شوقي جلال بكتابه : الاستبداد والاحتلال يدفعان شعوب الشرق ل " الدروشة "! محيط - شيرين صبحي كل المجتمعات في مرحلة النهوض تبحث في ماضيها الممتد حتى اللحظة الراهنة ، وتعيد تقييمه ، باعتبار أنه الأساس الذي تنطلق منه النهضة وليس هو طريق النهضة الحديثة بالطبع التي تتطلب معايير جديدة تواكب العالم ، ومن خلال اندماج الإنسان مع بيئته ومجتمعه وإبداعه العلمي والتكنولوجي يفرز المجتمع فكرا جديدا ، هكذا كانت أوروبا في عصر التنوير ، وهكذا كانت اليابان ، وهكذا كانت الصين ، وهكذا كان المجتمع الإسلامي زمن قوته ، حين نظر للموروث الجاهلي باعتباره فاقد الصلاحية وكانت الدعوات للتجديد . في كتابه "أركيولوجيا العقل العربي.. البحث عن الجذور" يصحبنا المؤلف شوقي جلال في كتابه الصادر عن " دار العين " في رحلة تبحث في أسباب تخلف العرب عن ركب التقدم ، رحلة تبحث في طرق تفكيرهم وحياتهم أفرادا وجماعات ، معتمدين فقط على ماضيهم وإرثهم الثقافي ، الذي أصبح مثل أسطورة هيمنت على العقول ومنعتها من الإبداع ونقد الماضي وتنفيده وصولا للنهضة المنشودة . ويتساءل الكتاب : لماذا لا نقول إن أحد التحديات التي نواجهها أننا مهمشون عالميا؟ ولا يأتي لنا ذكر ولا يعرف عنا العالم إلا أننا بلاد خام النفط وآثار للسياحة وتاريخ قديم. ليس لدينا ما نقدمه وإنما نحن نستهلك منتجات العالم الأول فكرا وسلعا مادية ومن ثم نحن زبائن أو تابعين. ولذا ليس غريبا أن تردد على ألسنة بعض مفكري الغرب قولهم "هناك شعوب لو اندثرت لن يشعر العالم بخسارة لفقدهم". يؤكد المؤلف أننا – أي العرب – وعلى مدى أجيال طويلة لم نعرف معنى الشك، وانصرفنا عن التجديد، ولم نعرف معنى إعمال العقل، ولم نعرف معنى إنتاج الوجود في تحد مع الآخر، فتعطل الفكر مع تعطل الفعل الاجتماعي الإنتاجي. ولهذا أصابنا الجمود. وينتقد المؤلف الفكر العربي الذي جعل الإيمان بالغيب أو اليوم الآخر منطقا يعوق الإهتمام الكافي بشئون الدنيا ، وهذا هو ما يسمى " منهج التفكير الغيبي " وهو يسود دائما في عصور الإنحطاط والانحلال لأنه مرتبط بانعدام العقل والفكر والإرادة للتغيير في الحياة ، ويرتبط كذلك بالتواكل ، وهذا هو المنهج السائد تاريخيا في مصر منذ سقوطها فريسة لغزوات متتالية وانحسارها حضاريا ، ومع الوقت بدأت الإرادة المصرية تسقط وتسقط القضية القومية معها ، ويتعطل الفعل الإنتاجي الاجتماعي للمجتمع المصري . الغلاف الاستبداد لإقامة العدل! واجهت مصر محاولات خصاء ثقافي متعمدة على أيدي الغزاة في تعاقبهم الذين ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل، كما يرى المؤلف، وجميع الغزاة ابتداء من الفرس عمدوا إلى تدمير ونهب ثروات مصر المادية والروحية، فدمروا بيوت ومؤسسات الثقافة فيها، حلوا الجيش وأصبحت مصر بغير أداة للدفاع عن قضية قومية، ونهبوا الكتب ودمروا المعابد وأسروا العلماء وأخرسوا الكهنة. وكان الحدث الكبير الذي قطع الحبل السري الواصل بين ثقافة المجتمع كمؤسسة وبين أبناء المجتمع، حين أصدر كل من الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومن بعده جوستنيان في القرن السادس الميلادي مرسوما بإغلاق المعابد وتحريم وتجريم تعاليمها والعبادة، وهو ما يعادل إصدار مرسوم بإلغاء الذاتية الثقافية المصرية المعبرة عن وحدة المجتمع وتضامنه وانتمائه ووحدة رؤيته. ومنذ هذه الوقائع والمصري يعاني انسلاخا عن الذاتية، وهكذا أصبح المصريون يعيشون فرادى يضمهم مكان بغير زمان، وغاب عنهم الوعي التاريخي. ويقول الكاتب أنه بالرغم من أن الزعماء الذين تصدروا للنهضة رصدوا جهدهم لبناء مصر الحديثة، إلا أنهم لم يراعوا أبعادا مهمة مثلما حدث في اليابان أو الهند أو الصين. إذ استعانوا بالاستبداد لإقامة العدل إشباعا لموروث ثقافي يفرض هذا النهج الخاطيء، وتحقيقا لمبدأ تردد في عبارة المستبد العادل، وهي مقولة خاطئة ومنافية لمقتضيات حضارة العصر. وقد نشأت على أرض مصر ثقافتان: ثقافة السلطة وثقافة العامة المستضعفين. وتحدد كل من هاتين الثقافتين صورة الذات وصورة الآخر والسلوك الواجب نحو الذات ونحو الآخر. صورة الذات عند السلطة الأبهة والثراء الفاحش والبطش والاستبداد بالآخر.. وصورة الذات عند العامة التحايل على البقاء، والتوحد رياء مع المعتدي وهذا المبدأ هو أساس ثقافة الفهلوة المعتمدة على مدى تاريخ مصر. الغنوصية يعتقد الكاتب شوقي جلال أن مصر منذ الغزو الفارسي 525 ق. م. وإصدار قرار الفرس بحل الجيش المصري، ونهب مؤسسات الإنتاج الثقافي للعقل المصري- أي المعابد، وأسر العلماء، وهي تعيش بغير قضية قومية تمثل المجتمع في إرادته الموحدة وفي تكامله وتفاعله مع الخارج وتماسك بنيته في الداخل. ويقول أن هذا الغزو كان حلقة من بين حلقات الصراع بين الشرق والغرب، أطرافه فارس ومصر واليونان، وذلك قبل ظهور عقيدة الإسلام بقرون. هذا على عكس ما يتوهمه البعض من أن الصراع مستحدث ومحوره صراع ديني بين الغرب والإسلام. وتحول الشعب المصري منذ ذلك التاريخ وعلى أيدي الغزاة المتعاقبين وحتى ظهور داعية التنوير الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى تجمع بشري لا مجتمع.. ولم يعد إنتاج المعرفة نشاط مجتمعي ولا العمل ، وإنما تحولت لأنشطة فردية خاصة بأصحابها ، ومن هنا يرى المؤلف أن هزيمة العمل الجماعي في مصر وليدة الانحلال الحضاري والقهر الأجنبي لأكثر من ألفي سنة ، ويضاف لهم الاستبداد السياسي على أيدي الحكام المحليين وتحلل الروابط الاجتماعية ، لنرى بالنهاية ثقافة الهزيمة . ويرى المؤلف أن هذا المناخ يقف وراء اللجوء إلى ثقافة الغنوصية ومحورها الهرب إلى الغيب التماسا للصبر على البلاء وتعبيرا عن العجز عن التغيير. وترسخت هذه الثقافة مع توالي القرون في ظل قهر الغزاة، وهكذا عاش المصري فردا مقهورا يلتمس الخلاص في الآخرة ، بدلا من محاولة رفع الظلم في الدنيا . الشرق الصامت في فصل مستقل يؤكد المؤلف أن صورة الآخر لدى الذات وصورة الذات لدى الآخر ، تختلف بحسب الزمان والمكان . ونذكر قول فولتير " الشرق هو الحضارة التي يدين لها الغرب بكل شيء " ، أو الفيلسوف الألماني جوتة الذي قال : " من يعرف نفسه ويعرف الآخر سوف يدرك أن الشرق والغرب توأمان لا ينفصلان ". بينما قال المفكر كيبلنج "آه، الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا ما دامت السماء والأرض إلى يوم الدين". وقال ميشيل مونتيني "الشرق مرآة لاستكشاف عيوب الغرب". ويرى صمويل هنتنجتون – مفكر أمريكي راحل وصاحب نظرية صراع الحضارات - ومن على شاكلته أن الحضارة الغربية هي الحضارة الكونية، وأن الثقافات غير الغربية لا تحمل شيئا من خصائص الحضارة الغربية، وأن الصراع بين الشرق والغرب جزء من صدام أبدي بين الحضارات. وقد ظل الشرق صامتا بفعل هيمنة الغرب إلى أن استقل وخرج عن صمته ليؤكد وجوده الحضاري والثقافي، حيث تحدثت مجتمعات شرق وجنوب شرق آسيا، وتغيرت صورة الذات لدى الآخر. شوقي جلال ثقافة الانفصام يحدثنا الكتاب عن "الهرمسية" وهي نسبة إلى هرمس مثلث العظمات، رسول الآلهة إلى بني الإنسان في نظر العقيدة المصرية القديمة.. وللهرمسية وجها سلبيا ظل لزمن طويل ملاذا للمستضعفين المقهورين المعذبين في الأرض. ويمثل هذا الوجه الرمز الاجتماعي الذي يحلق بخيال الإنسان في عالم آخر يلتمس فيه إشباعا وتقديرا مفترضين أو متوهمين تعويضا له عن واقع حقيقي أليم مهين. ويقول أنه مع اتصال واطراد الوضع المأساوي بخضوع مصر للاحتلال الفارسي منذ 550 ق. م، وجدت "الهرمسية" امتدادا عقيديا ووظيفيا لنفسها في صورة الرهبنة في ظل المسيحية أو في صورة الصوفية في ظل الإسلام وصوغ المرجعية الفكرية والثقافية للعامة. ودعت هذه وتلك الإنسان إلى ما سمته فضيلة الانصراف عن الدنيا واللجوء أو الهرب من آلام وعذاب الواقع إلى رحمة الغيب أو ترك الدنيا لأهل السلطان الطامعين، وسادت تأويلات غابت معها قوانين الدنيا. بينما غرق الإنسان المستضعف في متطلبات الإشباع الغريزي؛ مما فاقم من حالة الانفصام أو ثقافة الانفصام. ووجدت جميع النظم الحاكمة، أجنبية في السابق ومحلية بعد ذلك، فرصتها في تغذية هذا الشعور وطقوس الدروشة. وتضخم الوجدان الديني الزائف الداعي إلى الانصراف عن الدنيا سواء في صورة الرهبنة وتقديس أهلها أو سلوك الصوفية والتبرك الاجتماعي بها. واقترنت هذه وتلك بثقافة الصبر على البلاء. الواقع والأسطورة يقول المؤلف أن كل ما هو منسوب إلى عالم الغيب مقدس في كل أديان الشرق الأوسط حتى وإن كان في عالم الجان؛ وكل ما لا ينتسب إلى عالم الغيب فهو دنس وحرام، وعالم الدنيا وشئونها موضع تحقير. وبهذا ينصرف الإنسان إلى عالم خفي وإن ظلت أقدامنا على الأرض وحواسنا تغمرها ملذات الأرض. وإذا تأملنا تاريخ بعض العقائد المختلفة في الشرقين الأدنى والأوسط نجد أن بعض الفرق بالغت في غلوها عند تحديد علاقة الإنسان مع الغيب، بوصفها ركيزة الوجود والمعرفة والحرية حتى وصل الأمر إلى الغلو والتطرف في الزهد في الدنيا والدعوة إلى التخلي عن الدنيا وشئونها فكرا وعملا. ويوضح أن معنى هذا أن يعيش الإنسان واقعيا منقسما على نفسه مشدودا متوترا بين عالمين، أحدهما له الهيمنة يمتصه كاملا، والآخر يجذبه ويستجيب له ولكن يحتقره في آن واحد. فهو إنسان فصامي ممزق الوجدان. ومثل هذا الإنسان لا يكون منتجا بل مستهلكا، ولا يكون مبدعا بل تابعا. الخوف من العولمة في الفصل الأخير يتحدث المؤلف عن مجتمع المعرفة والخصوصيات الثقافية والحضارية العربية، ويتساءل لماذا الخوف من العولمة ومجتمع المعرفة؟ ومن الخائف؟ هل هم الحكام والنخبة التقليديون الذين جفت ينابيعهم ويؤكدون حرصهم على ما يسمونه قدسية الثوابت؟ أم هم الشعوب والعامة التقليديون بالوراثة الذين كانوا دائما ضحية ما يسمى زيفا الاستقرار والخوف من الفتنة بغية المحافظة لحساب الحكام؟ ويتساءل عن الكيفية التي يواجه بها العقل العربي هذا الطوفان في الثورة المعلوماتية، وهو عاطل من عدة معرفية ملائمة ولا يملك سوى رصيد معرفي؟ ويعتقد أنه طالما أن المجتمعات العربية لا تملك إستراتيجية تطوير حضاري، فإنها عاطلة من رؤية مستقبلية وعاطلة من نظرية لبناء الإنسان ورافضة لثقافة التغيير، وتعمل على ترسيخ النزعة المحافظة. ويقول إن الثقافة الحقة ليست المظاهر الاحتفالية السائدة في مجتمعاتنا العربية التي لا يتجاوز تأثيرها حدود الكلمة الرنانة والفارغة من المعنى.. بل الثقافة التي نحن بحاجة إليها ونفتقدها هي "إعادة تنظيم الذهنية للإنسان". ويختتم بأنه ليس معنى الحديث أن الطريق أمامنا مسدود، وإنما يعني أن إخفاقاتنا مردها إلى أسباب ثقافية/ اجتماعية/ تاريخية اقتصادية وسياسية. إننا ندرك نظريا ونتحدث طويلا عن عالم اليوم وحضارة العصر وعن المستقبل.. نفيض في الحديث بينما الفعل الاجتماعي مجهض موءود.