في ضرورة إصلاح ما أفسدته العولمة مكرم محمد أحمد كما سقطت الأيديولوجية الجامدة للنظام الماركسي تحت أسوار حائط برلين في نهاية القرن الماضي, لفشلها الذريع في تحقيق طموحات الشعوب التي جعلت منها دولة ودينا, لأنها سجنت مبادرات الأفراد, وشلت فاعلية الحافز الإنساني, واغتالت الحريات الفردية دون أن تحقق حريات الأمم والمجتمعات, ومكنت البيروقراطية الشديدة الوطأة من أن تكون وحدها سيد الموقف, ووأدت قدرة الجميع, الأفراد والمؤسسات والمجتمعات علي الإبداع والابتكار, وكممت الأفواه وصادرت حق الاختلاف, واعتبرت الرأي الآخر انشقاقا منبوذا يستحيل التعايش معه, وأحلت بديلا عن المنافسة نظاما خاملا يكرس الجمود والأمر الواقع يرعي الفساد في كل جوانبه.. يشهد النظام الرأسمالي الآن في صورته العقائدية الجامدة أزمة مماثلة لا تقل أهمية وخطرا, تكشف عن أوجه قصور عديدة لنظام عالمي غير متوازن, يعاني خللا مزمنا أفقده القدرة علي إصلاح نفسه, يمكن أن يبلغ حد التوحش في شراهته وافتقاده للعدالة, بسبب المعايير المزدوجة التي تحكم مفاهيم تحرير التجارة الدولية في ظل هيمنة الأقوياء الذين يحددون وحدهم شروط اللعبة ويفرضون علي الجميع مفاهيمها, ويتجاهلون الضرورات الأساسية التي كان يمكن أن تكفل اندماج الاقتصادات الوطنية في سوق عالمية واحدة ترعي توازن مصالح كل الأطراف! وما من شك في أن أزمة الغذاء العالمية, التي هددت أمن واستقرار أكثر من30 دولة في العالم بينها22 دولة إفريقية يتهددها خطر انتشار المجاعات التي يمكن أن يعاني منها أكثر من700 مليون نسمة أصبحت أسعار الطعام فوق قدراتهم, تجسد الي حد بعيد أزمة النظام الاقتصادي العالمي الراهن, وتكشف أبعاد القصور المخيف في معايير العولمة التي عجزت عن مواجهته أكثر الأخطار تهديدا لأمن الدول واستقرارها, عندما أخفقت في إيجاد سوق اندماجية واحدة تنظم تداول الغذاء علي نحو يرعي مصالح كل الأطراف.. وكانت النتيجة نكوص كل الأطراف, الدول الغنية والفقيرة علي حد سواء, الي إجراءات حمائية خاصة لحماية المستهلك الوطني كان من نتائجها زيادة حدة الأزمة بدلا من تخفيف أعبائها وتعطيل التجارة الدولية. لجأت مصر والهند والعديد من الدول الآسيوية الي منع تصدير الأرز لتحصين السكان المحليين من غائلة ارتفاع أسعار الطعام, وأوكلت مصر الي الأجهزة الخدمية في القوات المسلحة أن تعاون الحكومة علي مواجهة قضية الخبز, وأعادت كثير من الدول التي تبنت مفاهيم التحرير الاقتصادي, وسعت الي دمج اقتصاداتها الوطنية بالسوق العالمية التفكير في ضرورة إحياء مؤسسات حكومية قديمة تتولي تدبير سلع الغذاء الأساسية, لأنها فقدت الثقة في قدرة النظام الدولي علي توفير احتياجاتها من خلال السوق, وبرزت من جديد الحاجة الملحة الي دور أكثر فاعلية للدولة والحكومة, لأن الطعام يشكل قضية أمن استراتيجي لايمكن تركها نهبا لتداعيات سوق عالمية, خرق الأمريكيون بكل جسارة أبسط شروطها, عندما قرروا التوسع في صناعة الميثانول والبيوديزل وقودا بديلا للسيارات من محاصيل الأذرة وفول الصويا علي حساب طعام الإنسان والحيوان, وخصصوا الجانب الأكبر من مساحات أراضيهم الزراعية لمحاصيل الأذرة وفول الصويا علي حساب مساحات القمح, الأمر الذي أدي الي تضاعف أسعار الحبوب, ولأن الحبوب هي غذاء الإنسان والحيوان, تضاعفت في غضون أقل من عامين كل أسعار المواد الغذائية ابتداء من الخبز الي اللبن الي البيض واللحم. لم تقتصر أضرار التغيير الاستراتيجي الذي طرأ علي سياسات أمريكا الزراعية بسبب قانون الأمن والطاقة البديلة الذي أصدره الرئيس بوش مع بداية عام2006, وألزم المؤسسات والحكومة الأمريكية برفع نسبة استخدام الميثانول والبيوديزل في وقود السيارات الي10 في المائة قبل عام2010 علي الدول النامية والفقيرة وحدها, ولكنه شمل أيضا شرائح واسعة من الفئات الاجتماعية داخل الدول الغنية, وجدت نفسها مضطرة الي مضاعفة حجم انفاقها علي الطعام في غضون فترة تقل عن عامين.. وبرغم الفروق الضخمة بين آثار التضخم علي شعوب الدول النامية والمتوسطة التي يشكل الانفاق علي الطعام نسبة تصل في بعض الأحيان الي أكثر من70 في المائة من دخول أسرها وآثاره علي شعوب الدول الغنية التي لا يشكل الانفاق علي الطعام أكثر من10 في المائة من دخلها, فإن الجميع يعاني ارتفاع أسعار المواد الغذائية ويشكو من أزمة مخيفة تمسك بتلابيب العالم أجمع, كشفت عورات النظام الاقتصادي العالمي, خصوصا أن تقارير خبراء الغذاء في العالم تؤكد أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية سوف يستمر علي امتداد السنوات العشر المقبلة وربما يتضاعف أكثر من مرة. وكما كشف مؤتمر روما للغذاء, برغم الاتهامات المتبادلة بين الدول الغنية والدول النامية كل يحاول أن يحمل الآخر مسئولية ارتفاع أسعار الغذاء عمق الأزمة العالمية للغذاء, كشف المؤتمر أيضا عمق الحاجة الي إصلاح الخلل الراهن في النظام الاقتصادي العالمي, الذي بات واضحا أنه لم يعد يستطيع ضمان مسيرة متوازنة لنمو الاقتصاد العالمي تكفل أمن واستقرار الدول, وتدرأ مخاطر عالمية مدمرة يتجاوز خطرها الحدود والحواجز مثل الجوع والإيدز والانبعاثات الكربونية والتغيرات المناخية وأزمة الطعام, كما لم يعد يستطيع أن نضمن في الوقت نفسه درجة أعلي من التوافق بين ضرورات الاعتماد المتبادل التي تشكل جوهر العولمة, وقدرات الدول المختلفة علي التنسيق والتعاون والتكيف مع مفاهيم أحادية الجانب والمنفعة تفرضها الدول المهيمنة علي نظم العولمة! ولا أظن أنه محض صدفة, أن يصدر هذا الأسبوع تقرير العالمين الاقتصاديين الكبيرين مايكل بنس وروبرت سولو, الحائز كل منهما علي جائزة نوبل في الاقتصاد, اللذين أمضيا مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديين عامين كاملين يدرسان أسباب خلل النظام الاقتصادي العالمي, ويبحثان أسباب نجاح13 دولة حققت جميعها نقلة نوعية في حياة شعوبها خارج أطر ومفاهيم النظام الرأسمالي في قواعده المدرسية, ليؤكدا في نهاية تقريرهما وتحت عنوان عريض, ضرورة التلازم بين سياسات اقتصادية مرنة تستجيب لمتطلبات الاصلاح في إطار براجماتي عملي غير عقائدي, وبين وجود الدولة القوية لتحقيق نمو منتظم ومستدام لا يقل عن7 في المائة سنويا, يحقق في غضون20 عاما طفرة هائلة في حياة الشعوب, كما فعلت الصين واليابان وكوريا وماليزيا والبرازيل وسنغافورة وكما تفعل الآن الهند وفيتنام. لا يهمل تقرير العالمين الكبيرين أهمية الانفتاح الاقتصادي, والإقرار بقوانين السوق والانتفاع بتدفقات الاستثمار الخارجي, وزيادة الصادرات السلعية, والاستفادة بما تتيحه العولمة من نقل المعارف والتكنولوجيات الجديدة الي أنشطة الإنتاج, لكن التقرير يشدد علي عدد من الحقائق المهمة التي تم إهدارها بسبب الانحيازات العقائدية والفكرية المطلقة لأي من النظامين الرأسمالي والاشتراكي. أولاها, أن أيا من هذه الدول لم يكن ممكنا أن تحقق نموا اقتصاديا يذكر دون استثمارات عامة ضخمة في مجالات البنية الأساسية وخدمات الصحة والتعليم والأنشطة الانتاجية التي يعزف القطاع الخاص عن الدخول فيها لطول فترة انتظار عائدها, وأن القطاع العام ليس, كما يشاع الآن, شرا مطلقا, ولكنه يمثل ضرورة استراتيجية إن أحسن استخدامه. وثانيتها, أن وجود دولة قانونية قوية ممثلة في حكومة فاعلة تطبق قواعد الحكم الرشيد وتلزم نفسها وجميع أفرادها الكبير قبل الصغير احترام أحكام القانون وتضمن شمول التنمية لكل أبناء المجتمع دون استبعاد أو انحياز أمر ضروري لتحقيق نمو مطرد يتجاوز7 في المائة سنويا لمدة يمكن أن تصل الي25 عاما ضمانا لتحقيق طفرة كبيرة في مستويات حياة كل فئات المجتمع. وثالثتها, أنه لا أمل في نجاح أي استراتيجية للنمو دون الالتزام بعدالة الفرص المتاحة لكل مواطن, وأن التفاوت غير المبرر في الدخول وتمتع شرائح محدودة من المجتمع بثروات فاحشة علي حساب مصالح غالبية المجتمع لن يسفر سوي عن أضرار اجتماعية باهظة الكلفة تهدد مسيرة الاصلاح التي تنشد النمو والتنمية. ورابعتها, أن الخصخصة ليست مطلوبة لذاتها لأنها مجرد وسيلة لحسن استثمار قطاعات بعينها, وربما تكون ضرورة لإدارة مؤسسات ومنشآت يحسن أن يديرها القطاع الخاص بكفاءة أكبر. وخامستها, أن الأزمات المالية والاقتصادية التي تلاحق عالمنا الآن, تكشف عن أوجه قصور عديدة في النظام الاقتصادي العالمي, وتتطلب بناء مؤسسيا جديدا تحكمه قواعد عادلة, تضمن عولمة رشيدة تحقق توازن المصالح بين كل الشركاء. لقد أدهشني كثيرا أن يكون أول المحتمسين لتقرير العالمين الكبيرين وأكثرهم سعيا لإذاعة فحواه علي الملأ الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار, الذي قاد قطار الخصخصة في مصر بسرعة روعت الكثيرين في بداية منصبه الوزاري, وأدهشني أكثر انحيازه العلني الي كثير من الأفكار التي أوردها التقرير في مقال مهم نشره في مجلة وجهات نظر, واعتقاده الجديد بحاجة مصر الي استخلاص خطوط أساس جديدة لرؤيتها الاقتصادية في ضوء نتائج هذه الدراسة المهمة, التي سعت الي الكشف عن آلية النمو والتنمية في هذه الدول, وكيف حافظت علي استمرار هذا المعدل المرتفع لأكثر من20 عاما, وعندما فاجأته في جلسة حوار مهم بالسؤال, أظن أن هذه الأفكار تستوجب أولا البحث عن خطوط إرشاد جديدة لبرنامج الخصخصة في مصر, رد بكل الوضوح ودون تردد, نعم لابد من خطوط إرشاد جديدة. لماذا؟ لأن تجربتنا العملية تؤكد صدق استخلاص الحقائق التي أكدها التقرير, وتتطلب منا أن نزيد حجم الاستثمارات العامة في مجالات صناعات الأسمنت والحديد والدواء والغذاء, لأنها صناعات استراتيجية أساسية ينبغي أن يظل للدولة دور فاعل في تنميتها تحقيقا لأمن الأسواق واستقرارها, وعلينا أن نحتفظ ببعض الأنشطة التي تحقق الربح كي يساعد فائضها الخزانة العامة علي الارتقاء بخدمات الصحة والتعليم, وعلينا أن نعرف بوضوح أن طريق النمو الصحيح يبدأ من الدولة القوية, الدولة القانونية, دولة المؤسسات التي يسري فيها القانون علي الصغير والكبير, كما يبدأ من الحكومة القوية التي تهدف الي تحسين أحوال الناس جميعا, ولا تهدر حقها في فرض ضريبة تسقيع أو تحسين لأراضي الدولة التي تم بيعها لبعض الشركات والأفراد, وارتفع ثمنها الآن أضعافا مضاعفة, هذا مجرد مثال, لأنه لا معني أن يرتفع سعر متر الأرض الذي باعته الدولة في حدود40 جنيها الي ثلاثة آلاف جنيه أو أقل دون أن يكون للخزانة العامة نصيب في هذا الريع ينبغي ألا يقل عن35 في المائة من صافي عائد البيع.., وأظن أنه قد آن الأوان كي نعلن نهاية برنامج الخصخصة في مصر بعد التصرف في50 شركة يصعب إصلاح أوضاعها, يمكن التصرف فيها بالتصفية أو البيع, لأن برنامج الخصخصة في مصر طال أكثر مما ينبغي, لكننا مطالبون أيضا بالتوسع في أنشطة انتاجية ذات وزن مؤثر علي أنشطة انتاجية أخري عديدة, وفي جميع الأحوال ينبغي أن يكون لدينا مفهوم جديد للخصخصة يوسع قاعدة الملكية, ويجعل من كل مواطن مالكا لعدد من أسهم هذه الشركات بحيث يستشعر الجميع عائدها. كفي ومتي.., هذا ما يعتبره الوزير محمود محيي الدين سرا مغلقا في صندوق, لن يكشف سره إلا بعد أن ينتهي من إعداد قانون جديد يجعل ملكية قطاع الأعمال مشاعا للجميع. عن صحيفة الاهرام المصرية 7/6/2008