في مكتبة مطار بيروت الدولي استوقفني كتاب بعنوان "قلب من خوص" للشاعر والكاتب السعودي إبراهيم عبدالله الجريفاني، سألت نفسي مبتسمة (مالي أنا والأدباء السعوديين في رحلتي ذهاباً وإيابا!) وبعد دهشتي من هذه المصادفة الجميلة اشتريت الكتاب وأضفته إلى المجموعة التي اخترتها من أربع دول خلال رحلتي التي قمت بها. إبراهيم عبدالله الجريفاني السعودي هو من جالست حروف أقلامه وأحلامه طوال فترة انتظاري من صالة المطار حتى وصولي إلى القاهرة، وأنا أسجل في ذهني محاوراته الذاتية منذ سؤاله الأول من نصه "هل يعود الأمس غداً" حتى ابتهالاته في النص الأخير "لم يا نفس .. مني تتنكرين؟" وهو يتنهد ابتهالاته الدينية الروحانية، حتى البلاغة في أسئلته وسخريته من الحروب القائمة على الساحات/ وعن سيل الدم العراقي/ وسلة المشاورات بين سوريا ولبنان/ وبين أصابع القادة العربية التي لا تخلو من المهازل/ ومكائد الإدارة الأميركية/ وعن التناقضات السيكولوجية والعقائدية/ وأسهم العملات/ وتناقض الواقع المهني/ والعالم الذي شبهه الجريفاني بالمباراة الهلالية، "كما ركز على عقوبة جمهورية الكلمات الخارجة عن النص". ربما يقصد الشاعر بوح المعاني في مركبات الصحراء/ أو العقائد والتقاليد الموروثة في بعض المجتمعات. هذه هي كانت ترجمة عناوينه ونصوصه المتنوعة الذي طرحها على أوراقه بلغة بسيطة وغير ملونة أو معقدة. في كل مرة يبدأ الجريفاني بعد النقطة الأخيرة من كل النص، حتى وأنه لم يترك باباً مفتوحا للتناقضات إلا ودخله، ولم يترك باباً للوصول إلى تصوفه الذاتي إلا ودخله، حتى شكوكه في عروبته في قصيدة "عربي أنا بلا هوية؟" يضع فيها وساوس أفكاره بماء أسئلته: ويسأل: بماذا أفخر؟/ بالهوية أم بالقضية المنسية؟/ فكل يوم تداس الكرامة العربية/ أشاركك العزاء في فقيدتنا الهوية/ تعالي معي لننعي الهوية/ حين تحبل النساء تسارع للولادة في الأراضي الأميركية!/ والنار المشتعلة بالعراق ولبنان وغزة وحيفا، كما سخر من طوابير مواطني الهوية أمام السفارات الأجنبية. نعم هذه هي أبجديات الشاعر إبراهيم بصدق رؤاه وشفافية أفكاره وجميع فلسفة مكوناته التي التقطها من النفوس حتى أصبح، كسنابل القمح يغذي نفسه على شعيرات الحياة الزاحفة نحوه، كقصيدة "حالة مزاجية غريبة": بعد أن تعلمت الترقب دون استحياء/ وأتقنت لغة الصمت/ وأتقنت لغة الصم/ وتعلمت لغة العيون/ ودروس القراءة بطريقة "برايل". ليخرج بعد هذه الاستنتاجات أن كل الوجوه مقنعة/ منقبة/ متوحشة/ متلونة/ فاقدة للمصداقية/ حتى أفقدته التميز لجمالية الألوان. وهل يعتقد القارئ أن الشاعر هرب من خشونة السياسة أو أنه نسي العراق حين عصفت به الأيام وقال، "إياك دجلة والفرات": يا عراق أسفاً عليك .. فقد مثلوا بجسدك ولم يمنحوا الميت أكراماً الدفن بل جعلوه شاهد خزيهم وهنا ضاعت الأرض والقضية. هذا هو الشاعر إبراهيم، يأخذك من السياسة إلى الحب/ إلى البحث عن الذات / إلى الأرواح والتساؤلات/ وحتى القوانين والمحاكم الدولية/ وقضايا التسليح/ والتكنولوجيا/ وعن الصديق والعود/ وعن الأيادي الخفية/ والأسهم والعملات والبورصات والقوانين. وللعلم أن عمليات البورصة هي من إحدى هوايات الشاعر المحببة، ولذلك يسأل الدول الإسلامية في نصه عن استهلاك الدولار ويسال لماذا: ادفع دولارا .. تقتل عربياً السؤال الذي ما زال يقلقني من هو العدو الحقيقي للدول الإسلامية؟ والجواب لم يكن خافياً. ادفع دولاراً تقتل عربياً وتحرق أرضاً عربية عجبي من زمن ندفع لنتقل عربيا! ومن سخرية القدر ومرارة الحزن أخذته الرغبة لدخول دنيا الأموات ولفحات الكفن/ ورائحة السدر/ وجنازة الموت /وهتافات التسبيح /والاستغفار /في القبر الذي اختار أن يموت ليوم واحد ويخاطب الأرواح ليكتشف أن الحياة فوق الأرض هي أكثر فجيعة وأكثر إيلاما من الحياة تحت الأرض. ولن أنكر أن إبراهيم دفع بي لمشاركته في البحث بين أوراقه عن الحبيبة التي يريد أن تمتلكه/ تضمه/ بين ذراعيها/ تلهو معه فوق أمواج ليله/ تدغدغ أحلامه الساكنة/ داخل مراهقته التي لا يرضى لها النضوج أو زحفها نحو النسيان. فهو لا يمل البحث عنها في شوارع "فردان" والمقاهي ومن النوافذ والمطاعم ومن فوق أمواج الشطآن حتى أغرق تفكيري في بحر أنثاه وملكوته المغطاة فوق لغته كأزهار الربيع وفاكهة الصيف بضوئه المغسول بالحزن وبياض ملاحقة أسئلته الضائعة في مملكته، إلى أن يهرب من واقع النهارات المغمس بالتناقضات ليعيش داخل فتنة الليل ببوحه بلا خوف ووجل من منتصف العمر المتأرجح بين السالب والموجب وداخل مركباته الصحراوية المكابرة ومن تحت عباءاته الشرقية المتحفظة وبانزلاق تنهدات الجسد الذي أعاده طفلا أو مراهقا كما اعترف في قصيدة "مراهق خمسيني" حين وصف نفسه بصدق وبما عاشته مخيلته بعينين ساخنتين حين رأى فتاة تفوق الجمال ووصفها بأجمل من الموناليزا (دافنتشي) كان صادقا، نعم كان صادقا حين خرج إلى وعيه بعد خروجها من المقهى وبعد صحوته على صوت همساته المسكونة بزغردة الجسد حتى سأل نفسه: ترى هل عشته مراهقة قرب الخمسين أم أن الله جميل يحب الجمال سؤال ما زال محيرني؟ لم ييأس الجريفاني من البحث عن أنثاه المحببة له قلبا وقالبا حتى يتلمس عشقه من صدق صدرها. لذا نراه يتكلم عن الحنين والاشتياق والشهوات والارتجالات والتنازلات والهفوات ومحطات العمر، وهروب الزهرات من ملامح الأنثى، في عشقه وحنينه اللذين يسريان في شريانه النابض بالحب داخل حلقات عينيه ليطوف الليل فوق أحلامه. شاعر حالم يستنجد باللهفة وهلوسات الحب السريالي، يخاطب نفسه/ حبيبته / معشوقة أحلامه/ ينزف أقلامه المدربة على بساطة مفرداته حين يخرج الصمت المؤجل من الأحلام والمقابر ومن قفز المعاني وأباريق اللهفة بينما ينتظر ذراع امرأة تحتويه/ تحيطه في ملهماته/ تسكنه/ تحلم بدلا عنه/ تمتلكه/ تنطق كلماته/ يسلمها ألوان لوحاته/ واستعراضاته/ إيماءاته/ وروائح كلماته المعطرة بأزرار رحيق حفيف العبارات ورهيفها، الذي يجمعها بعنوان واحد في قصيدة "إلى من تسكنني .. شوقاً". ثم ينتقل بالبحث عمَّن تحبه في ملكوته ووجدانياته في نفوس البشر محاولاً التقاط ملامح حبيبته من كل امرأة، وفي جميع الوجوه وكأنه يبحث عن من تأنيث ملابسه ومركبات أحلامه / ليترك لها عصمته الروحية وقيود أساور معصميه وانزلاق تنهدات مراهقته المكابدة / يحلق بأجنحة غزلياته المنهارة كالجبال في أنثى أمواج بحره المنهمك بتأملاته وتربص نظراته وترقباته بمن تجالسه نفسه يحاورها "يحاور نفسه" في قصيدة "البحر ووجهك وأنا" من خلف الزجاج الذي يفصله عن البحر يحاسب نفسه ويسألها إذا كان راضيا عن نفسه وما فعله وعن الخطأ والصواب وما حققه وما لا يحققه وووووو وهناك الكثير الكثير من المساءلات النقدية والفلسفية الحياتية عامة وهو يصفها بصدقه اللا محدود وبأسلوبه العميق والمتمعن بحالته ومعرفته بما يريد وعلى من يبحث. ** منشور في "ميدل ايست" 9-5-2008