أميركا.. الأزمة الدينية د. محمد الدعمي لا يمكن لأي متابع لشؤون المجتمع الأميركي إلاّ أن يلاحظ الأزمة الدينية المتفاقمة التي راحت تعصف بقوة بالعديد من مسلّمات أو أعمدة المجتمع الأميركي وأهمها بروز تيارات التمرد على ما يسمى بمؤسسة الكنيسة، حيث تتبلور هذه الأزمة في الأعداد الكبيرة لمدّعي النبوة أو للمتنبئين الذين يظهرون من آن لآخر كي يتسببون بعواصف اجتماعية أو روحية لا تلبث وأن تهدأ بتداخلات حكومية قد تكون من النوع العنيف ، كما حدث على عهد الرئيس السابق بيل كلينتون الذي شهد عهده ظهور مدع لنبوة اسمه "كوريش". الغريب في قصص هؤلاء الأنبياء الكذابين هو تطابق رؤياهم المشؤومة في عدد من النقاط ، وأهم هذه النقاط هي التقاؤهم على فكرة قرب نهاية العالم وهي الفكرة المثالية التي يمكن لأي مدع للنبوة أن يركبها كي يقدم نفسه بوصفه المسيح المنتظر الذي يأتي على المجتمع كي ينقذه في اللحظات الأخيرة قبل سقوط لعنة الخالق عليه. وغالباً ما تنتهي قصص هؤلاء المتنبئين الكذابين إلى نهايات مأساوية حسب جميع المعايير، حيث إن فكرة نهاية العالم تهيّئ لهم نوعاً من الأتباع المتعامين الذين يحتضنون كل ما يقوله مسيلمة بحذافيره. ففي حالات معينة يطلب المتنبئ من أتباعه التجمع في مكان واحد كي يقوموا بعملية انتحار جماعي لا تلبث أخبارها وأن تتناهى إلى مسامع السلطات التي تحاول منع العملية الجماعية التي يدشنها المتنبئ الكاذب بنفسه من خلال مهاجمة الجماعة الدينية المفترضة، كما حدث في حالة كوريش المشار إليها أعلاه، وكما يحدث اليوم بالنسبة لجماعة المورمون الذين اتخذوا من ولاية تكساس معادلاً توراتياً للقدس، حيث هزت أخبار هذه الجماعة أعمدة التيقن الديني في المجتمع الأميركي بعد انكشاف حقائق ممارسة هذه الجماعة لتعدد الزوجات واقتران شابات لم يتجاوزن سن المراهقة برجال يكبروهن بأكثر من ثلاثة عقود، الأمر الذي استثار أصوات علماء الإجتماع والمنظمات الخاصة بحقوق المرأة والطفولة، وهي المنظمات التي تزدهر في مثل هذه المجتمعات التي تمارس شيئاً وتقول الشيء المعاكس. وللمرء أن يتيقن أن السلطات الأميركية لا تسمح بتعدد الزوجات بكل صرامة درجة أن المتقدم للهجرة إلى الولاياتالمتحدة أو حتى المتقدم بطلب تأشيرة دخول يضطر إلى أداء قسم خاص أمام الضباط المسؤولين عن الموافقة على طلبه بأنه لن يتزوج بأكثر من امرأة واحدة بقية حياته. هذا القسم هو شرط مسبق لأي طلب من هذا النوع للهجرة ، الأمر الذي يبرر ظهور فرق او جماعات دينية متمردة على مؤسسة الكنيسة تقوم بالسماح بتعدد الزوجات وحتى بالإقتران ببنات لم يبلغن سن الرشد على أساس زيادة أعداد أتباع هذه الأنظمة الدينية المفتعلة، وكأنها أنظمة صنعت وسوقت لتلبية الطلب المتزايد داخل المجتمع لتعدد الزوجات ولإيجاد الطرق والتقنيات التي تسمح بالإنفصال بين الرجل والمرأة بعد اقترانهما بعقد الزواج. "إسرائيل هوبكنز" هو آخر المتنبئين الذين تم وضع اليد عليهم وهو متواصل ببناء مجتمعه المبشر بالخلاص في بيت "يحوه" Yahweh بولاية تكساس. حالة إسرائيل هوبكنز تبعث على القلق والشك، ذلك أنه قد أسس بيت يحوه أو بيت الخلاص (لاحظ أن إسرائيل هو رجل يهودي متشرب بالثقافة التلمودية التوراتية القديمة. ذلك أن لفظ بيت قد أخذ من العبرية وهو بنفس معنى بيت لدينا في اللغة العربية ، بمعنى الدار أو المأوى. ركب إسرائيل فكرة اقتراب نهاية العالم من أجل تأسيس مجتمعه الصغير المتكون من أتباعه الذين يؤمنون بكل ما يقول بتعام متناه، حيث تقوم دعوته على تأسيس رؤى مستقبلية مفعمة بالسوداوية تمهد لتقديم الذات بوصفها سفينة النجاة الوحيدة. لاحظ أن إسرائيل هوبكنز يأخذ الأزمة الغذائية العاصفة بالعالم الآن أداة لتنبئه بانتشار المجاعات الرهيبة التي لابد وأن تقود إلى حروب عنيفة بين الأمم المختلفة. وكما يرى إسرائيل فإن هذه الحروب ستقود إلى تدمير العالم لنفسه، إذ لن يتبقى منه سوى خمس من خمسة أخماس هذا الخمس، كما نقول في تعابيرنا الشائعة. الفرقة الثانية، هي فرقته التي تتشبث بتنبؤاته السوداوية. الطريف هو أن هذه السوداوية تنطبق على العالم بأسره ولا تنطبق عليه لأنه مستثنى بسبب تيقناته الغريبة التي سمحت له بالزواج من أربع وعشرين امرأة في وقت واحد، منهن نساء لا يزدن على خمس وعشرين عاماً من العمر. هذه الحالة المفردة من بين العشرات من سواها تجعلنا نتساءل: لماذا يعد المجتمع الأميركي أكثر المجتمعات في العالم تفتحاً أو استجابة للأنبياء الكذابين ولمدعي النبوة؟ وبكلمات أخرى، هل تجد قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي نفسها ضائعة وغير مقتنعة بمؤسسة الكنيسة اللوثرية المهيمنة على غالبية السكان؟ إن هذه الحالة تستحق المعاينة خاصة على خلفية تزايد جرائم القتل التي تحدث داخل الكنائس وأثناء القداسات في وقت يصل فيه التمرد على القيم الدينية المؤسسة درجة تشريع ولاية كاليفورنيا الزواج بين أفراد الجنس المثلي الواحد، حيث تعج وسائل الإعلام الأميركية اليوم بأسماء نجوم أعلنوا اقترانهم داخل الكنيسة برفاق عمرهم من نفس الجنس! ثمة أزمة دينية واضحة المعالم تعصف بالمجتمع الأميركي، وهي الأزمة التي تميط اللثام عن مخاطر التمادي في التسارع نحو القبول بكل شيء مادام قد توفرت له بعض الأسباب او المبررات. إن ظاهرة انتشار أديان جديدة مفتعلة في المجتمع الأميركي تميط اللثام عن مشكلة أخرى أكثر عمقاً، وهي مشكلة عدم قناعة قطاعات واسعة من المجتمع بالكنسية المؤسسة التي توارثها مجتمع اليوم عن مجتمع الآباء والأجداد. عدم القناعة هذا يتبلور في انتشار أسواق السحر والشعوذة والماورائيات واللامرئيات في أميركا على نحو يثير الملاحظة، خاصة وأن هذا المجتمع يعد أكثر مجتعمات العالم مادية وحيدة الجانب: ألم تتمكن هذه المادية المتجذرة في الروح العلمية والإعتماد على معطيات التقنيات الحديثة من محو حاجة النوع الآدمي لأجوبة على أسئلة الوجود الأساسية؟ والحق، فإن علينا أن نفهم تبعاً لذلك أسرار وإرهاصات الإندفاع الفكري الأميركي إلى الشرق الأوسط أو ما يسمى بأرض الكتاب المقدس Bible Land وهي البقاع الممتدة بين أور جنوب العراق وسواحل البحر المتوسط غرباً حيث ولدت الأديان المنزلة الثلاث بين مسقط رأس إبراهيم الخليل (عليه السلام) في أور ومسرح ظهور المسيحية قبل أكثر من الفي عام على أرض فلسطين. إن العقل الأميركي يراوده حنين غريب لمنطقتنا، وهو حنين روحي أكثر منه حنين سياحي مجرد، الأمر الذي يبرر نشر كتاب جديد بعنوان (حيث خلق الله) Where God was created، بمعنى الأرض التي شهدت ظهور فكر التوحيد لأول مرة في التاريخ وهي أراضي المشرق العربي التي يتصاعد الإندفاع إلى إعادة اكتشافها في وقت يتلاعب به الكذابون والدجالون بأرواح ومصائر الآلاف من المستعدين لإحتضان أي شيء من العقائد بحثاً عن إجابات الأسئلة الأزلية من وجود الإنسان وجدواه. هذا هو واحد من أهم مسببات العشق الفكري الأميركي للشرق الأوسط، وهو عشق لم تذو نيرانه بين بدايات الثقافة الأميركية في القرن التاسع عشر وبين هذه اللحظة التي تشهد المزيد من قطع الصلات مع المؤسسة التي أمسكت بالمجتمعات الغربية طوال قرون حتى راحت قبضتها تضعف وتذوي ممهدة الطريق للكذابين وللأدعياء لنشر خرافاتهم وخيالاتهم بين اوسع الجماعات الإجتماعية في أميركا وفي غيرها من المجتمعات الغربية. عن صحيفة الوطن العمانية 24/5/2008