دمرنا شهر رمضان تحت سنابك المسلسلات الجوفاء والإعلانات الزاعقة والبرامج وأسئلتها المملة التافهة المكررة، وأصبح شهر رمضان يمتلئ بنقنقة أصوات الضفادع التافهة الفجة، ثم داهمناه بفرقعة الصواريخ والبمب الصيني الذي جعل حياتنا مرتبكة أكثر مما هي مرتبكة، ومضطربة أكثر مما هي مضطربة، كما أن الضفادع التي تنقنق ليل نهار جعلتنا لا نفرق بين رمضان وأيام العام العادية، ولم يتبق لنا وسط كل هذا من رمضان إلا الصوم وهو الركن الثالث من أركان الاسلام وصوت النقشبندي. نحمد الله أنه لم يمس حتي الآن- وأقصد صوت النقشبندي - وهو الصوت الذي لم تصل إليه سنابك هؤلاء، لأنه صوت قوي قادر علي الصمود، إنه الصوت الذي يهبط عليك فيجعلك ويحيلك إلي حالة من التجلي والروحانية والشفافية نادراً أن تصل إليها وسط أصوات الضفادع والباعة والزحام والمنشدين والشيوخ الجدد، ذلك لأنه يفهم معني اللغة العربية وقوتها وقوة تأثيرها في النفوس، انه صوت حمل رسالة من الله، ورسالة من السماء لعباده، ورسالة بين العبد وأخيه الإنسان في أي مكان ومن أي دين أو ملة أو طائفة، إن القوة التي يتميز بها صوت النقشبندي تجعلك تحفظ الكثير من الادعية والابتهالات والآيات القرآنية، في يسر وطلاوة وحلاوة، بعيداً عن الحدة والتذمت والترهيب الذي يمارسه الكثيرون في حياتنا الآن. الهوية المصرية سيد محمد النقشبندي، ابن قرية «دميرة» إحدي قري محافظة الدقهلية بدلتا مصر، وهو من المنشدين الذين ظهورا وقت البحث عن الذات والهوية المصرية والعربية بعد نكسة عام 1967، لذا لا تستطيع ان تدخل شهر رمضان وتلتف فيه بالرحمة والمغفرة والخشوع بدون صوت النقشبندي، لدرجة انني كنت أعتقد ان النقشبندي صديق خاص لسيدنا جبريل يجلس معه بين طبقات السماء وسط السحب الكثيفة، أو علي أبواب الجنة، ينصت لكل أمر إلهي يأخذه سيدنا جبريل وكل رسالة يحملها إلي عباده، لذا فهم النقشبندي الرسالة السماوية وان تؤثر في قلوب وارواح البشر، وهو صوت كان يمكن ان يأخذه الازهر كصوت لنشر الدعوة الإسلامية في البلاد التي لم يدخلها الاسلام، صوت يعبر عليه الإسلام والتواصل والسلام الإنساني، يعبر عن الحضارة العربية والإسلامية في آن واحد، هكذا يكون الصوت القوي الحاد الناعم المتدرج في الطبقات، والذي يصعد ويهبط ويتقافز بك ويدخلك في حالة من السكينة والرحمة، يجعلك تري الذات الإلهية وتتجول في أروقة الجنة، من خلاله تشعر برهبة وخوف من النار، هذا هو ما اشعر به من خلال صوته، لذا لم يتجاوز أحد صوت النقشبندي، لأنهم يبحثون من خلال صوتهم عن المال، وهذا ليس هدف من يحمل رسالة، ورسالته عامة لكل البشر، مسلم او مسيحي. انه سيد محمد النقشبندي، صوت السماء وإمام المداحين والكروان الرباني، وقيثارة السماء ونغمها الرقيق، الصييت، والصوت الخاشع، وشيخ المداحين، واستاذ الابتهالات، الموهوب الفذ الناعم المتصاعد بنا في الملكوت السماوية، وصاحب الصوت الذي يراه الموسيقيون أحد أقوي وأوسع الأصوات مساحة وطلاوة في تاريخ التسجيلات والأصوات والانشاد الديني. علقة جزائرية مع أن النقشبندي كان صيته قد وصل لدول وأقطار كثيرة في العالم الإسلامي والعربي والخارجي، وأن صوته كان ينتظره الكثيرون بلهفة وشوق، إلا انه لا ينسي أن صوته كان سبب علقة ساخنة له، لان ابتهالاته من عذوبتها وقوة تأثيرها قد جذبت له الكثيرين أثناء تأدية فريضة العمرة في الستينات من القرن الماضي، لكن هذا لم يعجب بعض المعتمرين الجزائريين المتعصبين الذين لم يفهموا معني الابتهالات والمدائح والاناشيد الدينية، فاعتقدوا انه خروج علي القيم والمفاهيم الإسلامية، فأوسعوا النقشبندي ضرباً ، لولا تدخل ودفاع مجموعة من المصريين عنه. الجميل أن صوت النقشبندي استطاع أن يرتفع من تراب الشوارع والحواري ورمال الصحراء وعديد الجنائز حتي وصل إلي قصور الأمراء والرؤساء، فزار العديد من الدول العربية والاسلامية بدعوات من هؤلاء الامراء أو رؤساء الجاليات، حتي أن الرئيس السادات كان من المغرمين بصوت النقشبندي، ودائماً يرسل في طلبه خاصة عند تواجده في قريته «ميت أبوالكوم -المنوفية» ليشدوا وينشد له الابتهالات في مدح النبي (صلي الله عليه وسلم) والحب الإلهي. لقاء رمضاني لقد ارتبط صوت الشيخ النقشبندي بشهر رمضان ارتباطًا وثيقًا، و ما أن نسمع صوته وهو يتضرع إلي الله بالابتهالات والأدعية مبتهلا بعد كل أذان، حتي نعرف أننا بدأنا بالفعل صيام شهر رمضان، فصوته الأخاذ القوي المتميز، طالما هز المشاعر والوجدان وكان أحد أهم ملامح شهر رمضان المعظم حيث يصافح آذان الملايين وقلوبهم خلال فترة الإفطار، أو وقت السحر والإمساك عن الطعام، بأحلي الابتهالات التي كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معه مشاعر المسلمين، فيكفي أن تستمع لكلمة (يارب) بصوته، أو مولاي- أغيب - يارب إن عظمت ذنوبي - النفس تشكو -.ربّ هب لي هدي...) لتجعلنا نردد بخشوع ونسجد لله ونطلب غفرانه ونفحاته ونشعر بأنه قريب منا وأنه - حقا - يسمعنا ويجيب دعاءنا. النقشبندي واحد من أبرز من ابتهلوا ورتلوا وأنشدوا التواشيح الدينية في القرن العشرين، صاحب صوت ملائكي منغّم وهو كما قالوا عنه كان ذا قدرة فائقة في الابتهالات والمدائح حتي صار صاحب مدرسة، ولقب بالصوت الخاشع، والكروان، ولقد ذاع صيته كقارئ ومنشد ديني بطريقة فريدة وصوت عميق يتميز بالقوة والإحساس، وصار صوته علامة متميزة في عالم الإنشاد والابتهالات، وقد امتاز الشيخ النقشبندي في عالم المدائح النبوية بنقاء الألفاظ البديعة والأشعار الجيدة التي تدعو الناس لحب الله ورسوله بأسلوب راق وصوت خاشع ونبرات قوية متميزة والتي تعد قمة في الداء والتعبير. النقشبندي، كروان السماء ومنشد الأرواح، يجعلك تشعر بالسلام الداخلي مع النفس، والعالم الخارجي مع العالم أجمع ومع رب السماء. مولاي .. إني ببابك قد بسطت يدي لو قرأت أو سمعت تلك العبارة في أي وقت بدون صوت النقشبندي، فهي تفقد قوتها وتأثيرها، لأنها جملة خلقت كي نسمعها من شفاه النقشبندي وصوته مما يزيدها تأثيراً وقوة وصفاءا. تجربة الشيخ النقشبندي تجعلنا ندخل باب الفن في الإسلام والأنغام والألحان، لكنه - ولا أقصد التشدد في هذا الأمر، يجعلك تشعر أن هذا هو الفن الحقيقي الصافي، فالفن صنع كرسالة يوصل بها الإنسان ما يريده ومدي تأثير فنه في متلقيه ومستمعيه، وأعتقد أنه لولاه ما كان هناك إنشاد يمكن أن يقبل عليه الناس، فهو بمثابة علامة فارقة في تاريخ الإنشاد الديني، بل إنه يعد مدرسة متفردة ومنفردة في هذا المجال الصعب. هسيس الريح إن صوت النقشبندي صوت تم جمع طبقاته من هسيس الريح وتصادم السحاب ومن بين خياشيم الأسماك وحوافر الجياد ورفرفة أجنحة اليمام وزئير السباع ومناوشة الأمواج، صوت يحيلنا إلي الملكوت، يرتفع بنا عالياً، عالياً حتي نصل للسموات العلي، نلتحم مع الملائكة ونصارع الشياطين والهموم والهواجس وشياطين الأرض، نعانق الجبال ونلثم الأمواج المتصادمة، فيهبط بنا ممزقين، مفتونين، متجليين، ابرياء ومذنبين إلي قطع مفتتة، وتكون الأرض - حينئذ - جاهزة لاستقبال مقاطعنا، واجزاءنا، فنتجمع في الطبقات الصوتية للنقشبندي، كي نصبح تواشيح وقصائد ومدائح نبوية، تغلفنا الدهشة والبراءة والعري والحلم، ونصبح للحظات من حياتنا - بني ادميين - نعم بني ادميين حقيقيين، حيث نركع ونسجد ونزرف الدموع ونرفع أكف ايدينا نستقبل ما تهطل به السموات علينا من خيرات، هذا هو الصوت الذي يجمع روح الصحراء وندي الغيطان وحرارة الأمواج وطوفان الدموع وضجيج الأطفال. هو صوت يجعلك في حضرة المصطفي، يتنقل بك من القاهرة لجدة للرباط لبغداد لسدرة المنتهي لأبواب القدس المغلقة، فتجدها مفتوحة تستقبلك وتجد برفقتك كل الصحابة والاولياء والصالحين، الجميع أبيض، والجميع طاهر، والجميع مبتسم، ونصعد للسماء السابعة ثم يعود بنا إلي جنات عدن ورياض الصالحين ونعيش وسط الصحابة ونجاهد معهم، نغزو ونفتح بلاد الروم والفرس وما وراء النهرين وندك عواصم العالم أجمع بكلمة الله أكبر، ويارب العالمين، نقتل المقوقس ونهيم في صحراء نجد والشرقية وسيناء، ونصبح نيروز وقمر ورخ وغلالة من البشر والنفحات والخيرات، صوت يجعلك في حضرة المولي عز وجل وتسير في معيته ونوره، تغلف روحك قدسية المولي، لانه صوت حاد كأزيز الناموس، متصاعد لقلقة الجمل، عريض كنعير الأبقار، هادي كخربشة الأرانب، صريح كزئير الاسد، إنه المتجلي يجعلك تبحث عن كهف أو غار تتعبد فيه، تقف علي قمم الجبال وتشعر بوجودك وانسانيتك وضعفك فتبكي حتي تغرق الرمال تحت نعليك، تسجد فتذوب الأرض من حرارة أنفاسك، ثم تكون صارخا مطاردا فتصبح المسيح والعذراء ويوسف في الفرار من هيرودس الشرير، ثم تستكين حتي تدخل قلب حوت يونس، بعدها يصبح صوتاً جهورياً كموسي وهو يزعق في آل اسرائيل، إلي أن يهدأ الصوت ويستكين فيصبح نغمات السلام التي جاء بها سيدنا المصطفي (صلي الله عليه وسلم). أصل الألحان صوت ناعم كالعاصفة، حام وساخن كقلب المؤمن، قادر علي أن يلثم القلوب والعقول والأرواح العصية، فتتفت وتذوب في الإيمان بالله وقدرته وعظمته وجبروته، أنصت لأي طبقة من صوته، سوف تكتشف أن اصل الألحان أن تكون قادرة علي إقامة كيان ولغة وتفاعل تتحرك فيه الكلمات، جاذبة أذن وعين وقلب المستمع، تمتلئ وتمور في معانات ودلالات لا تكاد - من فرط استيعابه للعالم حوله - تشعر أنه لحن لك وحدك، وأن العالم أصبح ملكك. لقد جذب صوت النقشبندي العديد من الشعراء والكتاب الكبار فكتب له: عبد السلام أمين، عبد الفتاح مصطفي، محمد علي ماهر وهو أحد من شاركوا في كتابة فيلم «الرسالة»، كما جذب من كبار الملحنين: بليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبد العظيم عبد الحق. لذا تظل تجربته الجميلة مع الموسيقار الفذ بليغ حمدي، في أيام رمضان خلال حرب أكتوبر، ابدع ما يكون من تواشيح وابتهالات، حيث أطل صوت النقشبندي وهو ينشد ويبتهل ويدعو للجنود الذين يحاربون علي الجبهة في إطار مشروع فني جمعه بالملحن والموسيقار الكبير، وهو واحد من قلة من الملحنين يعرفون قيمة الإنشاد والمديح النبوي في الموسيقي الشعبية، بل إن بليغ حمدي في تجربته مع النقشبندي حقق التلاقي الرائع بين العلم والتلقائية أو الروح الشعبية المصرية، وأصبح النقشبندي علامة من علامات رمضان ودليلاً عليه حتي في الأيام العادية إذا سمعت صوته شعرت بأنك تعيش ساعة ما بعد الإفطار في أيام رمضان، فلا نستطيع أن ننسي ابتهالاته : مولاي، أقول متي، ياليلة في الضهر. إذا كانت نكسة عام 67 علامة فارقة في التاريخ المصري، فأن النقشبندي بصوته وابتهالاته، قام أثناء حرب الاستنزاف بعد 1967 في رفع الروح المعنوية لجنودنا علي الجبهة حتي جاء نصر أكتوبر عام 1973 . مأساة الروح إن النقشبندي موهبة كبيرة تجمع بين أصول عدة حضارات وصوته من الأصوات التي تلقي هوي في نفوس المصريين المسلمين والمسيحيين في آن واحد، لان صوته يحمل في احشائه بذور الأسلام ورسالته ومساره التاريخي والانساني، تلك التي يتجلي فيها صراع الإنسان مع نفسه أو مع بيئته أو مع القدر الذي رسم له، انه تلخيص لمأساة الروح والعقل والقلب في صراعهما الدائب من أجل الكشف والتحقق، صوت مصري صميم فيه الرمال والتراب والساقية، وعديد الجنائز بعيداً عن نقنقة الضفادع والأصوات الملونة المصبوغة، وهو صوت له رائحة، وائحه صوته العذب تعصف بمستمعيه، يخرج من حنجة وقلب يشع بهاءُ، صوت قادر علي التحرر من الذات، ليسبح بك في الملكوت حتي يأتي التحرير - تحرير الروح والجسد من الشهوة والغفلة والتصارع من الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان المصري، صوت صافي لا يوجد به غبار او نشاذ او اسقاطات صوتية، يجعلك تحلم في منتصف النهار. إن صوت النقشبندي الدافئ الواقعي، والواخز الذي يوقظنا من ضعفنا الإنساني وقله حيلتنا ويأخذ بأيدينا إلي فضاءاته العليا بعيداً عن ترابية البشر وعهر الواقع وعبثيته وقبحه، يجعلك مسكوناً بمس النبوة. الانشاد الديني الآن، يحتضر وذلك بسبب الضفادع التي تنقنق به في الفضائيات والقنوات والطرق والتكاتك، وإذا كانت هذه الضفادع قادرة علي التطور والسمو بالروح الانسانية لظهر منها ما قد يصبح كروان آخر او هديل يمامة أو حتي زقزقة عصفور علي أغصان حياتنا، إلا ان الضفادع رغم حنجوريتها لا تستطيع ذلك. لقد عاش النقشبندي بجوار العارف بالله سيدي أحمد البدوي بمدينة طنطا، وقد توفي النقشبندي صغير السن في الخامسة والخمسين من العمر بعد ان ابدع وقدم لنا أشياء نحن في أمس الحاجة إليها الآن، وقد كرمته الدولة كثيرا، ويكفي أن نعلم أن أكبر شوارع مدينة طنطا والتي عاش فيها أغلب أيام عمره، قد أطلقت اسمه علي احد اشهر شوارعها. إن الانشاد الديني وصوت النقشبندي يجعلنا في حالة من الوجد والصوفية نادراً ان تحصل وتصل إليها مهما استمعت، لذا لم نعد نسمعه ألا قليلا وهو ليس خطأ صاحب هذا الصوت والحنجرة الجبارة، بل خطأ اصدقائنا في الاذاعة والتليفزيون، فهم يتقافزون وينقنقون بكلماتتهم كما نتقافز نحن وراء لقمة العيش من ميكروباص إلي توك توك إلي مترو أنفاق، لم نعد نقف ونحلل ونستمع ونستمتع ونتذوق كلمات نحن في اشد الاحتياج إليها، وآه لو كان النقشبندي موجوداً خلال ثورة يناير، لجعل من كفاحنا وشهدائنا ودمائنا وقولنا كلمة لا، نغما خاصًا، بدلا من الذين تقافزوا في كل الميكروفانات: وهذا الشاعر الكبير وهذا الشاعر الخطير، حقاً ان الله لا يتقبل صيامنا إلا من خلال صوت النقشبندي، ولا اعني هنا الخروج او التجاوز بل ان النقشبندي اذا داهمك صوته في جوف الليل أو قبل أن تضع البلحة في فمك كي تجرح صيامك، فهو صوت قادم يدثرك بالاجلال والنغم والأمل في الغد، ونحمد الله ان الذي بقي لنا حتي الآن صوم رمضان وصوت السماء: النقشبندي..