في خضم ما أراه من ممارسات إعلامية تستحق وقفة متأنية، فكرت أن أتناول الأشكال الاعلامية المختلفة، شارحاً كيفية جعل هذه الأشكال والقوالب مهنية وحيادية قدر الامكان، تاركاً للقارئ الكريم قياس ما هو مفترض، أو ملزم بمعنى أدق، على ما هو قائم بالفعل، وقررت أن أبدأ بالتلفزيون، على اعتبار أنه أكثر وسائل الاعلام إنتشاراً و تأثيراً، وفقاًلقاعدة إعلامية تفيد بأن التلفزيون هو الذي يختار متلقيه، أي جمهوره، على عكس الصحف، التي يختارها المتلقي بنفسه، فهذه الوسيلة الاعلامية الجهنمية تدخل كل بيت في كل وقت لتبث ما تشاء، وقررت كذلك أن أبدأ بأكثر أنواع البرامج التلفزيونية انتشاراً وجماهيرية، الا وهي البرامج الحوارية المعروفة ب (التوك شو)، حيث يستضيف المذيع ضيفاً واحداً أو أكثر متعرضاً لقضية أو حدث أو فكرة، من أجل عرض الآراء و الأفكار المختلفة حولها، تاركاً للمشاهد الحكم على مدى صحة أو خطأ كل رأي من الآراء المطروحة، وهنا يجب على المذيع في حالة استضافة ضيف واحد أن يمثل بنفسه وجهة النظر المخالفة للضيف، بغض النظر عن قناعاته الشخصية، على اعتبار أنه لا يوجد للرأي المخالف في الحلقة مَن يدافع أو يرد عنه، أما اذا استضاف أكثر من ضيف فليس له حينها أي دور سوى تنظيم سير الحلقة، بحيث لا يطغى ضيف على غيره من حيث الوقت المتاح، وحق العرض والرد، فهو في هذه الحاله ربّان الحلقة، يدير دفة الحوار بالتساوي بين الضيوف، دون أن يتدخل فيه، إلا إذا خرج أحد الضيوف عن سياق الحوار أو الموضوع الرئيسي، فهنا تقتضي الضرورة أن يتدخل المذيع لإعادة الحوار إلى مجراه وموضوعه الأصلي. هذا بالنسبة لدور المذيع أثناء عرض أو تسجيل الحلقة، يتبقى لنا الآن أن نعرض الدور الذي يلعبه الإعداد من ناحية، وسياسة القناة أو المؤسسة الاعلامية، من ناحية أخرى، حيث أن قواعد المهنية والحيادية تُلزم منفذي هذا النوع من البرامج بعرض الرأي والرأي الآخر، حتى تتضح الصورة (الكاملة) للجمهور، وهو الهدف والغاية، أما أن يتم استضافة أشخاص – مع احترامي للجميع- تمثل ذات الفكر والتوجه، فهذا لا يمكن تفسيره الا أنه تعدٍ سافر على أصول وقواعد المهنة الأسمى. وبذلك يمكن أن نخلص إلى قاعدتين أساسيتين يجب توافرهما في (التوك شو) ليكون مهنياً أقرب الى الحياد من غيره، (على اعتبار أن الحياد التام مستحيل عملياً): أولاً: أن يتبنى المذيع رأي الطرف الآخر غير الموجود في حالة استضافة شخصية واحدة، والمساواة بين كافة الضيوف في وقت العرض وحق الرد في حالة وجود أكثر من ضيف. ثانياً: استضافة شخصيات تمثل وجهات نظر مختلفة، وعدم الاقتصار على رأي واحد لعرضه، مراعاةً لحق الجمهور، الذي يستحيل أن يكون- بكافة فئاته - متبنياً لنفس الرأي والتوجه. فإذا ما توافرت هذه الشروط في البرنامج، أمكن حينها القول بأنه برنامجاً مهنياً وموضوعياً، يحترم جمهوره ويعمل على ارضائه بكافة توجهاته وفئاته، أما إذا لم تتوافر بالكامل (دون نقصان)، فالفاتحة على روح الحاجة "مهنية". لقد عاد الإعلام المصري – للأسف- الى تقديس أشخاص بعينها، وعدنا مرة أخرى الى زمن الأسقف المنخفضة، فبرغم اختلافي مع معظم الرموز الاعلامية، التي أحترمها جميعاً، الا أنني كنت أرى علامة إيجابية تتمثل في اختفاء ما كان يسمى ب"سقف الانتقاد"، الذي لا يستطيع أي شخص أن يتعداه، و إلا "يروح ورا الشمس"، أما اليومفللأسف عادت هذه الجملة القميئة للظهور مجدداً، وأصبحت تحكم تصرفات الأغلبية، حتى النخبة، إذا صحت تسميتها كذلك، أصبحت تخشى من "البعبع" الذي ينتظرها وراء الشمس، إذا ما إعترضت أو إختلفت أو انتقدت أو حتى فكرت... ولا عزاء لأصحاب العقول دمتم في أمان.