كانت كالفراشة تحلق بآلتها الموسيقية على خشبة مسرح الأوبرا، لتعزف نغمات مقطوعتها، لم تكن وقتها تلك التي رشحت كوزيرة بعد رحيل حكم الإخوان، ولا رئيسة لدار الأوبرا المصرية ذلك الصرح الفني الثقافي الهام الذي امتد تاريخه لعشرات السنين. فأداءها حينما تعزف ينم عن عازفة بارعة تحس وتشعر بكل ما تطلقه من نغمات.. ينصت إليها الجميع.. فتخاطب إحساسهم بهذه الآلة الجميلة التي تنتمي لعائلة آلات النفخ وهي "الفلوت"، صاحبة الصوت الصافي الذي يمتع آذان المتلقيين. تحركت على المسرح وهي تعزف وتمايلت هنا وهناك مع نغماتها الرقيقة، التي يساندها خلفها أوركسترا يضم عازفين بارعين على آلات مختلفة، الفنانة إيناس عبد الدايم التي نسيت لبضعة ساعات أنها رئيسة لدار الأوبرا لتعود لفنها الأصيل، قدمت أمس وأول أمس حفلين بقيادة المايسترو محمد سعد باشا ضمن الموسم الخامس والخمسون لأوركسترا القاهرة السيمفوني، وبمشاركة عازف البيانو محمد صالح، وعازف الكونترباص شريف عليان، وعازف الدرامز هشام كمال، الحفل الأول كان بدار الأوبرا بالقاهرة، أما الحفل الثاني فكان في مسرح "سيد درويش" بأوبرا الإسكندرية. تضمن برنامج الحفلين، باقة من أشهر أعمال موسيقى "الجاز" الكلاسيكية العالمية لكبار المؤلفين منها "افتتاحية كوبا" و"أمريكي في باريس" لجورج جيرشوين (1898 – 1937)، و"متتالية للفلوت وثلاثي بيانو الجاز" للمؤلف الموسيقى العالمي الفرنسي الأصل كلود بولينج (1930) الذي كتبه خصيصًا لصديقه أشهر عازف فلوت في العالم "جون بير رامبيل". وقد بدأ مشروع هذا الحفل منذ حوالي ثلاث سنوات، واستطاع خلال هذه الفترة أن يقدم صياغة أوركسترالية جديدة لمتتالية "الفلوت" و"البيانو" تقدم لأول مرة في العالم على غير المعتاد، وهو رصيد جديد يضاف لمكتبة الأوبرا والأوركسترا السيمفوني ويعد من مؤلفات الجاز الكلاسيكية، التي تجمع بين الآداء الكلاسيكي والحر، ويعتمد على إيقاعات الجاز مع الالتزام بالقوالب الكلاسيكية، -مثلما قال المؤلف الموسيقي محمد سعد باشا وقائد الأوركسترا – مؤكدا أن اختيار الصوليستات لأداء هذا العمل يأتى لتمكنهم في تقنية العزف الموسيقي بأشكاله وقوالبه المختلفة خاصة د. إيناس عبد الدايم، التي مازالت تحافظ على لياقتها ومستواها الفني المعهود عنها رغم انشغالها وانخراطها في العمل الإداري. كان الحفل أمس وأول أمس ممتلئ بالجمهور العاشق لموسيقى الجاز الكلاسيكية، والذي ظل يصفق بضعة دقائق بعد الانتهاء من كل فاصل موسيقي، لدرجة أنه عندما انتهى الحفل واتجه بعض الحاضرين إلى الكواليس ليصافح ويلتقط الصور مع الفنانة القديرة د. إيناس عبد الدايم، كانوا يقولون لها: "أهذا لم يكن أفضل من الوزارة والمناصب؟"، فأجابت بدون تفكير: "طبعا.. لا شيء في العالم بأكمله يضاهي الإمساك بتلك الآلة الموسيقية وإبداع الفن". مضيفة: "ولا الجلوس على أعظم الكراسي الإدارية يماثل الوقوف على خشبة المسرح أمام الجمهور العظيم". وكان المسرح ينبض بالسعادة وفرحة الحضور الذي انتقل بالفن لحالة حالمة سارحة في النغم الجميل، بعيدة عن صخب الحياة السياسية في مصر، والتفجيرات والانتخابات والاعتصامات، وخلافه. استخدم في "الافتتاحية الكوبية" عناصر موسيقية جديدة غير غربية من الإيقاع الكوبي ومزجها بتقنيات التأليف الموسيقي الكلاسيكي، قدمت نوعا جديدا من الموسيقى إلى الشعب الأمريكي وذلك عند تأليفها عام 1932؛ حيث أعطى المؤلف دوراً هاماً لأربع آلات كوبية وضعهم على المسرح في مقدمة الأوركسترا بجانب القائد. أما "أمريكي في باريس" فكتبه المؤلف عام 1928 في صيغة القصيد السيمفوني، وينقسم إلى خمس حركات مكونة من ثلاثة أقسام رئيسية. يتضمن القسم الأول حركتين يعبر فيهما المؤلف عن زيارته لباريس من خلال اتباعه الأساليب الفرنسية في التأليف الموسيقي؛ حيث نرى بوضوح سمات المدرسة التأثيرية في الكتابة، هذا بالإضافة إلى تأثره بأسلوب موريس رافيل في لغته الهارمونية – كما قال د. عمرو عقبة في كتالوج الحفل –. أما في القسم الثاني والذي يمثل كل من الحركة الثالثة والرابعة فنرى بوضوح حنين المؤلف لبلاده وعودته إلى موسيقى البلوز والجاز معبرا عن قوميته الأمريكية. وفي الحركة الخامسة والأخيرة نرى جيرشوين يمزج فيهما بين كلا من الثقافتين معا في بوتقة واحدة مستخدما ألحانا ومصاحبات هارمونية من كلا الأسلوبين في آن واحد. وفي "متتالية للفوت وثلاثي بيانو الجاز" مزج المؤلف كلود بولينج بين موسيقى الجاز والموسيقى الكلاسيكية، وتبدأ المتتالية بحوار بين موسيقى الباروك الأوروبية والتي تعود إلى القرن السابع عشر وموسيقى البلوز، ثم يليها أمواج آلة البيانو الاربيجية المنسابة ممهدة لدخول آلة الفلوت بغنائها الرقيق في الحركة الثانية ممثلة الطابع الكلاسيكي. أما الحركة الثالثة فيظهر بها كلا الأسلوبين معا في شكل أقسام متباينة مصفوفة بجوار بعضها البعض، ثم تختم المتتالية بحركة أخيرة نشيطة تمثل كودا ختامية تظهر مهارات آلة الفلوت وقدراتها التعبيرية. وكتب بولينج هذه المتتالية في شكل سبع حركات لآلة الفلوت وثلاثي البيانو (البيانو – الباص – الإيقاع)، لكن ما تم عزفه في الحفلين خمسة حركات أعدها للأوركسترا المؤلف الموسيقي والقائد محمد سعد باشا.