يرتفع صراخ الغزّي "معين أدهم" بشكل هستيري على جيرانه :" اطلعوا (غادروا)..يلااااا (هيا).." ويُكررها عشرات المرات في أقل من دقيقة واحدة، بأعلى ما لديّه من صوت. ويبدو الأمر جنونيا ومخيفا بالنسبة لجيرانه، الذين لا يبعدون عن منزله المُهدّد بالقصف الإسرائيلي، سوى عشرة أمتار فقط. و"هيّا..لقد جاءت الطائرات.."، يصرخ الجميع تاركين خلّفهم كل شيء، في سبيل النجاة، من دقائق الموت وشظايا قد تحولهم في ثوانٍ إلى أرقام وصور لأخبار عاجلة، تسرد آخر أخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وفي مسافة لا يتم وصّفها بمقياس الدقيقة والثانية، كما تقول أسماء أمين، لوكالة الأناضول، إذ تتجمع العائلات الهاربة من القصف بسرعة "الخوف والرعب". وتُضيف:" الزمن يتوقف، ساعة الخوف والتفكير بالموت القادم، هي من تُحركنا، وعقارب الدمع هي من تحرك الساعة، وتدفع أكثر من 25 فردا للاحتماء في أقصى بيت يمكن أن نصل إليه". يضع الأطفال الذين تبدو وجوههم صفراء كورق الخريف، أياديهم الصغيرة على أذانهم، هربا من صوتٍ أيقنوا من صراخ وبكاء أمهاتهم أنه لن يكون سهلا البتة. دقيقة، ثلاثة، عشرة...وينطلق الصاروخ الذي يحّول البيت المستهدّف إلى كومة من الدمار، وسحابات من الدخان، يظن كثيرون أنها أنهت الحكاية. "إنها الآن تبدأ"، تقول "راوية عليان" لوكالة الأناضول، وهي تبكي بيتا لم يكن لها مجرد "حوائط" و"جدران". "إنّه ذاكرة".. تستدرك، وهي تمسح دمعا سال بحرقة على خدها:" يأتي اتصال من الجيش الإسرائيلي، يُخبرك أن بيتك سيقصف ومطلوب منك إخلاء المكان فورا خلال عشر دقائق فقط". ولا يمكن لتلك العشرة أن تختصر زمنا عمره أعوام من الذكريات، ولا شيء يحمله الهاربون من الموت سوى "أرواحهم" و"أهم الأوراق". ستترك خلّفك كل شيء، ستحتضن صغارك كما تروي "رندة إسماعيل"، وتنجو بهم بعيدا عن أمتار القصف. شهادات تفوق الصغار، والملف الوردي الذي يحتضن رسوماتهم، ومكتبتهم الصغيرة، والمقعد الخشبي الذي يتعارك أطفالها أيهم يجلس عليه أولا، الإناء الزجاجي القديم، وكل التفاصيل الصغيرة. "حسبنا الله ونعم الوكيل" تقول الجدة "خولة أنور"، وهي تصف حزنها على البيت الكبير المدّمر:" إنه تعب عشرات السنوات، ينهار في دقائق، ويتحول إلى ركام هو وكل ما بداخله من ذكريات، هذه الذكريات التي نحن أصحابها". وقد يحولك الصاروخ إلى رقم عاجل يزيد عدد القتلى والجرحى من ضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة لليوم العاشر على التوالي، كما يقول أحمد حافظ. ويتابع:" 10 دقائق فقط، تحولنا إما لقتلى أو جرحى، وتحيل بيوتنا إلى كومة مهمتنا أن ننبش من تحت ركامها ودمارها عن ذكرياتنا". ومن يقنع الصغير يوسف أحمد، ابن الأربعة أعوام أن حيّاته أهم من دميته الصغيرة التي تركها في المنزل، بعد أن انتزعته أمه هو وشقيقه هربا من الموت. "إنهم يقتلون التفاصيل الصغيرة"، تقول دعاء محمد لوكالة الأناضول، وتُضيف:" إسرائيل عندما تقصف منازلنا، تغتال الأشياء الجميلة، ولا تسقط الجدران فقط، بل تسقط قلوبنا وأرواحنا، التي تبكي حنينا وشوقا على كل ما ضاع واندثر". ولا تتوقف الطائرات الحربيّة الإسرائيلية عن استهداف وتدمير بيوت الفلسطينيين في مختلف أنحاء قطاع غزة. وتعمدّ الجيش الإسرائيلي في الساعات القليلة الماضية، استهداف منازل عائلات تنتمي لفصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركتي المقاومة الإسلامية "حماس" و"الجهاد الإسلامي". كما وأجبر آلاف الفلسطينيين على ترك منازلهم، وتفريغ بعض المناطق الحدودية، شرق وشمال قطاع غزة، تمهيدا ل"تكثيف الغارات في تلك المناطق". وأعلن متحدث عسكري إسرائيلي، اليوم الأربعاء أنه تم إلقاء منشورات تحذيرية تطالب سكان حيي الشجاعية والزيتون، شرقي غزة، بالإضافة إلى سكان بلدة بيت لاهيا (شمال) بإخلاء منازلهم، تمهيداً لقصفها. ويشنّ سلاح الجو الإسرائيلي، منذ يوم 7 يوليو/ تموز الجاري، غارات مكثفة على أنحاء متفرقة في قطاع غزة، في عملية عسكرية أطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد"، تسببت بمقتل 208 فلسطيني وإصابة أكثر من ألف حتى يوم الأربعاء بحسب مصادر طبية فلسطينية. وتسببت الغارات العنيفة والكثيفة على مناطق متفرقة من قطاع غزة بتدمير 600 وحدة سكنية بشكل كلي، وتضرر 1494 بشكل جزئي،وفق إحصائية أولية لوزارة الأشغال العامة في الحكومة الفلسطينية.