حقق حزب العدالة والتنمية في تركيا انتصارا كبيرا بعد موافقة 58 % من الأتراك علي حزمة التعديلات الدستورية التي طرحها الحزب ، والتي تتعلق بحدود السلطة القضائية، والمؤسسة العسكرية، الأمر الذي يعتبر مقدمة لإعداد دستور جديد للبلاد، بعد الانتخابات التشريعية المقرراجراؤها في 2011. كانت حكومة حزب العدالة والتنمية قد اختارت يوم 12 سبتمبر الحالي لإجراء الاستفتاء علي التعديلات الدستورية التي يدعمها الحزب ، وهو ما يوافق الذكري السنوية الثلاثين للانقلاب العسكري (1980 ) حينما أعدم الجيش علي إثره المئات من المواطنين الأتراك، واعتقل آلافا آخرين، وحظر الأحزاب السياسية ، قبل أن يتم وضع الدستور الجديد للبلاد آنذاك . وجاء استفتاء 12 سبتمبر كإجراء يهدف به حزب العدالة والتنمية التمهيد لإنهاء مرحلة سيطرة العسكريين في تركيا ، عبر سلسلة من المواجهات بين المؤسستين السياسية والعسكرية. وبالرغم من اختلاف التوجهات السياسية بين حزب العدالة والتنمية من ناحية ، وأحزاب المعارضة السياسية من ناحية أخري، إزاء مضمون التعديلات الدستورية ، غير أن جميع الأطراف تعتبر هذه الخطوة بمثابة تدشين لمرحلة جديدة ، وغير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديثة ، ذلك أن الفترة الراهنة تنفتح علي عدة احتمالات تمس مصير حزب العدالة والتنمية ، والطابع العام لدولة تركيا /أتاتورك ، ومصير التجربة الديمقراطية التركية في التحليل الأخير. وكما أشارت المصادر التركية إلي استفتاء 12 سبتمبر باعتباره اختبارا للثقة في حكومة الحزب ، وأسلوب إدارته للبلاد، فالاستفتاء مثّل أيضا امتحانا لمدي قوة المعارضة الحزبية ، ومدي قوة التيار العلماني في تركيا ، ممثلا في الجيش والمحكمة الدستورية ، وجاءت نتيجة الاستفتاء لتعزز قوة حكومة رجب طيب أردوغان، لتمضي متحررة من سطوة الجيش ، والمحكمة الدستورية ، والمجلس الأعلي للقضاة ، لينطلق الحزب في برامجه السياسية. أما علي الصعيد الخارجي، فقد اعتبرت الدوائر الأوروبية نتائج الاستفتاء مؤشرا علي مضي تركيا في الطريق الديمقراطي الصحيح ، وتحقيق الانفتاح للمجتمع التركي لمزيد من الإصلاحات القانونية والتشريعية لدعم حريات الرأي والعقيدة ، بما يفتح الباب أمام تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، كما أبدي الرئيس الأمريكي باراك أوباما اعجابه بالتجربة الديمقراطية في تركيا. وكان الدستور الذي وضعته الحكومة العسكرية في تركيا في 1982 قد عدل حتي الآن خمس عشرة مرة ، ولكن التعديل الذي جري حوله استفتاء 12 سبتمبر هو الأول الذي يعرض لاستفتاء فيما أطلق عليه " العودة إلي الشعب ". التعديلات الدستورية في مايو 2010 ، صوت البرلمان التركي علي " إصلاحات دستورية " وصفت بأنها الخطوة التي ستسمح لحزب العدالة والتنمية ، ذي الجذور الإسلامية ، بمزيد من الصلاحيات لمواجهة أطياف المعسكر العلماني ، والحد من نفوذ مؤسستي القضاء والجيش . وخلال النقاشات الصاخبة التي واكبت بحث مشروع التعديلات الدستورية ، نجح الحزب الحاكم الذي يتمتع بالأغلبية في البرلمان بتبني إصلاحين من أصل ثلاث إصلاحات أساسية بالمشروع . وبالرغم من إقرار التعديلات الدستورية بموافقة 336 صوتا من أصل 550 صوتا أي أكثر من 330 صوتا المطلوبة ، غير أنه لم يحصل في البرلمان علي غالبية الثلثين التي كانت كافية لإقراره نهائيا بدون استفتاء، ومن ثمة ، جاء تحديد استفتاء 12 سبتمبر ليضع تجربة تركيا ، والمسار الديمقراطي للبلاد علي المحك. أما عن التعديلات الدستورية التي جري الاستفتاء بشأنها فتتألف من 26 مادة أهمها ثلاث مواد استغرقت جل الاهتمام وهي : إعادة هيكلة مؤسسات القضاء عبر زيادة عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 إلي 17 قاضيا، ثلاثة منهم يعينهم البرلمان الذي يهيمن عليه حزب العدالة والتنمية ، وزيادة عدد أعضاء المجلس الأعلي للقضاء والمدعين العامين من 7 إلي 22 عضوا ، وتغيير آليات التعيين والانتخاب في هذه المؤسسات ، بحيث يصبح لرئيس الجمهورية صلاحيات أكبر في هذا الشأن ، بالإضافة إلي إقرار إمكانية محاكمة العسكريين ، بما في ذلك كبار قادة الجيش أمام المحاكم المدنية ، بدلا من المحاكم العسكرية ، ومحاكمة جنود في زمن السلم بتهمة محاولة الانقلاب. وضمت التعديلات الدستورية حق المواطن التركي في المطالبة بحقوقه الشخصية في تملك الدخل ، ورفع الحجر علي السفر إلي الخارج إلا في حالات التحقيقات المبدئية ، وحق الأطفال في الرعاية من الدولة ، ورفع جميع الأحكام القانونية التي تمنع التظاهر والاضرابات والاعتصامات حتي لو كانت لأسباب سياسية ، والسماح لجميع المواطنين بالانتماء إلي منظمات متعددة في وقت واحد، وإعادة النظر في سلطات المحاكم العسكرية ، وحصرها بمحاكمة العسكريين فقط، ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية ، والسماح للطعون الشخصية بقرارات المحكمة الدستورية ، وفي حال المطالبة بحظر حزب سياسي، يجب تحقيق نصاب قانوني بموافقة ثلثي أعضاء المحكمة الدستورية. وتنص التعديلات الدستورية علي أنه في حالة العسكريين الذين يسرحون من الجيش خاصة بتهمة الانتماء إلي التيار الإسلامي سيكون من حقهم تقديم الطعون . كما سيمكن للمواطنين اللجوء إلي المحكمة الدستورية في مسائل تتعلق بحقوق الإنسان ، بعد استنفاد جميع الإجراءات القضائية ، وإنشاء منصب أمين المظالم للتوسط في النزاعات بين المواطنين والدولة. وكانت المعارضة التي تتهم حزب العدالة والتنمية بالسعي للسيطرة علي المؤسسات القضائية والعسكرية، قد حاولت منع اجراء الاستفتاء ، غير أن المحكمة الدستورية العليا رفضت طلب المعارضة بهذا الشأن ، ولكنها وافقت علي تعديل مادتين تتعلقان بانتخاب واختيار الهيئة العليا للقضاء، مما اعتبر بمثابة الحل الوسط للتوفيق بين مطالب الحكومة والمعارضة. ووفقا للآلية الجديدة في التعديلات الدستورية، فإنه سيتاح لحكومة حزب العدالة والتنمية التدخل ، وانتخاب مقربين لها ضمن الهيئة العليا للقضاء ، وربما كان ذلك واضحا تماما للمحكمة الدستورية العليا ، الأمر الذي جعلها ترفض إمكانية تعيين أكاديميين من خريجي كلية العلوم السياسية في الهيئة العليا للقضاء ، بذريعة أن ذلك يؤدي إلي تسييس القضاء . سلطات الحزب الحاكم نظرت دوائر وأطراف تركية عديدة إلي نتيجة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية علي أنها بمثابة تجديد لثقة الشعب التركي برئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وضربة مسددة للدوائر العلمانية ، ومنعطفا مهما في التجربة الديمقراطية لتركيا ، ذلك أنه مع تراجع قوة المؤسسة العسكرية جراء الإصلاحات التي نفذت والتي طلبها الاتحاد الأوروبي ، فقد كانت المحاكم العليا هي آخر ملاذ لجأت إليه المؤسسة العلمانية المحافظة ، ولقد سبق أن أسقطت المؤسستان العسكرية والقضائية (الإسلامي) نجم الدين أربكان من رئاسة الحكومة ، وزجت به في السجن ، ومع ذلك تمكن حزب العدالة والتنمية من الصعود ، كما يذكر أن المحكمة الدستورية أعاقت في وقت سابق محاولات حزب العدالة والتنمية لرفع الحظر علي ارتداء الحجاب في الجامعات. والآن، يبدو المشهد الحالي في تركيا مجسدا لحالة انقسام بين سلطة يتولاها حزب العدالة والتنمية من ناحية ، ومعارضة علمانية ويسارية وقومية وكردية ، تكن له العداء من ناحية أخري. وقد طرحت حكومة حزب العدالة والتنمية التعديلات الدستورية للحد من نفوذ القضاء والجيش ، وبدعوي استيفاء الشروط والمعايير التي تؤهل تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي ، وبذريعة أن الدستور التركي الحالي تم إعداده في سياق ظرف سياسي استثنائي ، ابان الانقلاب العسكري الذي قام به كنعان ايفرين في 1980 ، ومن ثمة فهو دستور غير ديمقراطي ، يمنح الجيش ونخبة القضاة امتيازات زائدة، سمحت لهما بصلاحيات التدخل في سياسات الحكومة ، وتسييس القضايا، واتخاذ مواقف أيديولوجية ضد حكومة حزب العدالة والتنمية. هذا، بينما التعديلات الدستورية كما يراها الحزب تنطوي علي معايير ايجابية ، تخص حقوق المرأة والعمال وحقوق المواطنين بالقطاع العام ، وحقهم في تشكيل النقابات. أما من وجهة نظر المعارضة التي تتمثل في حزب الشعب الجمهوري ، وحزب الحركة القومية ، والحزب اليساري الديمقراطي ، وحزب السلم والديمقراطية الذي يمثل الأكراد ، فإن نجاح حزب العدالة والتنمية في اقرار التعديلات الدستورية يعني بداية نهاية تركيا كما أسسها كمال أتاتورك ، وجعل حزب العدالة والتنمية ممسكا بقوة بمفاصل السلطة السياسية في تركيا ، والتمكن من تغيير الدستور التركي برمته في 2011 ، والتحرر من إمكان حظر الحزب نفسه كما كاد يحدث في 2008، وفي المحصلة ، يؤكد الدكتور جنيد منكو الأستاذ في جامعة اسطنبول أن استفتاء 12 سبتمبر هو مقدمة لتغيير نظام الحكم في تركيا من نظام يحكم فيه مجلس الوزراء إلي نظام رئاسي ، حيث أعلن رجب طيب أردوغان عدم ترشحه للانتخابات بعد 2013 ، وبما أنه لن ينسحب من الحياة السياسية ، فالأرجح أنه يعتزم الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، وقد كلف أردوغان بالفعل الخبراء لبحث تحول تركيا إلي النظام الرئاسي. ومع أن محللين كثر يرون أن حزب العدالة والتنمية يعتبر العلمانية نظاما جيدا ، وليس ثمة أجندة خاصة للحزب لأسلمة تركيا ، فإن السؤال الذي طرحته المتغيرات الأخيرة هو: هل تصبح تركيا دولة دينية تضفي الطابع الإسلامي علي مختلف شئون الحياة؟ المعارضون يبدو أن نتيجة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية ، وموافقة 58% من الاتراك عليها ، جاءت بقوة دفع جديدة لحزب العدالة والتنمية ، وقد حرص رجب طيب أردوغان علي التأكيد بأن التعديلات ليست مشروعا خاصا للحزب ، بل خطوة لتحقيق المزيد من الحقوق الديمقراطية ، في بلد يطمح للانضمام للاتحاد الأوروبي، وقد بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء مابين 77 % 78 % ، واعتبر أردوغان المعارضين للتعديلات الدستورية هم الخاسرون، وأصحاب العقلية الانقلابية . وبناء علي هذا، فإنه لايجب إغفال أن 42% عارضوا التعديلات الدستورية ، وهي نسبة ليست قليلة ، وهناك من يتحفزون لجولة جديدة من المواجهة مع حزب العدالة والتنمية، إذ تري بعض فصائل المعارضة أنه من الصحيح أن بعض التعديلات الدستورية تعتبر خطوة جيدة ، ولكنها في التحليل العام ، تمهد الطريق أمام سيطرة حزب العدالة والتنمية علي المحاكم ، خاصة أن الحزب أصلا يتمتع بالأغلبية في البرلمان ، الأمر الذي يمكنه من تعزيز سلطته القوية في الدولة، والتي بناها علي مدي 8 سنوات في السلطة. من ناحية أخري، فإن الخريطة الانتخابية تبين أن العلمانيين المعارضين للاصلاحات يتركزون في ساحل بحر إيجة، والبحر المتوسط، كما تبدو هيمنة المحافظين المتدينين المؤيدين للاصلاحات في منطقة الأناضول التي تمتد حتي الحدود الشرقية لتركيا . كما يلفت البعض الانتباه إلي حجم المعارضة الكردية المتنامية ، والتي عارضت وقاطعت الاستفتاء لأنه لم يلب أي مطالب لها ، ويلاحظ أن الصوت الكردي تصاعد بالمطالبة بحقوق الأكراد في عهد رجب طيب أردوغان.