بعد أقل من عشرين عاما على اجتياح القوات العراقية للكويت، لا يبدو ان ذيولها قد انتهت، بل الواضح من سياق ما يجري من سجالات سرية وعلنية بين مسؤولي البلدين ان أزمة صامتة تعصف بعلاقاتهما بشكل خطير. التوتر هذه المرة يتصاعد بسبب تضارب موقفي الكويت وبغداد من مسألة 'البند السابع' الذي وضع العراق تحت طائلته.
فالعراق يسعى جاهدا منذ سقوط النظام السابق للخروج من طائلة هذا البند، بينما تمارس الكويت ضغوطا مضادة لمنع ذلك، بذريعة عدم التزام العراق بالقضايا العالقة مثل التعويضات والمفقودين الكويتيين وترسيم الحدود بين البلدين. وتكشف تصريحات الدكتور علي الدباغ، الناطق باسم الحكومة العراقية، جانبا من الازمة: 'نريد من جميع الدول، خصوصاً الكويت أن تتفهم بأن لا تكون عقبة أمام خروج العراق من الفصل السابع، والعقوبات التي أثرت بشكل سلبي على الشعب العراقي، الذي عانى كثيراً جراءها'.
ويؤكد الدباغ : 'ان هناك توجها من الحكومة العراقية لحل كل الملفات العالقة بين العراق ودول المنطقة، سيما أن هناك العديد من الخطوات الايجابية من قبل عدد من الدول والمتمثلة في إسقاط ديونها على العراق، وعليه نتوقع من دولة الكويت ألا تبقي الهواجس حاكمة ونابضة مع العراق ... وليس من مصلحة العلاقات الثنائية بين البلدين أن تبقى هذه الملفات عالقة وعقبة أمام إخراج العراق من الفصل السابع، ولا اعتقد أن أية دولة من الدول سوف تستفيد من إبقاء العراق مكبلاً بهذه القيود'.
جاءت هذه التصريحات في إثر تحرك الكويت في الفترة الاخيرة لاقناع واشنطن بعدم الاستجابة لذلك الطلب. فقد قام السيد محمد أبو الحسن، المستشار بوزارة الخارجية الكويتية بزيارات لعدد من العواصمالغربية من اجل ذلك، واوصل رسائل من رئيس الوزراء، محمد الصباح، لوزيرة الخارجية الامريكية، هيلاري كلينتون، حول القضية. وهكذا يتضح ان ثمة سباقا محموما حول قضية كان يفترض ان تكون في طي النسيان بعد مرور عقدين عليها، وبعد ان دفع العراقيون ثمنا باهظا من جرائها.
فما هو البند السابع؟ وما الثمن الذي دفعه العراقيون نتيجة وضع بلادهم تحت طائلته؟ ولماذا تصر الحكومة الكويتية على ابقاء العراق أسيرة لذلك البند؟ وما التداعيات المتوقعة للموقف الكويتي خصوصا على العلاقات بين البلدين وأمن المنطقة؟ هناك عدد من الحقائق المرتبطة بذلك البند.
اولا ان ميثاق الاممالمتحدة، الذي قام على اساس حرية شعوب الارض وان لا تنتهك دولة حدود دولة اخرى او تعتدي عليها الا اذا كان دفاعا عن النفس، يتكون من 111 مادة تنتظم في 19 فصلا اهمها الخامس والسادس والسابع.
ويضم البند السابع المواد 39-51 من الميثاق تحت عنوان 'في ما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقع العدوان'، واهمية هذه المواد تنبع من انها تتضمن صفة القسرية في تطبيقها على الدول المخاطبة. وتجدر الاشارة الى المواد المهمّة في البند السابع وهي 39، 41، 42، وفحواها.
فالمادة 39 هي مرحلة إصدار القرار من مجلس الأمن الدولي، فهي تقرر فيما كان قد وقع تهديد للسلم أو الإخلال به، أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان. وتنص المادة 41 على ان مجلس الامن يتخذ التدابير اللازمة التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته فقط إصدار العقوبات مثل وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية وغيرها، وقفاً جزئياً أو كلياً.
وتنص المادة 42 على انه 'في حال أن المادة 41 لا تفي بردع من أخلّ بالسلم أو حاول العدوان على دولة أخرى، جاز لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال الحصار والعمليات الجوية والبحرية.' وهذه البنود لا تطبق على الدول الدائمة العضوية بمجلس الامن التي باستطاعتها استعمال حق النقض 'الفيتو' ضد ذلك.
ومنذُ عام 1990 وخاصّة بعد غزو القوات العراقية للكويت كثُر استخدام البند السابع في القرارات الخاصّة بالعراق فصدر ما يزيد على 60 قراراً، واستمرت القرارات إلى ما بعد استعادة الكويت وكل القرارات كانت ضمن البند السابع أي أنها مُلزمة باستثناء قرار واحد وهو 688 الذي يضمن تأمين حقوق الإنسان السياسية والإنسانية لجميع المواطنين والكف عن الإبادة والقمع، فانه غير ملزم. أما القرارات التي كان فيها إذلال العراق بأكمله فهي قرارات مُلزمة.
وأخطر القرارات الملزمة التي صدرت بحق العراق هو قرار 678 الصادر بتاريخ 3 نيسان (ابريل) 1991. فقد احتوى هذا القرار على 34 مادة كلها وضعت العراق أمام خطر البند السابع المسخّر لخدمة الأهداف الأمريكية الصهيونية، فكان العراق تحت الوصاية الأمريكية تحت مظلّة الأممالمتحدة.
لذلك أعلنت القوات الأمريكية حين دخولها العراق في كانون الثاني (أبر يل) 2003 أنها غازية وفق القرار الأُممي 1483 وبعدها عدلت عن هذا القرار، فأطلقت على نفسها قوات متعددة الجنسية بقرار 1546.
ومنذ ان حدث التغيير السياسي في العراق، سعت الادارات العراقية المتعاقبة لاخراج البلاد من طائلة هذا البند، ولكنها واجهت صعوبات سياسية وعملية عديدة. وكان واضحا ان الولاياتالمتحدة غير متحمسة لذلك، لانه يتعارض مع اهدافها باستمرار الهيمنة على العراق واضعاف ارادة شعبه وحكومته. ويبدو ان الحكومة العراقية تحركت بشكل اوسع مؤخرا بعد صعود باراك اوباما الى الرئاسة الامريكية، وقامت بتكثيف الجهود والاتصالات الدبلوماسية، موضحة أن: البلاد لم تعد كما كانت في السابق، فهناك منجزات تحققت على جميع المستويات لا ينبغي تجاهلها ومن الضروري التأكيد عليها.
ولكن وزير الدفاع الكويتي جابر المبارك ربط دعم الكويت لخروج العراق من البند السابع بتحقيق المطالب الكويتية. وفي الوقت نفسه شدد على أن القوات المسلحة الكويتية قادرة على صد أي هجوم خارجي على بلاده.
هذه النبرة في طرح المسألة تنطوي على مخاطر كبيرة للامن والاستقرار في المنطقة التي عانت من النزاعات المسلحة على مدى العقود الثلاثة الاخيرة. كما أكد المبارك الذي يشغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء أيضا، أن الإمكانيات الدفاعية والهجومية التي تمتلكها الكويت تؤهلها للذهاب أبعد من ذلك.
فما مغزى هذه التصريحات؟ وما مدى واقعيتها؟ وما الرسالة التي سعى وزير الدفاع الكويتي لايصالها؟
ان من غير اللائق التصريح او التلميح باستعمال القوة، خصوصا في ضوء ما حدث في الثاني من آب (اغسطس) 1990، الذي أظهر هشاشة نظام الحكم في الكويت، اذ تهاوى في بضع ساعات وهرب رموزه الى خارج البلاد، وترك الشعب يتصدى للاجتياح.
ومما يثير حفيظة العراقيين أن الكويت رفضت رسميا إغلاق ملف التعويضات التي يدفعها العراق لها بنسبة 5% من عائداته النفطية، كما رفضت نقل باقي الملفات المنصوص عليها في قرارات مجلس الأمن الدولي إلى باب العلاقات الثنائية بعد أن قدم العراق طلبا رسميا إلى مجلس الأمن بهذا الخصوص، حتى يتمكن من الخروج من الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة.
لا شك ان لدى الكويت مطالب مشروعة، وتشعر بقلق عميق اذا لم يتم التعاطي مع تلك المطالب بشكل جاد. فموقعها الجغرافي بين ثلاث دول كبيرة يخلق لها مشكلة كبيرة عندما تسعى للاحتفاظ بتوازن في العلاقات او تحاول الحفاظ على أراضيها وحدودها البرية والبحرية.
وما تزال مسألة ترسيم الحدود البحرية مع الجارتين الاخريتين، السعودية وإيران، عالقة. فإيران تنتظر ترسيم الحدود بين السعودية والكويت لكي تستطيع ترسيم حدودها مع الكويت، بينما تماطل السعودية في ذلك لأسباب غير مفهومة. وقد اضطرت الكويت لتأجيل بناء مصفاة عملاقة في جنوبي البلاد، بعد احتجاج سعودي صامت بدعوى أن الأرض المزمع انشاء المصفاة فيها 'متنازع عليها' لانها كانت مؤجرة للسعودية التي ترغب في تجديد الإيجار. وما تزال السعودية تسيطر على جزيرة 'قاروه' الكويتية منذ ان أنزلت قواتها عليها خلال حرب الكويت في 1991، وكذلك منطقة الوفرة والخفجي والشعيبة في جنوب الكويت.
وأصبحت المنطقة المحايدة بين العراق والكويت والسعودية تحت السيطرة السعودية بسبب انشغال العراق بالحروب وصمت الكويت على ذلك. وتمددت الحدود السعودية الى داخل الاراضي العراقية في مساحات واسعة خصوصا عند بر السماوة. وما لم يتم ترسيم الحدود البحرية السعودية الكويتية فستظل إيران غير قادرة على ترسيم حدودها مع الكويت. وتشعر الحكومة الكويتية أن بإمكانها الضغط على العراق، من خلال الولاياتالمتحدة، لحملها على اقرار ترسيم الحدود وفق ما توصلت اليه الأممالمتحدة قبل خمسة عشر عاما.
يومها كان العراق تحت طائلة العقوبات الشديدة التي أعادت العراق عقودا الى الوراء وأدت إلى موت أعداد كبيرة من العراقيين بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض على بغداد منذ انتهاء الحرب في 1991. وقد عانى العراقيون خلال سنوات الحصار مصائب بشرية هائلة ما تزال تستعصي على الإحصاء والعد.
فقد انخفض الناتج المحلي من اكثر من 75 مليار دولار في 1989 الى 12 مليار في 2003، وانخفض دخل العراقي من 8200 دولار في العام 1980 الى 2400 دولار بعد الحرب مع ايران، ثم 590 في 1999 بعد قرارات الفصل السابع. وتدنى راتب الموظف المدني حتى بلغ خمسة آلاف دينار في الشهر، أي ما يعادل 2.5 دولار شهريا قبل 2003. وقدرت المنظمات الدولية خسائر العراق في فترة الحصار ب 200 مليار دولار. وتزايد معدل الوفيات أثناء الولادة من 50 لكل مئة ألف حالة ولادة عام 1989 إلى 117 لكل مئة ألف حالة ولادة عام 1997. وزادت نسبة وفيات الأطفال دون سن الخامسة من 30.2 لكل ألف حالة ولادة إلى 97.2 خلال الفترة نفسها.
ويشير تقرير لبرنامج الغذاء العالمي عام 1990 إلى أن 50' فقط من سكان المدن يمكنهم الحصول على المياه الصالحة للشرب، في حين تصل النسبة إلى 33' في المناطق الريفية. بينما قبل وضع العراق تحت طائلة الفصل السابع كانت المياه الصالحة للشرب تصل ل 90' من السكان.
بعض أعضاء مجلس النواب العراقي يقول أن ترسيم الحدود يجب ان يكون ضمن الحدود التي أقرت دوليا بين البلدين في العام 1965 وليس الحدود التي فرضتها أمريكا بعد إخراج القوات العراقية من الكويت. هذه الحدود أدخلت أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية ضمن الحدود الكويتية. ويشيرون إلى أن حدود الكويت امتدت من المطلاع إلى العبدلي شمالا، ولكنها امتدت بعد الترسيم الى خمسين كيلومترا في الأراضي العراقية.
وعبر بعض هؤلاء النواب عن خشيته من ان تضع الكويت ايديها على ميناء 'ام قصر' التي ما يزال وضعها غير محسوم مشيرين الى ان الحدود التاريخية للكويت كانت ضمن ما يسمى 'سور الكويت' التاريخي الذي ما تزال آثاره واضحة، ويقع داخل الكويت ولم يعد يمثل حدودها.
وتجدر الإشارة إلى أن طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية العراقي، في اول زيارة له للكويت قبل خمسة اعوام، أثار زوبعة سياسية عندما رفض الاعتراف بشكل صريح بالحدود التي رسمتها الأممالمتحدة قبل خمسة عشر عاما، الأمر الذي أدى الى أزمة دبلوماسية تم احتواؤها من الطرفين بشكل عاجل.
والواضح ان هناك شعورا عراقيا عاما بالغبن من ذلك الترسيم، وبالتالي فمن المتوقع ان تبقى مشكلة الحدود بين الكويت والعراق قائمة في المستقبل المنظور، ولا يستبعد أن تتحول إلى أزمة سياسية ودبلوماسية ما لم تتخذ خطوات جادة لمنع تحولها الى صراع عسكري بين البلدين الجارين.
ان هناك تباعدا في نظرة البلدين إزاء المشكلة الحدودية، تنعكس بشكل سلبي حاد على رغبة العراق في التخلص من تبعات الفصل السابع. ففيما تبذل السلطات العراقية جهودا مضنية لتحقيق ذلك، لا تخفي الحكومة الكويتية عزمها على التصدي لتلك الجهود بالسعي لإقناع الولاياتالمتحدة وأعضاء مجلس الأمن بعدم الموافقة على ذلك ما لم توافق بغداد على الشروط الكويتية.
وقد دفع هذا الوضع بعض أعضاء مجلس النواب العراقي إلى اقتراح مطالبة الكويت بتعويضات تصل إلى أربعة آلاف مليار بدعوى دور الكويت في مسألتين: أولاهما دعم الحرب التي قام بها النظام العراقي السابق ضد إيران، وأدت إلى خسائر فادحة لكل من العراق وإيران، ودعم الحرب الانكلو أمريكية الأخيرة ضد العراق، التي لم تكن مدعومة بقرار دولي، بل كانت، حسب تعبير الرئيس اوباما في خطابه الأخير للمسلمين 'حرب اختيار' من قبل الولاياتالمتحدة.
هذه الدعاوى من شأنها تعكير أجواء العلاقات بين العراق والكويت في الوقت الذي يحتاج البلدان فيه لعلاقات جوار تتسم بالاحترام المتبادل والود والتعاون. وسوف ترتكب الكويت خطأ كبيرا اذا أصرت على معارضة رفع العراق من البند السابع، وعلى العراق بذل المزيد من الجهود للتعاطي الجاد مع القضايا التي تطرحها الكويت كترسيم الحدود والتعويضات وبحث مصير الأسرى الكويتيين.
مطلوب من كلا الطرفين خطوات للتعبير عن حسن النوايا، وإنهاء حالة التوتر الذي أكده وكيل وزير الخارجية العراقي الأسبوع الماضي بإلقاء اللوم على الكويت لرفضها لما اسماه 'حل المشاكل عبر الحوار الثنائي، وإصرارها على إبقاء العراق ضمن الفصل السابع'. انه تطور خطير يجدر بالجميع الالتفات اليه والتعاطي معه بجدية لمنع تفاقمه وتحوله إلى أزمة مستعصية تعيد الى الذاكرة الفصول السوداء التي شهدها العالم في حرب 1991.
*كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن جريدة القدس العربي – 18/6/2009