بعد 60 عاماً على النكبة.. القضية الفلسطينية إلى أين؟ عبدالمالك سالمان 60 عاماً مرت على اغتصاب فلسطين (1948 2008م)، وهي الذكرى الفاجعة التي رسمت معالم التاريخ العربي المعاصر في مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار، فلم يستطع العرب حتى يومنا هذا التخلص من وطأة المستعمر الغربي ومؤامراته التي جعلت لها هدفا استراتيجيا هو الحيلولة دون نهضة العرب أو نهوضهم الحضاري من جديد، فكان قيام إسرائيل في عام 1948 محققا هدفا استعماريا غربيا مزدوجا. هو التخلص من وطأة عقدة الذنب تجاه الاضطهاد الأوروبي لليهود الذي بلغ ذروته في عهد النازية الهتلرية في المانيا، وغرس كيان عدواني توسعي في قلب العالم العربي يعمل قاعدة متقدمة ومستمرة للاستعمار الغربي في داخل الوطن العربي مهمته الضرب بيد من حديد ضد أي محاولة عربية للوحدة والنهضة والتقدم، وكان الضحية المباشرة لهذا المخطط الاستعماري الغربي هو الشعب الفلسطيني الذي ما زال يعاني الويلات منذ اغتصاب أراضيه على أيدي الغزاة الصهاينة وتشريد أهله وسكانه في منافي الشتات التي ما زالت مخيماتها حتى اليوم تجسد ملامح النكبة الإنسانية والتاريخية الكبرى، وتحمل في ذات الوقت حلم العودة لوطن الآباء والأجداد في فلسطين. وفي تقديرنا، أن الحشد السياسي الغربي على مستوى القمة والذي يشارك فيه ثلاثة من كبار زعماء العالم الغربي وهم الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل لمشاركة إسرائيل في الذكرى الستين لتأسيسها إنما يجيء ليس فقط من أجل الاحتفال ، وإنما أيضا لتجديد ذلك الدعم الغربي اللا محدود والمنقطع النظير لإسرائيل والالتزام بتأييدها على الدوام فضلاً عن تعزيز دورها الاستعماري الذي تلعبه ضد العرب. وقد كان أحرى بهؤلاء الزعماء الغربيين أن ينتهزوا الذكرى الستين للنكبة ، لتذكر الوجه الآخر لقيام إسرائيل وهو محنة الشعب الفلسطيني وتذكر حقيقة أن قيام إسرائيل قد تم على أنقاض أحلام وأماني وتطلعات ومصير شعب كامل هو الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي ، والاعتراف بالكارثة المروعة التي سببتها السياسات الاستعمارية الغربية لهذا الشعب. ومن المؤسف أن الحد الأدنى من معطيات إنصاف الشعب الفلسطيني لم يتحرك الغرب لدعمها ولا يؤرقه ضميره بشأنها بعد 60 عاماً من النكبة وجريمة التهجير والإبعاد ومصادرة الأراضي والحقوق، والدليل ان تسوية القضية الفلسطينية ما زالت حلما بعيد المنال. ومن المؤلم كثيراً تقرير حقيقة أنه في الذكرى الستين للنكبة، فإن القضية الفلسطينية تواجه مصيراً مجهولاً وأكثر غموضاً، بل يمكن القول ان القضية الفلسطينية ربما كانت على أعتاب نكبة جديدة، حيث تعود معطياتها إلى نقطة الصفر، وهو ما يمكن أن نوجزه في النقاط التالية: أولاً: تراجع احتمالات التوصل إلى تسوية نهائية على المسار الفلسطيني، بسبب تهاون الإدارة الأميركية الراهنة بقيادة جورج بوش في السعي جدياً لإحلال السلام في المنطقة، أو للوفاء بتعهداتها فيما عرف بوعد بوش الخاص بتطبيق "رؤية الدولتين"، والتي كانت ترى ضرورة قيام دولة فلسطينية إلى جانب اسرائيل. فإدارة بوش لا تعتزم ممارسة أي ضغوط على إسرائيل للإقرار بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، كما أنها ترى الأولوية هي لتحقيق أمن إسرائيل، وبات كل ما يفكر فيه بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس هو محاولة الوصول إلى إعلان مبادئ عام لمحاولة تعريف الدولة الفلسطينية قبل الرحيل من البيت الأبيض. ونعتقد أن مثل هذا الإعلان سيكون عبئاً وقيداً على أحلام الشعب الفلسطيني وحقوقه في المستقبل في إقامة دولته المستقلة ، حيث سيكون الهدف منه هو تكريس الرؤية الإسرائيلية لمفهوم الدولة الفلسطينية، وهو عادة مفهوم يدور حول الرؤية الأمنية من قبيل التأكيد على نزع سلاح الدولة الفلسطينية ، وألا تشكل كياناً إرهابياً يهدد أمن إسرائيل ، إلى غير ذلك من المفاهيم الإسرائيلية التي تحاول اختزال حقوق الشعب الفلسطيني. ولذلك فإن الرؤية الحكيمة تقتضي ألا يوافق الجانب الفلسطيني على صياغات من هذا القبيل لأنها ستكون كارثة جديدة على الشعب الفلسطيني من دون ان توفر له أي فرصة لتحقيق طموحاته وحقوقه المشروعة، ولا تستحق إدارة بوش ولا إسرائيل تمكينها من تحقيق هذه المآرب. ثانياً: إن التفكير الإسرائيلي في القبول بدولة فلسطينية حتى ولو كانت محدودة ومحاصرة بالهيمنة الإسرائيلية،أصبح في تراجع مستمر، وأصبح المطروح فقط هو ما يطرحه اليمين الإسرائيلي وهو حكم ذاتي للسكان الفلسطينيين بلا سيادة على الأرض وتحت الهيمنة والسيادة الإسرائيلية، مما يعني تراجع جهود السلام عشرات السنين الى الوراء. وقد ساد الخطاب الإسرائيلي في السنوات الأخيرة خطاب سياسي وإعلامي يحذر من عواقب قيام دولة فلسطينية على مستقبل إسرائيل، وخاصة بعد صعود حركة حماس وتراجع نفوذ وقوة حركة فتح، حيث باتت الدعاية الإسرائيلية تتحدث عن أن قيام أي دولة فلسطينية يعني قيام دولة أصولية ذات توجهات ارهابية وموالية لإيران على حدود إسرائيل. ومن هنا، تصاعد التأييد في أوساط الرأي العام الإسرائيلي لتوجهات الخطاب اليميني المتطرف والذي يقوده زعيم الليكود نتنياهو ، الأمر الذي دفع أقطاب اليسار مثل الجنرال ايهود باراك إلى أن تجاري اليمين الليكودي في المواقف المتطرفة ضد الفلسطينيين باعتبار ان ذلك هو المدخل لنيل الشعبية. ومع دخول ايهود أولمرت في مسلسل الأزمات السياسية والفضائح المالية بات واضحا أنه لم يعد قادرا على إنجاز أي شيء حقيقي على مسار التسوية مع الفلسطينيين، وباتت مسألة بقائه في السلطة محل شك كبير، مما يوشر على إمكانية قرب استقالته. واحتمال اللجوء الى تنظيم انتخابات مبكرة المرشح للفوز بها هو اليمين المتطرف بزعامة حزب الليكود، مما يعني عودة نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، وهو ما سيقضي عمليا على أي فرص للمضي قدما في مفاوضات التسوية لسنوات عديدة قادمة وطالما أن إسرائيل لن تكون مستعدة للسلام أو للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، فلا يتوقع ان تمارس أي إدارة أميركية جديدة تأتي بعد بوش أي ضغوط على إسرائيل للإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني مما سيعني قدوم مرحلة جمود طويلة في عملية السلام، ناهيك عن المخاطر المتعاظمة بشأن شن حروب جديدة في المنطقة تبدو إسرائيل تهيئ نفسها لها على أمل استعادة صورة الهيمنة الإقليمية المطلقة وإزالة آثار انتكاستها في حرب صيف عام 2006 ضد "حزب الله" اللبناني. ثالثا: انه في الذكرى الستين للنكبة، تبدو القضية الفلسطينية مقبلة على ملامح نكبة جديدة ، تتحدد ملامحها في زيادة حدة الخطاب السياسي الصهيوني الداعي إلى التخلص من الأقلية الفلسطينية العربية في داخل فلسطين 1948، وهم من يعرفون ب "عرب 48 " حيث، يتبنى زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" السياسي المتطرف اليميني من أصل روسي ليبرمان الدعوة الى تنفيذ مخطط ترانسفير، أي تهجير وطرد عرب 48 الى البلدان العربية أو مناطق ما يسمى "السلطة الفلسطينية" في الضفة الغربية وغزة، في حين أن السلطة الفلسطينية ذاتها تواجه خطر الانهيار في ظل تعاظم احتمالات انهيار عملية السلام. ومعروف أن عرب 48 يشكلون نحو 20% من سكان إسرائيل ويبلغ تعدادهم أكثر من مليون نسمة، وينظر اليمين الإسرائيلي على أنهم يشكلون قنبلة ديموغرافية تهدد مستقبل إسرائيل، وخاصة مع تزايد التكاثر في صفوفهم مما قد يجعلهم يشكلون نحو 40% من سكان إسرائيل خلال ثلاثة عقود ، الأمر الذي قد يمكنهم من تشكيل القطب الأكثر تأثيرا في داخل الكنيست والحياة السياسية الإسرائيلية، لهذا ظهرت مؤخراً وبإلحاح داخل إسرائيل فكرة تكريس مبدأ "يهودية اسرائيل"،الذي نجحت حكومة أولمرت في الحصول على دعم مطلق من جانب الحكومة الأميركية بزعامة بوش له، باعتباره ركيزة أي حل نهائي مع الفلسطينيين. ويشكل هذا المحور نقطة فاصلة في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأنه سيترتب عليه نتائج خطيرة، فإسرائيل ترفض نتيجة لذلك الاعتراف بحق العودة للاجئي عام 1948، وتعتبر ذلك أي منع عودة الفلسطينيين إلى أراضي عام 1948، أساس أي حل نهائي مع الفلسطينيين، ومن جانب آخر، تفكر من منطلق مبدأ "يهودية اسرائيل" في طرد المليون عربي الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية في داخل فلسطين عام 1948، مما سيشكل في حد ذاته ما يمكن ان نطلق عليه بجلاء "النكبة الثانية". وهو أمر بالغ الخطورة ولكنه يفصح بوضوح عن المصير المفزع الذي ينتظر القضية الفلسطينية في المستقبل المنظور. رابعاً: لم يعد أمام الفلسطينيين إلا استخلاص العبر من الاحتمالات الخطيرة التي تتهدد مصير قضيتهم، فالآمال المعلقة على التسوية النهائية وإقامة دولة فلسطينية تتبخر، كما أن مشروع اتفاق أوسلو يصل إلى نهاياته. وبالتالي، فإن الجانب الفلسطيني ، بعد خيبة أمله الكبيرة من المسار التفاوضي وانهيار عملية السلام، عليه أن يعود الى إدراك حقيقة أنه أمام مرحلة جديدة وطويلة وربما أكثر صعوبة من الستين عاماً الماضية لإثبات حقوقه وانتزاعها انتزاعاً، بعد أن جرب الخيار التفاوضي ولم يستطع الوصول عبره إلى أي نتيجة ذات أي مغزى سوى الخيبة والحسرة والإحباط. من هنا، تبدو الحاجة ملحة لوضع نهاية لحالة الانقسام والاستقطاب داخل صفوف الشعب الفلسطيني وخاصة بين حركتي "حماس" و"فتح". فهناك حاجة ماسة إلى استعادة الحوار الفلسطيني الداخلي وإعادة تقويم المسار الفلسطيني، وتدارك مخاطر الانقسام الذي لم تستفد منه سوى إسرائيل في تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني وتقزيم القضية الفلسطينية. وبطبيعة الحال، فليس بوسع الشعب الفلسطيني بعد 60 عاماً من النضال الخضوع للتصورات الإسرائيلية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، ومن هنا فلا سبيل إلا العمل على استعادة وحدة النضال الفلسطيني عبر إعادة تنظيم منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تنضم إليها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي". والفصائل الأخرى خارج منظمة التحرير، وصياغة برنامج نضال وطني جديد يحافظ على ثوابت النضال الفلسطيني من ناحية، ويعلي من شأن المقاومة بجميع توجهاتها وأشكالها من ناحية أخرى. فهناك، إدراك يتزايد أنه بعد 60 عاما من النكبة فإن الآمال التي علقت على عملية السلام في أن تحقق الحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية في إقامة دولة على حدود عام 1967م. أي في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية لم تعد ممكنة بسبب الصلف والتعنت الإسرائيلي، والدعم الأميركي للسياسة العدوانية الإسرائيلية وعدم التصدي للمشاريع التوسعية الإسرائيلية المتمثلة في تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والاطماع الإسرائيلية الرامية إلى الاستحواذ على أراضي غور الأردن وضمها الى إسرائيل. وهو أمر يدعو الشعب الفلسطيني بجميع فئاته وفصائله إلى مراجعة خياراته، بما في ذلك خيار حل السلطة الفلسطينية. والعودة إلى المقاومة والنضال وإشعال انتفاضة جديدة، فليس متصورا ان يكون مصير الشعب الفلسطيني هو الاستسلام للغطرسة والهيمنة الإسرائيلية، مهما اشتدت غلواء التأييد الاستعماري الغربي لإسرائيل. وتقديرنا، أن الشعب الفلسطيني الذي صمد طوال 60 عاماً من بعد النكبة، لن يقبل بمصير الهنود الحمر، وإنه قادر على الاستمرار في الكفاح والنضال من جديد بملايينه التسعة في داخل فلسطين وفي المنافي والشتات، لأنه لابد من إدراك ان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو صراع طويل الأمد ولن ينتصر فيه في النهاية إلا أصحاب النفس الطويل، ولابد من الرهان على أن إسرائيل لن تستطيع الاستمرار الى الأبد في خيارات العدوان والتوسع وارتكاب الجرائم وشن الحروب، واستمرار صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته هو الذي سيجبر إسرائيل في نهاية المطاف على الرضوخ للرؤى الواقعية والعقلانية، التي تقرر انه لا يمكنها أن تستطيع العيش أو البقاء في هذه المنطقة طالما استمرت في إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. خامساً: إن العرب بعد 60 عاماً من النكبة مطالبون أيضا باستخلاص العبر بشأن مصير القضية الفلسطينية وخاصة بعد فشل المسار التفاوضي في الوصول الى حل عقلاني وموضوعي للقضية الفلسطينية، وأمام العرب الآن خيار تقييم حصاد اطلاق مبادرتهم التاريخية للسلام مع إسرائيل، والتي قابلتها إسرائيل بالرفض والصدود والتجاهل، وبات ملحا التفكير في سحب هذه المبادرة حفاظا على ماء الوجه العربي، وقد دعا مؤخراً أحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية الفلسطينية من داخل سجنه تحت الاحتلال الاسرائيلي ، العرب الى سحب مبادرتهم للسلام بعد ان قابلتها إسرائيل بالتجاهل. وقد أعلنت القمة العربية في دمشق مؤخراً أنه سيتم خلال النصف الثاني من عام 2008 عمل تقييم شامل لحصاد المبادرة العربية، واتخاذ قرار بشأن مسألة الاستمرار في طرحها على إسرائيل، ولا شك ان انتهاء ولاية بوش من دون إنجاز على المسار الفلسطيني سيكون مدعاة للعرب للتفكير جدياً في سحب المبادرة حتى تجبر أي إدارة أميركية قادمة على التحرك جدياً بشأن السلام في المنطقة، ولا سيما اذا واكب ذلك بلورة موقف فلسطيني موحد بين حركتي حماس وفتح بشأن كيفية إدارة الصراع مع إسرائيل في المستقبل. إن أخطر ما يهدد مصير القضية الفلسطينية بعد 60 عاماً من النكبة، هو استمرار الانقسام في داخل الصف الفلسطيني من ناحية، وتراجع العزم أو التصميم العربي بشأن دعم القضية الفلسطينية والرهان فقط على عملية السلام كخيار وحيد للتعامل مع إسرائيل. إن مرور 60 عاماً على النكبة هو مناسبة لإعادة التفكير في مسار الصراع العربي الاسرائيلي واستخلاص العبر منه، فقد جرب العرب خلال 30 عاماً تقريبا مسار السلام ولم يصلوا إلى نتيجة، وحان الوقت للتفكير في استراتيجيات جديدة لمواجهة المرحلة الجديدة للمشروع الصهيوني الرامي إلى ابتلاع كل فلسطين من البحر إلى النهر، وفرض الهيمنة الإقليمية على الوطن العربي بمعاونة مشروع الهيمنة الامبراطورية الأميركية الذي دشنه المحافظون الجدد في إدارة بوش عبر غزو واحتلال العراق. ونعتقد ان الخيار المطروح أمام العرب والفلسطينيين هو العودة الى خيار المقاومة والصمود في وجه المشروع الاستعماري الغربي في صيغته الأميركية الجديدة. عن صحيفة الوطن العمانية 20/5/2008