من بيت مال المسلمين. من ناحية ثالثة فقد بدأ في تنحية الولاة الذين طالما شكا منهم الناس في الكوفة والبصرة ومصر، وهذا جعله مبغوضا ممن كانوا يستفيدون من الوضع السياسي القديم . الا أن رأس البلاء قد جاءه من الشام والتي كان عليها معاوية بن أبي سفيان . فقد رفض معاوية إعطاء البيعة للخليفة الجديد وأعلن العداء له، فمعاوية وأهل الشام يريدون أن يثأروا لعثمان ونصبوا قميصه للناس وجعلوا يلتفون حوله ويبكون . و حينئذ علم عليّ أنها الحرب وقرر أن يخرج بجيشه للقضاء على تلك الفتنة . وأثناء تجهيزه لجيشه جاءته الأنباء غير السارة من مكة حيث تجمع عمال عثمان المبعدون وتجمع الساخطون على مقتل عثمان وتجمع الزبير وطلحة و عائشة زوجة رسول الله وجعلوا من مكة معقل المعارضة الأكبر؛ لدرجة أنهم رفضوا تعيين الوالي خالد بن العاص بن المغيرة الذي عينه الخليفة عليّ على مكة . وتشاورت المعارضة المكية وقررت الرحيل إلى البصرة لمحاربة علي بن أبي طالب من هناك. فجاءت أخبار تحرك المعارضين المكيين إلى عليّ فتحول عن قتال أهل الشام ليرد هؤلاء الثائرين مما قصدوا إليه . و يخرج علي من المدينة يريد البصرة. وهناك في الكوفة يلتقي الجيشان، حيث اقتتل الفريقان قتالا شديدا، ورأى المسلمون يوما ما لم يروا مثله شناعة ولا بشاعة؛ سل المسلمون فيه سيوفهم على المسلمين، فقتل من هؤلاء وأولئك جماعة من أفضل أصحاب النبي و من خيرة فقهاء المسلمين و قرائهم . وبلغ عدد القتلى كما يشير الكتاب، ما يتجاوز العشرة آلاف وإن كثيرا من دور البصرة والكوفة قد سكنها الحزن والحداد . و بعد أن انتهت الحرب في البصرة أمّر عليّ على البصرة عبدالله بن عباس، ورجع الى الكوفة يريد أن يستعد لحرب معاوية في الشام . معاوية ورجاله اجتمع حول معاوية أهل مشورته وهم رؤوس الأجناد وشيوخ القبائل وأهل بيته من بني أبي سفيان وبنو عمومته من بني أمية، وانضم اليه عمرو بن العاص . وبعد فشل كل محاولات الصلح يلتقي الجيشان في "صفين" . و هناك تزاحف الجيشان وتقاتلوا أشد قتال، وبينما الرجال في إقتتال إذ بالمصاحف قد نشرت و إذ بالتحكيم يطلب من قبل معاوية و يقبله علىّ . وتُكون لجنة تحكيم ثنائية لوقف نزيف الدم المسلم بعد أن وصل قتلى أهل الشام ما فوق الأريعين ألفا و قتلى أهل العراق ما فوق الخمسة و العشرين ألفا . و ضمت اللجنة عمرو بن العاص من طرف معاوية و أبا موسي الأشعري من طرف علي . و إنتهت اللجنة الى خلاف مشهود على المنبر أخفي وراءه مكيدة كبرى . لقد كان أصل الإتفاق هو خلع الرجلين، معاوية وعلى .. و يترك الناس ليختاروا أميرا جديدا عليهم . الا أن ما حصل أن الأشعري صعد المنبر في براءة و أعلن خلعه لعلي و نزل، ثم جاء بعده العاص قد أثبت معلنا من ذات المنبر أنه معاوية . و كان لابد للحرب أن تعود من جديد . فنهض علي بأصحابه يريد الشام . لكنه لم يمض بهم الا قليلا حتى جاءته أنباء قلبت خطته رأسا على عقب، كما يوضح طه حسين. فالخوارج قد تجمعوا في النهروان يرفضون التحكيم ولا يريدون عليا ولا يريدون معاوية معا . يرسل عليّ اليهم مفاوضا فيقتلوه . فيتحول جيش علي من سيره إلى معاوية ليسير إلى النهروان لقتال الخوارج . و كان عدد الخوارج ثلاثة آلاف، وما هي إلا ساعة حتي قتلوا عن آخرهم . وظن على أن الأمور قد استقامت بقتل الخوارج، ولم يرد بذهنه أن الثلاثة آلاف هؤلاء، كانوا كلهم من أهل العراق و جلهم من الكوفة تحديدا. وعشائرهم و أقرباؤهم جميعهم في جيش علىّ. لذا ما إن عاد الجيش من معركة النهروان إلى الكوفة حتى تسلل من معسكره، وعاد أفراده الى البيوت وقد كرهت نفوسهم القتال . و اشتدت المحنة على عليّ . ويعدد طه حسين المحن ويذكر أن المحنة تشتد أكثر، حي يعلم عليّ أن نصره في النهروان لم يغن عنه شيئا . فقد بقي من الخوارج جماعة ظلت تكيد له المكايد . ثم تأتيه الأنباء من مصر بأن معاوية قد دخلها بجيش يقوده عمرو بن العاص و أن محمد بن أبي بكر الصديق قد قتل هناك. ومنذ ذلك اليوم انقسمت الدولة الإسلامية إلى قسمين : قسمها الشرقي تحت قبضة معاوية، وقسمها الغربي تحت إمرة على بن أبي طالب* . و أما الجيش، فقد اشتد عصيانه على الخليفة الذي تعب من محاولاته المستميتة أن يعبئهم لقتال معاوية من جديد حتى أنه قال فيهم كما يشير الكتاب: " يا أشباه الرجال ولا رجال .. ويا عقول ربات الحجال". يضاف الى ذلك أن معاوية يشن الغارات المتوالية على أطراف ولايات علىّ، بينما يشعل بقايا الخوارج حروبا متقطعة هنا و هناك في الداخل. و فيما كان علي يعالج هذه المشاكل يتفق الخوارج على خطة دموية لقتل الثلاثة الذين هم أصل الإختلاف في ذلك الوقت: علي في الكوفة ومعاوية في الشام وعمرو بن العاص في مصر . اغتيال علي..وبيعة معاوية كان عبدالرحمن بن ملجم موكلا بإغتيال علي . و في فجر ذلك اليوم خرج علىّ مناديا للصلاة كعادته فإذا بسيف عبدالرحمن بن ملجم قد أصابه في رأسه حتى بلغ دماغه، فخر علي حين أصابته الضربة و هو يقول "لا يفوتنكم الرجل"، وحمل الناس عليا إلى داره حيث مات فيها في ليلة اليوم الثاني . و حزناً على رحيل عليّ بايع الناس ابنه الحسن، الذي كان رجل صدق قد كره الفرقة و آثر إجتماع الكلمة . مكث الحسن قريبا من شهرين لا يذكر الحرب التي كان يعد لها أبوه علي حتي الحوا عليه الحاحا و حرضوه تحريضا فخرج أخيرا في جيشه الى المدائن . إلا أن معاوية بعث إليه يريد السلم و الصلح . و يقول الناس أن تحول معاوية للسلم مع الحسن سببه معرفته بأن الحسن كان عثماني النزعة كارها للفتنة. و تم الصلح في نهاية المطاف ببيعة الحسن لمعاوية، حيث كان الحسن يريد بهذا الصلح حقن الدماء . أما و قد تم الصلح فقد حمل الحسن أشياءه وارتحل عائدا إلى المدينة . لكنه بدأ من هناك يدير أمور أحد أكبر الطوائف الإسلامية، وهي "الشيعة"، لكنه ما لبث أن توفى عام خمسين للهجرة، فصارت رئاسة الشيعة الى أخيه الحسين بن على . و كان في الحسين شدة و عزم أشبه شئ بشدة و عزم عمر بن الخطاب . وقد شدد معاوية من قبضته على الرعية، كما اشتد الشيعة مع رئاسة الحسين في معارضتهم . وأخذ معاوية يطوف على الأقاليم يأخذ البيعة جبرا أو إختيارا على ولاية العهد لإبنه يزيد المعروف بالخلاعة و المجون. فاستقر في الإسلام ملك يقوم على البأس و البطش و الخوف . و قد تم ذلك سنة 56 هجرية . يزيد واشتعال الفتنة يموت معاوية و يجئ بعده إبنه يزيد، الذي رفض الحسين – الموجود في مكة – مبايعته، وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة لتعبئة الناس ضد يزيد . فيعلم يزيد بأمرهم . و ذات يوم يخرج مسلم من مخبئه ومعه الألوف متجهين ناحية مسجد الكوفة . و لكن الليل يجئ فيجد الفتي نفسه وحيدا فيقبض عليه و يرسل ليزيد فيقتله في أعلى القصر ومن هناك يلقي برأسه ثم جثته أرضا . فيقرر الحسين المسير الى الكوفة و الناس يخوفونه بطش يزيد، وقد إحتمل معه أهل بيته و فيهم النساء و الصبيان . مضى مع الحسين نفر من بني أبيه ومن بني أخيه الحسن واثنان من بني عبدالله بن جعفر ونفر من بني عمه عقيل و رجال آخرون . و انضم إليهم فيما بعد خلق كثير . وعند أبواب البصرة كان جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص متأهبا، فدارت الحرب . وفيها رأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن – كما يؤكد المؤلف - رأى إخوته وأهل بيته يقتلون بين يديه وفيهم أبناؤه وأبناء أخيه الحسن وأبناء عمه، وكان هو آخر من قتل منهم بعد أن تجرع مرارة المحنة فلم يبق منها شيئا . وتحدث طه حسين عن المحنة فيقول: يومذاك نظر المسلمون فإذا مسلمون مثلهم بينهم القرشي عمر بن سعد بن أبي وقاص يقتلون أبناء فاطمة بنت رسول الله ويقتلون أبناء علي ويسلبون الحسين حتي يتركوه متجردا بالعراء؛ ويصنعون به ما لا يصنع المسلمون بالمسلمين. ثم يسبون النساء كما يسبي الرقيق وفيهم زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، ثم تحمل رؤوس القتلى و فيهم رأس الحسين لتوضع أمام يزيد بن معاوية بن أبي سفيان . يصف طه حسين الأحداث فيقول: كانت محنة للإسلام نفسه، خولف فيها عما هو معروف من الأمر بالرفق ولنصح وحقن الدماء إلا بحقها وانتهك أحق الحرمات بالرعاية، وهي حرمة رسول الله صلّ الله عليه وسلمم التي كانت تفرض على المسلمين أن يتحرجوا أشد الحرج، ويتأثموا أعظم التأثم، قبل أن يمسوا أحداً من أهل بيته. كل ذلك ولم يمض على وفاة النبي إلا خمسون عاماً، لنعرف أن أمور المسلمين صارت أيام معاوية وابنه إلى شر ما كان يمكن أن تصير إليه. وتتلاحق الأحداث كما يبين طه حسين، فيثور أهل المدينة إنتقاما لمقتل آل البيت ويخرجون عامل يزيد لديهم ويؤمرون منهم رجلا عليهم . فيضطر يزيد أخر الأمر أن يرسل إليهم جيشا بقيادة مسلم بن عقبة المري . فيصل الجيش المدينة و يقتل منها خلق كثير .. ثم أباح المدينة ثلاثة أيام لجنده يفعلون فيها بالرجال و بالنساء ما يشاؤون . ثم يأخذ البيعة على من بقي منهم , لا على كتاب الله و السنة , و لكن على أنهم "عبيد ليزيد" . ثم يتحول الجيش من المدينة الى مكة فيحاصر فيها إبن الزبير و أهلها ثم يرمي مكة بالمنجنيق و تحترق الكعبة، ثم تستباح مكة لجنود الجيش الغازي يفعلون بالرجال و النساء فيها ما يشاؤون . ويوضح طه حسين عاقبة الفتنة فيقول: ثم لم تكن عاقبة هذا كله على آل أبي سفيان إلا خروج الملك منهم وانتقاله إلى غيرهم. فقد مات يزيد ولمّا يملك إلا أربع سنين. يتابع: قد انتهت هذه الفتنة التي شبت نارها في المدينة سنة خمس وثلاثين بقتل عثمان، إلى هذه المرحلة من مراحله بعد أن اتصلت ثلاثين عاماً أو نحو ذلك، وأزهق فيها ما أزهق من النفوس، وانتهك فيها ما انتهك من الحرمات، وقضي فيه على سنة الخلافة الراشدة، وفُرق فيها المسلمون شيعاً وأحزاباً وأسس فيها ملك عنيف لا يقوم على الدين، وإنما يقوم على السياسة والمنفعة. وقد أصبح للمسلمين مثل بعينه من هذه المثل العليا الكثيرة التي دعا إليها الإسلام، وجعلت الفتنة تدور حول هذا المثل الأعلى لتبلغه فلا تظفر بشئ مما تريد، وإنما تسفك الدم، وتزهق النفوس وتنتهك المحارم وتفسد على الناس أمور دينهم ودنيهم. وهذا المثل الأعلى هو العدل الذي يملأ الأرض وينشر فيها السلام والعافية والذي تقطعت دونه أعناق المسلمين قروناً متصلة دون أن يبلغوا منه شيئاً. حتى استيأس من قربه بعض الشيعة ولم يستيئسوا من وقوعه، فاعتقدوا أن إماماً من أئمتهم سياتي في يوم من الأيام فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. لينهي المؤلف كتابه بعبارة: "ولله حكمة أجرى عليها أمور الناس، والله بالغ أمره، قد جعل لكل شئ قدرا".