شهدت الحياة الأدبية في الولاياتالمتحدةالأمريكية مؤخراً ظاهرة جديدة، تتجلى في حضور نوعي مفاجئ لأعمال أدبية متميزة كتبها أدباء جدد يعتبرون بالمعنى التقليدي طارئين و غريبين في المشهد الثقافي و الحياة الأدبية الأمريكية. يشترك هؤلاء الكتاب الجدد في أنهم جميعاً لاجئون هربوا مؤخراً من بلادهم بسبب الحروب و المجاعات و المذابح التي دمرت مجتمعاتهم و لجؤوا سياسياً أو إنسانياً إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. و تشترك أعمال هؤلاء الكتاب جميعها في أنها تعالج تجربة اللجوء بكل ما فيها من تعقيدات إنسانية و ثقافية و سياسية، تعالج هذه الأعمال تجربة اللجوء في فضائها الأمريكي، حيث يقتحم الكتاب هذا الفضاء لا ليعيدوا إنتاج وهم عزلته عن كوارث العالم المعاصر، وهو وهم عريق في الثقافة الأمريكية، بل ليفككوا هذا الوهم و يضعوه في مقام الخرافة. إنها خرافة البراءة الأمريكية التي سيطرت على المخيلة الجمعية للأمريكيين لعقود طويلة و التي نجحت إلى حد بعيد في عزل المجتمع الأمريكي عن الكوارث الإنسانية التي ساهم بتحقيقها منذ تدمير ثقافة و مجتمع الهنود الحمر و ممارسة أكبر استثمار لاقتصاد العبودية و ثقافة الرق في التاريخ الحديث مروراً باستخدام السلاح النووي في تدمير هيروشيما و ناجازاكي و ما حصل في فييتنام وصولاً إلى كوارث معاصرة ليس آخرها الدور الأمريكي في تفسخ و انهيار بعض المجتمعات الأفريقية و في مشروع تدمير شعوب و حضارات كاملة في العراق و أفغانستان و فلسطين و غيرها. و لعل أكثر ما يثير الانتباه في تلك الأعمال الأدبية، بالإضافة إلى ما تطرحه من أسئلة و قضايا و جماليات، هو ما حققته من نجاح و ما لاقته من إهتمام نقدي واسع و ما حصلت عليه من جوائز أدبية مما جعلها تتجاوز هامشيتها الثقافية لتكون جزءاً و ملمحاً شرعياً من الأدب الأمريكي المعاصر بالمعنى المؤسساتي للكلمة. لقد ظهرت في النصف سنة الأخيرة ثلاثة كتب هامة يقارب كل منها تجربة اللجوء في الولاياتالمتحدة. و بينما يقارب كل كاتب موضوع اللجوء بلغته الخاصة في رواية أو مذكرات أو سيرة ذاتية تخيلية، تشترك هذه الكتابات في معالجة و تصوير تجربة الهجرة من الوطن الأصلي و اللجوء للعيش في مكان آخر يختلف بشكل كبير ثقافياً و اجتماعياً، ظهر أول هذه الكتب في أواخر عام 2006 و هو سيرة ذاتية بعنوان "ماذا هو الماذا: سيرة فالينتينو أتشاك دنغ" من تأليف ديف إجرس و لقد أثار هذا الكتاب إهتماماً نقدياً كبيراً. أما الكتابان الآخران فهما باكورة أعمال كاتبيهما، فالكتاب الثاني هو رواية بعنوان "الأشياء الجميلة التي تمنحها السماء" للكاتب الأثيوبي دينو منجستو الذي هجر وطنه ولجأ إلى الولاياتالمتحدة في طفولته المبكرة. والكتاب الثالث هو "طرق طويلة مرت: مذكرات صبي مجند" من تأليف شمايل بيه و هو مذكرات تجمع بين التخييلي و التاريخي لتصور تجربة الكاتب في سيراليون كطفل جند في الحروب الأهلية ثم اضطر للهرب إلى الولاياتالمتحدة لإكمال دراسته و البحث عن ملاذ آمن من الحروب و المجاعات. هل تشكل هذه الأعمال نماذج من ظاهرة جديدة في الأدب الأمريكي المعاصر؟ وهل تجربة اللجوء هي الأرض الجديدة المكتشفة لاستثمارات صناعة النشر في الولاياتالمتحدة؟ وهل حقاً يشير نجاح هذه الكتب و إقبال القراء عليها إلى أن الجمهور الأمريكي قد بدأ أخيراً يهتم بجدية بكوارث العالم الخارجي من مذابح و حروب و فقر؟ و هل أصبح عالم مثل القارة الأفريقية مثلاً فضاء يطرح من خلاله الأمريكيون أسئلة تخص وضعهم و مستقبلهم و علاقتهم بالعالم؟ ربما تحتاج هذه الأسئلة إلى وقت كاف لتتحول إلى تجربة تاريخية يمكن من خلالها البحث عن إجابات و التأكد من حقيقة أن الحضور النوعي لتلك الأعمال هو تجل لبداية تحول في الوعي الأمريكي للعالم. لكن و في غياب الإجابات الجاهزة، يبدو ضرورياً و مفيداً أن تتجه الجهود إلى قراءة معمقة لهذه الظاهرة الأدبية، للغتها و جمالياتها و للقضايا التي تطرحها و لعلاقة كل ذلك بثقافة القارئ الأمريكي. من الناحية الأسلوبية تبدو السيرة الذاتية لديف أجرس "ماذا هو الماذا: الأكثر فرادة و خصوصية فيما أصبح يعرف بأدب اللجوء. يوظف الكاتب هنا ضمير المتكلم في صوت أتشاك دنغ ليروي قصة الطفل السوداني المفقود، و الأطفال السودانيون المفقودون هم من أكثر المجموعات اللاجئة شهرة في أمريكا. لقد قدمت الصحافة الأمريكية بعضاً من قصص هؤلاء الأطفال الذين رأوا أهلهم يقتلون و الذين قطعوا رحلات طويلة هرباً من المجاعة و المذابح في طرق طويلة فصلت الصحافة في وصف مخاطرها حيث واجه الأطفال الهاربين خطر الموت جوعاً أو افتراساً من وحوش الغابات التي لجؤوا إليها. وفي مذكرات أجرس الروائية يصعب التمييز بين التخييلي و الواقعي، إن الكاتب يستخدم في سرده تقنية الإرجاع (فلاش بلاك) حيث يروي قصة مغامرة دنغ القاسية في السودان و تبدأ الإرجاعات من لحظة ذات دلالة خاصة. إنها لحظة تقع في الحاضر و هي تحديداً حادثة سطو مسلح تعرض لها دنغ في شقته التي يقيم فيها في أتلانتا في الولاياتالمتحدة، وهنا يفكك السرد منذ البداية خرافة الملجأ الأمريكي الآمن. إن ديف أجرس ساعد بلا شك على نشر الوعي بموضوع المذابح الجماعية و لقد حقق نجاحاً جعل منه ظاهرة و نجماً في عالم الأدب، و على الرغم من القيمة الفنية لأعمال هذا الكاتب و طموحها التجريبي فإن نجوميته الشخصية كانت رصيداً إضافياً في تسويق أعماله اللاحقة، لقد أصبحت كتبه تباع في الولاياتالمتحدة من أجل اسمه، وهذا شيء استثنائي بالنسبة للاجئ أفريقي جديد نسبياً على الحياة الأمريكية. لقد استطاع هذا الكاتب توظيف شهرته لتسويق أعمال تنشر الوعي حول الكوارث الإنسانية في العالم و لقد وصف أحد الصحفيين هذه الحقيقة بسخرية قائلاً إن ديف أجرس قد حقق الأهداف التي عجزت عنها المفوضية السامية للاجئين في منظمة الأممالمتحدة. "طريق طويلة مرت: مذكرات صبي مجند" من تأليف شمايل بيه هي من أكثر أعمال أدب اللجوء كثافة و ذاتية، يستخدم الكاتب تقنية المذكرات التقليدية ليروي قصصاً مرعبة، كيف يتحول الأطفال إلى قتلة من خلال تعليمهم على تعاطي المخدرات ثم تدريبهم على القتل، هذه هي التجربة التي تتمحور حولها المذكرات التي تروي أيضاً مغامرة الهروب و اللجوء إلى الولاياتالمتحدة. لقد شقت هذه المذكرات طريقها بسرعة إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا، أليس غريباً و مدهشاً أن يحقق هذا النجاح لاجئ جديد فر من الموت و أتى إلى الملجأ الأمريكي لينشر أول كتبه؟ إن ذلك إستثنائي بلا شك في أعراف الحياة الأدبية الأمريكية. فما الذي يدفع الناس إلى قراءة هذه القصص المرعبة عن الموت و المذابح و الحروب؟ هل هو إحساس بالذنب أم بداية وعي جديد و اهتمام بالعالم؟ النموذج الثالث من أدب اللجوء هو رواية الأثيوبي دينو منجستو "الأشياء الجميلة التي تمنحها السماء"، تقدم هذه الرواية سيرة لاجئ أثيوبي وصل إلى أمريكا هرباً من الحرب و استقر في أحد ضواحي واشنطن التي يقطنها السود، ومن خلال السرد الروائي الذي لا يعبأ بالتوثيقي أو التأريخي أو الشخصي كما في العملين السابقين يتجاوز الكاتب صياغة مصائر فردية مأساوية متخيلة لأبطاله إلى إعادة صياغة لتاريخ أثيوبيا الحديث و إعادة الصياغة و الاكتشاف لتاريخ الوطن يتم هنا في فضاء جغرافي ثقافي مغاير و لكنه غير معزول و غير بريء عما حصل في الوطن، إنه الملجأ الأمريكي. إن قصص المهاجرين ليست جديدة في الأدب الأمريكي، إن قصص المهاجرين الذين تركوا أوطانهم و أتوا إلى الوطن الأمريكي الجديد بحثاً عن حياة سعيدة قد ساهمت بشكل كبير في نشوء و تطور الأدب السردي في أمريكا و شكلت أحد خصوصياته. وفي النماذج المعاصرة التي تمثل ما يسمى بأدب اللجوء رافد جديد يبدو أنه مرشح، كما يشير العديد من النقاد، لإضافة شيء جديد إلى الأدب الأمريكي المعاصر و إلى الثقافة و هو مرشح أيضاً للمساهمة في إحداث تغيير في المخيلة الجمعية للأمريكيين. فهل يستطيع هذا الأدب الجديد حقاً المساهمة بتفكيك خرافة البراءة الأمريكية؟ إن الحضور النوعي الملفت لأعمال الكتاب اللاجئين يشير إلى حقيقة مؤكدة و هي أن القارئ الأمريكي قد بدأ يبحث عن شيء جديد يخص العالم المعاصر لا يجده في الخطاب الإعلامي الذي احتكر رواية الكوارث الإنسانية لحقبة طويلة من التاريخ الأمريكي الحديث. ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن أعمال هؤلاء الكتاب، ورغم ما فيها من تماس مباشر مع الواقع السياسي و الإنساني المعاصر، تستمد قيمتها و تأثيرها من جماليتها و حداثتها و أصالتها الفنية قبل أي عامل سياسي أو إنساني يساهم في تسويقها إلى القارئ. ** منشور بالملحق الثقافي لجريدة "الثورة" السورية 26-6-2007