احترت طويلا في مقال د. عبدالمنعم سعيد السبت الماضي الصحفي والوزير, الذي خصصه لتعليق مسهب علي حوار نشرته في الأهرام مع الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار, ولم أعرف كيف أتصرف حياله؟! هل أرضي بهذه السطور الجميلة التي أغدق خلالها علي شخصي المتواضع كثيرا من الأوصاف, أرجو لو كنت أستحق بعضا منها, وأغض الطرف عن رؤية كاملة عبر عنها المقال تكاد تتهمني بالتربص المسبق لمشروع الاصلاح الليبرالي للاقتصاد المصري, الذي يتحمس له الدكتور عبدالمنعم سعيد, لأنني ابن عصري, أحمل علي كاهلي تجربة40 عاما أو أكثر في الانحياز لقطاع الأعمال العام والتشكيك في قدرة القطاع الخاص علي النهوض بأعباء التنمية, والتشكك في إمكان أن تنجح قوانين السوق في إحداث التوازن بين العرض والطلب وتحقيق عدالة الأسعار, وعدم الصبر علي تجربة تحرير الاقتصاد الوطني التي ربما لم تبدأ بعد!, والتشكيك في نتائجها بالتركيز علي الحديث عن مخاطر الاحتكار في السوق المصرية دون رؤية آفاق المستقبل, وأخيرا, يضبطني الدكتور عبدالمنعم سعيد متلبسا بالعمل علي إعادة العجلة للوراء لمجرد انني تساءلت: إن كان التسعير الجبري لبعض السلع الأساسية سوف يؤدي الي السوق السوداء, وهو يؤدي بالفعل الي السوق السوداء, فلماذا لا نلجأ الي التسعير الاسترشادي كي نفضح جشع بعض التجار الذي جاوز كل الحدود؟!. ولا أعرف لماذا حرص د. عبدالمنعم سعيد, الذي يبذل في مقالاته جهدا كبيرا لاقناع قارئه أنه أمام رؤية موضوعية علمية لإضاءة كل عناصر القضية التي يتعرض لها علي تصوير موقفي, وكأنني ذهبت الي الدكتور محمود محيي الدين متسلحا بأيديولوجية خاصة هي من بقايا فكر خمسينيات القرن الماضي, التي عشت في ظلها متربصا بسياسات الاصلاح الليبرالية الجديدة التي لا بديل عنها, بعد أن سقطت تجرية سيطرة قطاع الأعمال العام علي كل مناحي الاقتصاد الوطني التي انتهت بفشل ذريع, ولم تؤد الي تراكم رءوس الأموال بما يمكن عجلة التنمية من الدوران اعتمادا علي عائدها, ولم تحقق الجودة المطلوبة للمنافسة في السوق العالمية, وأدت في النهاية الي أن يصبح قطاع الأعمال العام عالة علي الخزانة العامة التي أوشكت علي الإفلاس. وربما يكون من المفيد, ابتداء, أن أعيد تعريف نفسي للدكتور عبدالمنعم سعيد, حتي يتصل الحوار بيننا دون أفكار مسبقة, لأنني لم أكن يوما ما من دراويش القطاع العام, واعتبر نفسي مجرد صحفي يخلص لقواعد وأصول مهنته, واجبه الأول أن يسأل الأسئلة الصحيحة, يدقق السؤال ويفتش في الاجابات التي يتلقاها كي يتأكد من مصداقيتها في محاولة للوصول الي أقرب نقطة من الحقيقة, علمتني دراسة الفلسفة ألا أحبس نفسي في أي قالب عقائدي أو مذهبي, لأن الصحفي إن أصبح عقائديا فقد قدرته علي ملاحقة التطور, ووضع بنفسه قيدا علي فكره, واذا كنت قد ذهبت الي الدكتور محمود محيي الدين مسلحا بتجربة40 عاما عاصرت خلالها تجربة قطاع الأعمال العام واعيا لأخطائها ونجاحاتها, فربما يحسن من باب الايضاح أن أؤكد أيضا أنني كنت من أوائل الذين تحمسوا لدور غير محدود للقطاع الخاص في بناء الاقتصاد الوطني كي لا يقوم علي ساق واحدة, ولأن إهدار القطاع الخاص يعني إهدار قدرات المجتمع وإهدار حوافز الأفراد, وإهدار المنافسة اعتمادا علي جهد الحكومة التي لا ينبغي أن تكون الزارع أو الصانع أو رب العمل الوحيد, لكنني لا أستطيع أن أخفي عن الدكتور عبدالمنعم أنني كما ذهبت الي وزير الاستثمار مسلحا بخبرة40 عاما في تجربة القطاع العام, ذهبت إليه وقد خبرت عن قرب تجربة التحول الاقتصادي الليبرالي, منذ بدأت سداحا مداحا في عهد الرئيس السادات لظروف فرضت أن يكون أول القادمين الي السوق الجديدة بعض المغامرين الذين يريدون تحقيق ضربات وصفقات عاجلة, وهو أمر طبيعي يكاد يتكرر في كل حالات التحول الاقتصادي, الي أن انتهت تحت ناظرينا الآن بوجود قطاع خاص تزداد قدرته وتزداد مساحة نشاطه الي أن أصبح العامل الرئيسي في قطاع الصناعة يسهم بما لا يقل عن70 في المائة إن لم يكن أكثر من حجم الإنتاج الصناعي, كما يسهم بما يقرب من99 في المائة من حجم الاقتصاد الزراعي, كما أصبح شريكا في السلطة والقرار من خلال حكومة يشارك فيها أهم شخوص القطاع الخاص, ضاعت معها الحدود التي ينبغي أن تفصل بين سلطة المال وسلطة القرار, وتجعل سلطة التشريع في منأي عن سلطة أصحاب المصالح كما ينص الدستور. واذا كان الدكتور عبدالمنعم سعيد يأخذ علي تجربة جيلي أنه لم ينتبه في وقت مبكر الي أخطاء قطاع الأعمال العام التي تراكمت حتي أعجزته عن أن يحقق نموه معتمدا علي عائده برغم ثلاث حروب خاضتها مصر خلال هذه الفترة, فإن في وسعي أن أرد له النصيحة, كيلا يرتكب جيله الخطأ نفسه, وينظر الي الليبرالية الاقتصادية وكأنها البقرة المقدسة التي لا يجوز التعرض لها بالنقد, ويسكت عن أخطاء كثيرة نعرفها جميعا, لم تمكن عملية تحرير الاقتصاد الوطني بعد من إقامة سوق متوازنة تحكمها المنافسة الحقيقية تملك قدرة تحقيق رقابة ذاتية فاعلة تمنع الاحتكار, ولم تساعد علي تساقط ثمار التنمية كي يستفيد من عائدها كل فئات المجتمع, بدلا من أن يزداد الاغنياء غني ويزداد الفقراء فقرا وتتسع المسافات بين أصحاب الدخول الي حد يتجاوز مئات الأضعاف. وأظن أن مهمة الدكتور عبدالمنعم سعيد ومهمتي أن تكون لدينا قدرة أكبر علي المكاشفة والوضوع ورصد الأخطاء قبل تراكمها وتفاقمها والتنبيه الي المخاطر المحدقة التي تنشأ عن الاحتكار وعدم توازن توزيع عائد التنمية, وإهمال المشروعات المتوسطة والصغيرة ومخاطر البيروقراطية التي يمكن أن تفسد النظام الرأسمالي في ظل غياب رقابة نزيهة, كما أفسدت النظام الاشتراكي لغياب الديمقراطية الفاعلة. وليسمح لي الدكتور عبدالمنعم سعيد أن أكون صريحا معه, خاصة أنه يعتقد, علي غير حق أو حقيقة, أنني من جيل يخاصم الخصخصة برغم فساد قطاع الأعمال العام وقلة عائده, وانني ذهبت الي وزير الاستثمار معتقدا أن هناك قرارا سابقا بخصخصة الاقتصاد المصري, علي حين تقول الحقائق إنه لا توجد دولة واحدة في العالم تعتقد أن مصر من الدول التي حررت اقتصادها الوطني, وأنني لاأزال أنظر بحالة من التربص والتوجس الدائم الي كل ما له علاقة بالقطاع الخاص أو يقترب منه, مستخدما في حواري مع الوزير وسائل تكاد تكون غير مشروعة!, أخطرها من وجهة نظره أنني أورد أسئلتي علي لسان البعض الذي يصعب التأكد من وجوده أو أحيانا علي لسان الجميع الذي يصعب التثبت من وجودهم خاصة عندما سألته: البعض يعتقد يا سيادة الوزير أن بعض الاحتجاجات الأخيرة التي وقعت في عدد من شركات قطاع الأعمال, التي تم خصخصتها تكشف عن مثالب الخصخصة. ولست أعرف من أين استقي الدكتور عبدالمنعم سعيد مجمل اعتقاداته غير الصحيحة, لأنني لم أذهب الي وزير الاستثمار كي أناقشه في مشروعية الخصخصة أو عدم مشروعيتها, أو حجم مشروعاتها قياسا علي حجم الاقتصاد الوطني, لأن ذلك بالنسبة لي أمر مدرك منذ زمن أعرفه حق المعرفة, وقد أوردت بعض حقائقه في سياق حواري مع الوزير, ولكنني ذهبت الي الوزير كي أناقش معه قضية محددة تتعلق بقرار مهم صدر عن الوزير وأعلنه علي الملأ يؤكد, أن الدولة لن تبيع من الآن فصاعدا أي من شركات قطاع الأعمال العام لمستثمر رئيسي لأسباب حاولت في لقاء الوزير أن استكشف كنهها وأبعادها.. وإذا بدا للدكتور عبدالمنعم سعيد باعتباره عضوا مرموقا في لجنة السياسات, أن ذلك يدخل في باب التشكك والتشكيك في جدوي ليبرالية الاقتصاد الوطني, فإنه في الحقيقة يدخل في صميم اختصاصي كصحفي من واجبه أن يسأل ويسأل ويسأل في ظل واقع يصعب تجاهل حقائقه, لأن قوانين السوق لا تعمل بكفاءة في الواقع المصري ولأن هناك قوي احتكارية لاتزال تسيطر علي قطاعات مهمة في الاقتصاد الوطني, تحجب السلع عندما تريد, وترفع أسعارها وقت ما تشاء وتستورد لمصر أردأ الأنواع, وهذا ما جري ويجري في أسواق اللحوم والأسمنت والحديد والقمح, واذا كان الدكتور عبدالمنعم لا يري ما قلته صحيحا لأن هناك17 شركة في مصر لإنتاج الحديد ولأن عدد شركات الأسمنت قد تضاعف أخيرا, ولأن جزءا من السلع ينتجه الفلاحون المصريون, فالجميع يعرف أن العبرة في قضية الاحتكار لا تكون بالعدد, وفي مجال انتاج الحديد ربما تكون هناك17 شركة, لكن هناك شركة قوية واحدة تسيطر بحجم انتاجها الضخم هي التي تحكم أسعار السوق, وفي سوق الأسمنت أتمني لو أن السياسي الدكتور عبدالمنعم سعيد استعاد قصة الصراع الطويل بين احتكارات الأسمنت والوزير رشيد الذي اضطر خروجا علي قوانين السوق أن يلزم شركات الأسمنت تحديد سعر البيع علي كل شيكارة أسمنت.. ومع ذلك, حسنا أن تنبهت الحكومة لهذه المخاطر وأصدرت قوانين مقاومة الاحتكار وحماية المستهلك التي تحتاج الي سنوات طويلة, كما قال وزير الاستثمار في حواره, كي تكون فاعلة في السوق لأننا تأخرنا طويلا في إصدارها, وحسنا أن تزايد حجم انتاج الأسمنت لتقليل سطوة احتكارات الشركات الأجنبية علي السوق. لقد كنت أتمني لو أن الدكتور عبدالمنعم سعيد حاكم حواري مع الوزير في ضوء السطور المنشورة وفي ضوء مهمتي كصحفي, بدلا من التفتيش عن أفكار لم أنطق بها ولم أعبر عنها, ولكنه استقاها من رؤية مسبقة تحكم علي أفكار جيل كامل بأنه يعادي تحرير الاقتصاد الوطني, وهو أمر غير صحيح, كما استقاها من تقويمه الخاص لعدد من الأسئلة التي وجهتها للوزير الي أن ضبطني متلبسا بسؤال الوزير: إن كان التسعير الجبري يخاصم قواعد تحرير الاقتصادي ويؤدي الي نشوء السوق السوداء, وهو يؤدي الي ذلك بالفعل, هكذا كانت صيغة السؤال فلماذا يا سيادة الوزير لا تأخذ الحكومة بالسعر الاسترشادي؟! ويبدو أنني ارتكبت جرما لا يغتفر في حق ليبرالية الاقتصاد الوطني, دفع الدكتور عبدالمنعم سعيد الي أن يعلن علي قرائه خبر ضبطي متلبسا وهو يكتب أخيرا أفصح الصحفي عن موقفه وموقف عصره الذي يريد أن يسلب السوق أهم حقائقها ويوكل الي مجموعة من البيروقراطيين تسعير السلع. ولا أظن أن الدكتور عبدالمنعم سعيد يجهل أن التسعير الاسترشادي لايزال معمولا به في مصر في تحديد أسعار بعض الأدوية, وأنه لا يخاصم من حيث المبدأ مباديء تحرير الاقتصاد الوطني لأنه مجرد سعر استرشادي يفتقد قوة التنفيذ, تكاد تقتصر مهمته علي كشف حجم التلاعب في الأسواق والتشهير بالتجار الجشعين ولا يقوم علي تحديده بالضرورة بعض الموظفين, لأن جمعيات حماية المستهلكين الرئيسية يمكن أن تنهض بهذه المهمة كيلا يتكرر ما حدث في سوق اللحوم, التي ضاعف سعرها في قفزة واحدة. ولعلني أقول أخيرا إن تحصين أي فكر إنساني من حق النقد والسؤال يفسد هذا الفكر كان اشتراكيا أو رأسماليا, لأن الإنسانية لم تتعرف بعد علي الطريق الصحيح الذي يضمن لها العدل والتقدم معا, وهي لاتزال تجتهد بحثا عن الصيغة المثلي, واذا كان انهيار الاتحاد السوفيتي كشف عمق أزمة النظام الاشتراكي الذي اعتبر القطاع العام بقرة مقدسة لا يجوز المساس بها, وأوكل الي البيروقراطية المكتبية أن تتحدث وتتصرف باسم الشعب الغائب, وقتل المنافسة والمشروع الخاص والحافز الفردي بما زاد من فرص الركود, فإن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة كشفت حجم الفساد الذي أصاب النظام الرأسمالي وعشعش داخل المصارف والبنوك العالمية الكبيرة وزاد من حجم الديون المسمومة التي كادت تؤدي الي إفلاس الولاياتالمتحدة وزعزعة الاستقرار الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي والجماعة الدولية وأدت الي ارتفاع أصوات الاصلاح في العالم الرأسمالي تطلب إعادة نظر شاملة في جوانب عديدة أدي اهمالها الي توحش النظام الرأسمالي.