تركيا والصراع بين خفافيش الظلام ومسيسي الإسلام د. إبراهيم عرفات ما يجري في تركيا مثير للغاية. بها تيار إسلامي هو الأعقل في الشرق الأوسط بأكمله. تتمنى أي دولة عربية لو أن قواها الإسلامية وصلت إلى نضجه. ومع هذا توضع رقبته باستمرار تحت المقصلة. مقصلة بنصلين. أحدهما القضاء والآخر الجيش. فمنذ أن نشأت المحكمة الدستورية التركية في إبريل 1962 قضت بحل 24 حزباً سياسياً. نال الإسلاميون حظهم فيها أكثر من مرة. في 1970 قررت المحكمة حل حزب النظام الوطني بقيادة نجم الدين أربكان. وفي 1998 حلت حزباً آخر أسسه نفس الرجل باسم الرفاه. وفي 2001 قضت بحل حزب الفضيلة. وهكذا صنعت المحكمة صورتها بنفسها. وأنها لا تتهاون في تطبيق الدستور العلماني مع الإسلاميين. تماماً كما لا يتهاون الجيش الذي قام عام 1980 بانقلاب كان من ثماره حل حزب الخلاص الوطني، لأربكان أيضاً. وقبل أيام أصدر قضاة المحكمة الأحد عشر قراراً بالاجماع بقبول النظر في دعوى تطالب بحل حزب العدالة والتنمية. الحلقة الأحدث في سلسلة الأحزاب التركية ذات التوجه الإسلامي. الحزب الذي تمكن من نيل شعبية كبيرة مكنته من تشكيل الحكومة منذ 2002 ولم يشفع للحزب النجاح الواضح الذي حققه. أو نهجه الإصلاحي وطابعه الليبرالي. لم يغفر له أنه جعل تركيا القوة الاقتصادية السابعة عشرة في العالم. لم تقه شعبيته من تربص الجيش ومن ترقب المحكمة الدستورية. في الولاياتالمتحدة يوجد مركب شهير يسمى بالمُركّب الصناعي العسكري. تتحالف فيه مصالح رجال الأعمال بمصالح العسكر. هذا يصنع السلاح والآخر يسوقه. والاثنان معاً يربحان. وفي تركيا مُركّب آخر ذو نفوذ طاغ أقترح أن نسميه «المُركّب القضائي العسكري». مُركّب تتناغم فيه المؤسسة القضائية مع المؤسسة العسكرية. هذه تتشدد باسم الدستور. وتلك تُرعب بقوة السلاح. والاثنان معاً يتغلغلان. يكونان ما يُعرف في تركيا «بالدولة العميقة». وهي شبكة ضخمة من الأفراد والتنظيمات. تعمل بكل الوسائل الممكنة لحماية العلمانية. تعمل حتى من خارج القانون كي تُبقي على الأركان والمبادئ والمصالح التي قامت عليها تركيا العلمانية. تُجند أشخاصاً يقومون بأعمال قذرة، ينهبون، يثيرون الفتنة بين الكرد والترك، يقتلون المعارضين. والهدف هو إبراز الحاجة إلى الجيش كضامن للسلم والاستقرار. ولأنها عميقة، فإن محركيها الحقيقيين وعناصرها الفاعلة نادراً ما يلقى القبض عليهم. يتمتعون بحماية رفيعة وقلما تطالهم التحقيقات. ويدرك رئيس الوزراء التركي أردوغان قوة الدولة العميقة ويعرف ما تخطط له. يعلم أنها هي التي أحالت ملف حزبه إلى المحكمة. لكن الرجل يعرف كذلك أن لديه عناصر قوة يقدرها خصومه جيداً. ولهذا تجرأ ووصف ساكني الدولة العميقة بأنهم «خفافيش الظلام». قالها وفي فمه مرارة القرار الذي أصدرته المحكمة. وما كان من أنصار الدولة العميقة إلا أن ردوا عليه. وصفوه وحزبه بخونة الدستور ومسيسي الإسلام. وما بين خفافيش الظلام ومسيسي الإسلام ستدور معركة سياسية ماكرة في تركيا متوقع لها أن تمتد إلى ستة أشهر أو يزيد. معركة مفتوحة على أكثر من احتمال. ولدى طرفيها أوراق قوة متنوعة. المُركّب القضائي العسكري بدولته العميقة مستعد للمعركة. لديه مؤسسات إعلامية وصناعية وتجارية كبرى تنفق على نشاطاته بسخاء. لديه أجهزة أمن ومحاكم في إمرته. ولديه أيضاً شبكة متينة من العلاقات مع أحزاب المعارضة. سبق أن ساعدها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. أقام بينها تحالفات كي تتجاوز نسبة العشرة بالمائة اللازمة لدخول البرلمان. ثم إن لديه أنصارا أشداء داخل المحكمة الدستورية. لديه سبعة من قضاة المحكمة الأحد عشر معروفون بميولهم الشديدة مع العلمانية وتماهيهم مع المؤسسة العسكرية. وقد صوت هؤلاء السبعة معاً على قرار قضى بشمول عبد الله غول، رئيس الدولة، ضمن 71 قياديا في حزب العدالة والتنمية تطالب الدعوى بمنعهم من ممارسة العمل السياسي لخمس سنوات. ولدى هذا المُركّب أيضاً عريضة دعوى جبارة ضد أردوغان وحزبه من 162 صفحة أعدها قانونيا متمرس: المدعي العام في محكمة التمييز عبد الرحمن يلتشنكايا. عريضة مقسمة إلى سبعة عشر ملفاً توثق مخالفات حزب العدالة والتنمية. ولا يغفل المركب القضائي العسكري القاعدة الشعبية، توجه إليها، حشدها من قبل في تظاهرات عارمة قبيل الانتخابات البرلمانية في العام الماضي. قال من خلالها إن الجماهير تقف مع من يحمي الدستور وضد من ينتهكه. ثم هناك الجيش. فهو صرة هذا المُركّب ورمانته. يعرف الجميع قوته وتاريخه. لم يتردد من قبل في استعراض قوته أمام حزب العدالة والتنمية. وضع الجيش على موقعه الالكتروني إبان الانتخابات التشريعية في 2007 بياناً هدد فيه بالتدخل إن انتخب عبد الله غول رئيساً للجمهورية. لكن غول انتُخب. لكن ها هو الجيش يعود بمعاونة القضاء ليضع طوق المحكمة الدستورية على رقبة غول ورفاقه. وبرغم مظاهر القوة هذه، فإن المركب القضائي العسكري يعاني مشكلة. عليه إن يفكر ملياً إن أزاح أردوغان ورجاله كيف سيضمن للشعب التقدم الاقتصادي الكبير الذي حققوه. على الجانب الآخر لا يبدو أردوغان ضعيفاً. فقد فاز حزبه قبل أشهر بنسبة 47% من مقاعد البرلمان. فأرسل للجيش والدولة العميقة رسالة أكدت أن الشعب جدد الثقة فيه. ثم فاز بمعركة رئاسة الجمهورية. وصمم على وضع عبد الله غول في موقع الرئاسة برغم أن زوجته محجبة. فكان له ما أراد. أصبح غول رئيساً وأصبحت سيدة تركيا الأولى محجبة. كما استطاع أردوغان أن يمسك على الدولة العميقة زلة. فقبل أسابيع أُلقي القبض في استنبول على 35 مشتبهاً ثبت أنهم على علاقة بمجموعة من الجنرالات تعرف باسم «ارجنكون». وكانت المجموعة تحضر لانقلاب عسكري على أردوغان وحكومته في 2009 .. افتضح الأمر، تم القبض على جنرال متقاعد. اعترف وقدم معلومات خطيرة أفادت بتورط قادة سياسيين وعسكريين كبار. أحس أردوغان أنه وضع يده على أول خيوط النور. النور الذي يزعج خفافيش الظلام. وأدرك أن الدعوى المرفوعة لحل حزبه ليست إلا الضربة المضادة التي قام بها الخفافيش كي لا تفتضح كل أسرار مجموعة «ارجنكون». ثم جاء الأوربيون فمنحوا أردوغان شهادة تعزز موقفه. قال «أولي رين» مسؤول شؤون توسيع الاتحاد الأوروبي إن حل حزب العدالة والتنمية لو تم فسيدفع بالاتحاد الأوروبي إلى وقف مفاوضات العضوية مع تركيا. قال إن إغلاق الحزب يتعارض مع القوانين الأوروبية. لأن الحزب لم يستخدم العنف ولم يحرض عليه. وهي الحالة الوحيدة التي يجيز فيها الاتحاد الأوروبي حل الأحزاب. وبجانب هذا كله، تصرف أردوغان بثقة. لم يبد قلقاً من دعوى الحل. تصرف كرجل دولة. دعا أعضاء حزبه للهدوء. قال للأتراك إنه على استعداد للخسارة إذا كانت تركيا ستكسب. ارتدى عباءة القائد الوطني الحريص. فكسب تعاطفاً شعبياً أوسع. وحاز دعما قد يغريه على الرجوع إلى الشعب ليطلب رأيه في استفتاء على القضايا العالقة بينه وبين المركب القضائي العسكري. الفريقان قويان. خفافيش الظلام ومسيسو الإسلام. المُركّب القضائي العسكري والُمركّب السياسي الديني. وتركيا تقف بين الاثنين كما وقفت طويلاً من قبل. تنتظر من يحسم الصراع على هويتها. وتترقب من سيحدد دور الإسلام في الحياة العامة. وهي لا تترقب النتيجة وحدها. إنما تتابعها أوروبا. وتتابعها كذلك بلدان الشرق الأوسط. فهي مصابة مثل تركيا بنفس أزمة الهوية، وربما كانت إصابتها أعمق وأفدح. وخلال الشهور القادمة ستتواصل اللعبة السياسية بين الفريقين. أردوغان يقول «إن السياسي لا يتراجع بل يتقدم إلى الأمام». سيحاول أن يتقدم. لكن بمنتهى الحذر. سيتقدم وهو يعلم أن بإمكانه أن يطلب من البرلمان تعديل الدستور من أجل تقييد صلاحيات المحكمة الدستورية في النظر في دعاوى حل الأحزاب. وأن بإمكانه لو عجز على الحصول على موافقة ثلثي أعضاء البرلمان أن يطرح التعديل في استفتاء على الشعب. لكنه لن يفعل ذلك مبكراً. وقد لا يفعله أبداً. لأنه يعي أنها خطوة مستفزة. تُغضب العسكر. وقد تدفعهم إلى التدخل الصريح. وهو ما لا يأمله. لذلك سيميل إلى استكمال عملية التقاضي إلى آخرها. وقد يفكر في تشكيل حزب جديد قبل أن تصل الأمور إلى طريق مسدود. فقد يكون الأفضل للحزب أن يحل نفسه بنفسه قبل أن تحله المحكمة. وقد يفكر الرجل أيضاً في تسوية ما إن لاحت لها بوادر مطمئنة. والمركب القضائي العسكري بإمكانه أن يهدم المعبد السياسي التركي على رأس أردوغان ورفاقه. يستطيع أن يستخدم القانون معولاً. ويستطيع أيضاً أن يستخدم الجيش مطرقةً. لكنه سيتردد. لقد فعل ذلك ثلاث مرات من قبل. وفي كل مرة كان يحل فيها حزب ذو توجه إسلامي، كان يظهر بدلاً منه حزب آخر أقوى وأكثر شعبية. كما أن الأتراك سوف يلومون القضاة والعسكر إن قرروا إزاحة أكثر حكومات تركيا الحديثة نجاحاً. لذلك لا يُرجح أن يحسم التحالف القضائي العسكري قراره بسرعة. سيتريث، ستطول جلسات المحكمة الدستورية. وستدور خلف الكواليس مناقشات. تنفتح معها الأبواب على مقترحات للتوفيق. على صفقة، على حل وسط. على تنازل من هنا وتنازل من هناك. كأن يتخلى حزب العدالة والتنمية عن مشروع إدخال الحجاب إلى مؤسسات التعليم. مقابل تنازل المركب القضائي العسكري عن دعواه لحظر الحزب. أو أن يتغاضى أردوغان عن كشف خبايا شبكة «أرجنكون» وأن يتوقف عن ملاحقة الدولة العميقة. ويقبض مقابل ذلك وقف الدعوى بشأن منع رئيس الجمهورية عبد الله غول من مزاولة العمل السياسي. الحلول الوسط واردة، لكنها ليست مضمونة، ولن تكون سوى حلول مؤقتة. فطرفا الصراع يتبادلان شكوكاً عميقة، وبينهما تناقضات جوهرية. أردوغان لن يسارع إلى تقديم تنازلات حتى لا يفقد شعبيته. فلو فقدها، فسوف يسرع المركب القضائي العسكري بالإجهاز عليه. والدولة العميقة أيضاً لن تقدم أي تنازل له قبل أن تقبض الثمن منه أولاً. قبل أن تضمن أن سرها سيظل في بئر. صحيح أنها الأقوى. تستطيع بسيف القانون أو بقوة الجيش أو بالاثنين معاً أن تحل الحزب وأن تحظر نشاط قياداته. لكنها تفكر ملياً. وستبقى تفكر. ستفضل أن تعالج الأزمة على مراحل وليس من مرة واحدة. ستسعى للوصول إلى صفقة. إلى تنازل صريح من أردوغان. تنازل يبين تراجعه، لأن تراجعه سيضعف شعبيته. أما لو عجزت فلن يكون أمامها إلا اللسع. ستحل الحزب بقرار من المحكمة الدستورية. فآخر الدواء الكي. تركيا تقف على صفيح ساخن. مليئة بتناقضات يبدو أحياناً أنها تتعايش. لكنه تعايش المكرهين. قد ينجح أردوغان في المرور من العاصفة بسلام. وهذا احتمال محدود. وإن حدث فستكون تركيا قد دخلت مرحلة مختلفة كليةً من تاريخها. مرحلة تحسم فيها هويتها كما يتمناها أردوغان ورجاله. لكن العاصفة قد تقضي عليه لو كررت الدولة العميقة معه ما فعلته من قبل مع الأحزاب الشبيهة. وهو احتمال وارد. وهذا السيناريو لو حدث فسيُبقي تركيا داخل نفس الدائرة المفرغة. سيظهر بعد أردوغان، أردوغان جديد. وسيظهر بدلاً من «العدالة والتنمية» حزب آخر شبيه. ليستمر الصراع بين المركب القضائي العسكري والمركب السياسي الديني. بين خفافيش الظلام ومسيسي الإسلام. قد تتغير الأسماء في تركيا. لكن قواعد اللعبة ستبقى في الغالب كما هي. عن صحيفة الوطن القطرية 8/4/2008