نجيب محفوظ: الحرية والفرحة أبرز ما يميز رمضان طه حسين يكتب عن لحظات الإفطار وغروب شمس رمضان الأدباء يسجلون لحظات طرد العفاريت وتحصين البيوت في آخر أيام رمضان إذا كان العديد من الشعراء قد حلقوا في سماء الأجواء الرمضانية وجابوا آفاقها، فإن عديد من الساردين والنثريين كذلك استلهموا تجليات هذا الشهر في كتاباتهم، بما يجعل من هذه الكتابات نصوصاً اجتماعية دالة، تمثل سجلاً لأحوال مصر عبر العصور المختلفة. حيث يؤكد فؤاد مرسي في كتابه الصادر عن هيئة الكتاب مؤخراً بعنوان "معجم رمضان" أن هناك عديد من الأعمال السردية المصرية، عنيت برصد المظاهر الرمضانية، مثل رواية "الشمندورة" للأديب النوبي محمد خليل قاسم، التي تعد مرجعاً مهماً، يمكن من خلاله قراءة كيفية احتفال النوبيين بشهر رمضان قبل التهجير. من جانب آخر هناك بعض الروايات التي جرت أحداثها داخل شهر رمضان بأكمله، مثل رواية "17 رمضان" لجرجي زيدان، نظراً لطبيعة موضوعها، وهناك من الروايات ما يعد مرجعاً أنثروبولوجيا متكامل الجوانب يمكن الاستدلال منه على طبيعة شهر رمضان وخصوصية تعامل المصريين معه، مثل رواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ، "وفي بيتنا رجل" لإحسان عبدالقدوس، التي وقعت جوانب كثيرة من أحداثهما في شهر رمضان. أما إذا انتقلنا إلى ذكريات الكتاب عن شهر رمضان، فيطالعنا ما كتبه الأديب نجيب محفوظ، عن ملامح شهر رمضان في حي الجمالية وتحديداً في منطقة بيت القاضي التي شهدت ميلاده، يقول: "كان ميدان بيت القاضي يبدو في فرح مستمر لمدة شهر كامل، فإذا ما جاء العيد وصل الفرح إلى ذروته وعلت مباني الشارع زينات الأفراح، وقد كان أجمل ما يسعدني أن المنازل التي تقع في الحي كانت وقت رمضان تفتح أحواشها للناس، وكانت تأتي بالمنشدين الذين كانوا يقيمون ما كان يسمى بالتوليد النبوي، وهو مثل حلقات الذكر تنشد فيه قصائد المديح في النبي، وكانت هذه المنازل تتبارى في من يأتي للإنشاد وكنا نحن ننتقل من منزل إلى آخر نستمتع بهذه الحلقات. وكان رمضان بالنسبة للأطفال في هذه الأيام شهر الحرية، لأن الأهل كانوا يسمحون لنا بالأشياء التي كانت ممنوعة في بقية أيام السنة فقد كنا في ذلك الوقت أطفالاً صغاراً لا يسمح لنا بالتغيب عن البيت طويلاً ولكن ما إن يجئ رمضان حتى تفتح الأبواب؛ لكي نخرج إلى الشارع، حتى في الليل دون أن يقال لنا ألا نتأخر من دون أن يذكرنا أحد بموعد للعشاء أو النوم. وكانت هدية رمضان الأولى بالنسبة لنا هي الفانوس الذي كانت تضيئه آنذاك شمعة. ويواصل نجيب محفوظ قائلاً: لكن الأمر الأكثر أهمية في رمضان بالنسبة لنا كأطفال في مثل هذه السن الصغيرة أن الأهل كانوا يسمحون لي أن أخرج إلى الشارع، حتى أجتمع بالأطفال سواء بنات أو صبيان، وكان لهذا الاجتماع وقع خاص في أنفسنا حيث كنا نجتمع في مكان متفق عليه فيما بيننا، ثم ننطق حاملين الفوانيس ذات الألوان الزاهية، وندور على جميع بيوت ميدان بيت القاضي مرددين أغاني رمضان في فرحة شديدة. وعن الأيام الأخيرة في شهر رمضان يقول: كنت أشارك في عمل الكعك حيث كنت أقوم بنقشه مع والدتي، ثم يأتي الفران ليحمله للفرن، وكنت أسعد بمنظره حينما يعود من الفرن. ويصف طه حسين لحظات الإفطار بقوله: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وصغت الأذان لاستماع الآذان..وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام. فترى أشداقاً تنقلب وأحداقاً تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة..تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب. الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء..وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواهاً تلتقم وحلوقاً تلتهم..وألواناً تبيد وبطوناً تستزيد..ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود. وعن سهرات رمضان الدينية سجل شيخ الصحفيين الراحل "حافظ محمود" ذكرياته عنها في كتابه "المعارك في الصحافة والسياسة" تحت عنوان "سهرة مع الصالحين" بقوله: كانت ألوان السهر في ذكر الله أو التزود من كلمات الله علماً وعبادة في شهر رمضان، ولئن كانت ألوان كانت هذه الألوان كلها معروفة وقد امتد منها الشئ الكثير حتى الآن، فإن هناك لوناً خاصاً من سهرات رمضان..كان بعض الناس يختار في ليالي رمضان أن يستصحب أحد الصالحين المخلصين يقضي معه الليل بطوله في أحاديث الصوفية. وعن وداع اللحظات الأخيرة من شهر رمضان يقول عبد الحميد حواس: كان للغروب الأخير من رمضان وقعه الخاص - ولا زال - منذ صباي في الأربعينيات من القرن العشرين، فقد كان يسود القرية صمت ثقيل منذ ما بعد العصر، فيه أسى وترقب وتحسب من عبور النقلة من رمضان. وقبيل مغيب الشمس تتصاعد روائح البخور تغمر هواء القرية. ثم تسمع من هنا وهناك طقطقة حصوات الملح والفكوك تتقلى على جمرات المناقد. وما أن يأخذ ضوء الغسق في الانسحاب إلى ما وراء البيوت، حتى تتصاعد أصوات طرق وقرع منتظمة يتعالى معها صيحات غناء. وقد كنت أشارك في إصدار هذه الأصوات مع القرع بقضيب من الحديدة ووضعها عند عتبة الباب الخارجي للدار. وقبيل الغروب أتوا بمنقد الجمرات وقد أججت ووضع عليها البخور والملح والفكوك. حينئذ أجلس على عتبة الدار أقرع الحديد في دقات تتوافق مع أغنية مطلعها: يا بركة رمضان/ خليكي في الدار/ يا شيطان اطلع من الدار. وأواصل بهمة هذا الدق والغناء إلى ما بعد الغروب لأسارع بعدها للحاق بمائدة الإفطار الأخير. وفي قرى أخرى، كانت عملية التبخير والقرع والغناء تتم فوق أسطح المنازل، وربما استبدلوا ضرب الأواني النحاسية بالقرع على الأدوات الحديدية. والغرض في كل الأحوال، هو وقاية المنازل من غزوات العفاريت، التي ستنطلق لحظة انتهاء الشهر الكريم، وتأمين عدم إزاحتها لبركة رمضان، وضمان استمرار حلول روحه الطيبة وإقامتها الدائمة. إضافة إلى ما سبق توجد بعض الأعمال الإبداعية الأخرى التي سارت على الدرب ذاته، مستلهمة لأجواء الشهر الكريم أو متخذة منه زماناً لأحداثها، مثل "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، ورواية "لا أحد ينام في الإسكندرية"، إبراهيم عبدالمجيد، التي نطالع من خلالها العلاقة الحميمة بين بطلها الشيخ مجيد الدين المتدين النازح من إحدى قرى البحيرة، وجاره المسيحي الذي يتعامل معه وكأنه يشاركه الاحتفال بهذا الشهر، جامعاً لحالة إنسانية وممثلاً لحالة وطنية واحدة. وكذلك رواية "محب" لعبد الفتاح الجمل، وقصة بائعة الكنافة للقاص سعد حامد، وكذلك قصة "المتصابية" لعائشة عبدالرحمن "بنت الشاطئ" ضمن مجموعتها "صور من حياتهن"، التي صورت بطلة القصة المتصابية التي لا تعبأ برمضان وقدسيته. وكذلك محمد حسين هيكل في "زينب"، وانتهاء بإبراهيم عيسى في روايته "صار بعيداً". ويلاحظ أن شهر رمضان ارتبط في أعمال عديد من الأدباء بالخير والمعجزات وتحقيق الانتصارات وتنقية النفوس واستجابة الدعاء، ففي قصة "معجزة في رمضان" لإبراهيم المصري من مجموعة "صور من الإنسان" نجد بركات شهر رمضان تحل في زوجة مصطفى بك التي يهبها الله حملاً منه بعد أن يئست من الحمل وكادت أن تقع في الخطيئة. وإسماعيل المشلول في قصة "بائع العطور" لمحمود البدوي الذي يسترد قدرته على الحركة بعد أن غفي في أحد نهارات رمضان واستيقظ على تكبير الناس وهم يهللون فرحاً باقتحام الجيش المصري لخط بارليف ورفع علم مصر على أرض سيناء، فينتفض وينسى عكازه كأنه لم يكن مشلولاً من قبل.