كاتبة مشاغبة فوق القمة كاتبة أمريكية تمكنت باقتدار من المساهمة في إعادة تشكيل الثقافة الحديثة في أمريكا, عندما بلغت الثلاثين من عمرها, وكان ذلك عام6691, فقد نشرت سوزان سونتاج كتابا مهما بعنوان ضد التفسير, وكان يضم مجموعة مقالات سبق أن كتبتها في عدد من الصحف والمجلات الأمريكية الجادة والرصينة. ولئن كان الكتاب قد أثار موجة عاتية وصاخبة من الجدل, إلا أنه في نهاية المطاف قد مكن سوزان من أن تتبوأ مكانا مرموقا بين الطليعة الفكرية والأدبية. ولم تتراجع عن صدارة المشهد الثقافي الأمريكي منذ ذلك الحين, وواصلت بامتياز الصعود الي القمة, كمفكرة وناشطة سياسية تناصب الحزب العداء, وتقف في ذات الخندق الذي يقف فيه المدافعون عن القضايا السياسية العادلة. ولذلك كانت سوزان سونتاج تؤيد الفلسطينيين, وتساند أهل البوسنة إبان سنوات المحاولات المحمومة من جانب صربيا ورئيسها سلوبودان ميلوسوفيتش, لإبادتهم عرقيا, وهو ما تكشف عنه المذابح الجماعية التي ارتكبتها قوات صربيا, والتي بلغت أوج وحشيتها في سيربرينستا حيث قتلت نحو ثمانية آلاف مسلم من أهل البوسنة. وتضامنا مع البوسنة, واحتجاجا علي تواطؤ أوروبا, أمضت سونتاج نحو ثلاث سنوات في سراييفو عاصمة البوسنة, التي كانت تخضع للحصار والقصف الصربي, وساهمت في علاج الجرحي, وتعليم الأطفال ولم تكتف بذلك, وانما قامت بتجربة فنية فريدة عندما تولت إخراج مسرحية صامويل بيكيت الشهيرة في انتظار جودو حتي يشاهدها أهل سراييفو علي ضوء الشموع, نظرا لانقطاع الكهرباء, وقد منحت البوسنة سوزان لقب المواطن الفخري. ذكريات سونتاج ولئن كانت سونتاج قد لفظت انفاسها عام2004, متأثرة بمرض عضال, إلا أنها برغم مرور سبع سنوات علي موتها ماتزال في بؤرة اهتمام القراء والدوائر الثقافية في أمريكا وأوروبا, وليس أدل علي ذلك من أن كتبا ودراسات عديدة صدرت عن سيرتها الذاتية وتناولت أفكارها, ومنها كتاب ذكريات سوزان سونتاج للكاتبة الأمريكية سيجريد نوفيز, وهو كتاب جري نشره أخيرا, ويحظي بتعليقات ومراجعات في الصحف والمجلات. وكانت مؤلفة هذا الكتاب قد عملت سنوات مع سوزان, وكانت بمثابة مساعدة لها في وقت عصيب, كانت فيه سوزان مصابة بالسرطان, وبرغم ذلك كانت تعمل بهمة ونشاط في كتابة المقالات وتأليف الروايات, وتبدي المؤلفة تقديرا وودا لسوزان, وتكشف تفاصيل جديدة في حياتها من أبرزها أنها كانت لا تدخر وسعا كأم في احاطة ابنها ديفيد بكل سبل الرعاية الممكنة, وكان يروق لها أن تقول إنها أم صالحة, وقد أصبح ديفيد ديف كاتبا مشهورا. ولعل سر اهتمام سوزان بديفيد, وإفراطها في الحنو عليه, أن ظروف حياتها إبان طفولتها كانت قاسية, فقد كان والدها تاجر فراء وفي أثناء إحدي رحلاته التجارية إلي الصين وافته المنية وكانت ماتزال في نحو الخامسة من عمرها. ومنذ هذه السن المبكرة بدأت معاناتها, فلم تكن أمها توليها اهتماما, وهو ما دفع سوزان الي الشغف بالقراءة, ومن ثم تكوين عالمها السحري الخاص, وتمكنت من صقل ملكاتها الفكرية, وعندما التحقت بالجامعة, كانت مثابرة ودءوبة في دراستها, وتزوجت من أستاذ جامعي هو فيليب ديف, وكانت آنذاك في نحو الثامنة عشرة من عمرها, وتوغلت في التعليم وحصلت علي الماجستير في الفلسفة, وتعمقت في دراسة الأدب والفنون الرفيعة, وفي ذات الوقت كانت تشق طريقها الي عالم الصحافة, وصارت كاتبة مقالات مرموقة. غير أن سوزان سونتاج كانت مولعة كذلك بتأليف الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات, كما خاضت تجارب مهمة في الاخراج السينمائي والمسرحي. وكم كانت تود أن تطغي شهرتها كروائية علي شهرتها ككاتبة مقالات, غير أن ثمة إجماعا في الرأي بين النقاد والمثقفين علي أن مكانتها الفكرية ككاتبة مقالات هي الأهم والأبقي. فكرة الفردوس وبرغم هذا الرأي السائد في أمريكا وأوروبا, إلا أن سوزان سونتاج, استأثرت باهتمام القراء عندما نشرت روايتها عاشق البركان عام1992, وصارت آنذاك من أكثر الكتب مبيعا, وهو ما أفعم قلبها بالفرح. وظلت نحو ثماني سنوات تداعب فكرة روايتها الشهيرة الثانية وعنوانها في أمريكا, ولم تنشرها إلا عام1999وتعلل ذلك بما ألم بها من مرض, وأنها أمضت ثلاث سنوات من عام1992وحتي1995في سراييفو. وتدور فكرة الرواية حول مهاجرة من بولندا, وصلت الي أمريكا عام1876, واستقرت مع عائلتها ومجموعة من المهاجرين البولنديين في كاليفورنيا, وحاولوا في ربوعها تحقيق أحلام الفردوس الأرضي( اليوتوبيا) غير أن المحاولة باءت بالفشل, وتشير سوزان الي أنها استلهمت أحداث الرواية من وقائع تاريخية. واذا كانت سوزان سونتاج قد اشتبكت مع السياسات الخارجية لأمريكا وأوروبا حول البوسنة, ودافعت بحرارة عن حق أهل البوسنة, فإن معركتها مع السياسة الأمريكية قد بدأت إبان الحرب الأمريكية علي فيتنام, فقد نددت بهذه الحرب العدوانية, وقامت برحلة الي هانوي عام1968, وقالت بوضوح وجلاء إن أمريكا بلد محكوم عليه بالهزيمة, ونشرت كتابا عنوانه رحلة هانوي كان مثارا للجدل السياسي, وألب عليها القوي اليمينية الأمريكية التي كانت تؤيد الحرب. والمثير حقا أن سونتاج لم تتردد في شن هجوم عنيف علي السياسة الخارجية الأمريكية في أعقاب هجمات سبتمبر, وقالت في مقال نشرته في صحيفة أمريكية مرموقة, إن الهجمات استهدفت القوة العظمي التي نصبت نفسها زعيمة للعالم, وانتقدت بعنف الكتاب والمحللين السياسيين الأمريكيين الذين تناولوا هذه الهجمات بلغة تفيض بالوطنية السطحية, وأشارت الي أنهم يتصورون الشعب الأمريكي علي أنه مجموعة من الأطفال حين يبالغون في الحديث عن قوة أمريكا واستحالة هزيمتها. وأثار المقال موجة عاتية من الانتقادات الحادة ضد سونتاج, ودعا بعض الكتاب الي تجريدها من الجنسية الأمريكية, واتهمتها مجلة أمريكية يمينية بأنها تسعي لتدمير أمريكا!! إن سوزان سونتاج الكاتبة والروائية والمفكرة الأمريكية التي كانت تغرد خارج السرب ماتزال محل تقدير المثقفين, ومن المرجح أن تصدر عنها كتب ودراسات جديدة, ذلك أنها تمثل تيارا فكريا متميزا في الحياة الثقافية الأمريكية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي