ربَّما لم تمضِ أسابيع على تصويت الشعب التركي بالإيجاب على تعديلات دستوريَّة مهِمَّة طالت تخفيف سيطرة أصحاب الاتجاهات العلمانيَّة المحافظة على السلطة القضائيَّة والحدّ من نفوذ الجيش وتدخلِه في الساحة السياسيَّة حتى دخل المفاوض شئون توسيع الاتحاد الأوروبي ستيفان فول على خُطى الأزمة من باب دعوة الحكومة التركيَّة إلى صياغة دستور جديد يضمن الحريَّات الديمقراطيَّة وحقوق الأقليَّات استنادًا إلى معايير الاتحاد الأوروبي، لافتًا إلى أن الدستور المدني يعدُّ نقطة الانطلاق الأهمّ لتوطيد تركيا نظامها الديمقراطي طبقًا لمعايير الاتحاد، مؤكِّدًا أن تركيا مع الدستور الجديد ستعزِّز دولة القانون بفضل نظام قضائي أكثر فاعليَّة وحيادًا... وستحقِّق تركيا تقدمًا مهِمًّا في تسوية المشكلة الكرديَّة ومشكلة الأقليَّات. رغبة قويَّة ومن مفارقات الموقف الراهن أن هذه الدعوة قد توافقتْ مع رغبة حزب العدالة والتنمية الراغب بقوَّة في إزالة أية آثار للدستور التركي الذي صَاغَه العسكر بعد انقلابهم عام 1980 بزعامة كنعان إيفرين بعامين؛ حيث بذلت حكومة رجب طيب أردوغان جهودًا مكثَّفَة في العمل على التخلُّص من الدستور طبقًا لاستراتيجيَّة الخطوة حتى لا يثيرَ ذلك حفيظة عدة مؤسَّسَات، وفي الطليعة المؤسَّسة العسكريَّة، مع التذرُّع بأن هذه التعديلات تأتي من أجل تقريب تركيا من أبواب بروكسل، ورغم نجاح حكومة أردوغان في الخروج منتصرةً من معركة التعديلات الدستوريَّة، إلا أن ذلك لم يشفِ ظمأه تجاه إجراء تعديلات أكثر قوَّة، بل وإزالة الدستور العسكري بشكلٍ سيؤدي في التحليل الأخير إلى تفكيك الحقبة الأتاتوركيَّة حجرًا حجرًا وتمهيد الساحة لدخول تركيا حقبة جديدة تتلافى أخطاء الماضي. دفن الأتاتوركيَّة ويعتقد كثيرون أن المعارضة الشديدة للتعديلات الدستوريَّة الأخيرة من قِبل غلاة العلمانيين والأحزاب المرتبطة بصلاتٍ وثيقة بالجيش قد فرضتْ على زعيم حزب العدالة والتنمية عدم طرح إصلاحاتٍ جديدة قبل حلول موعد الانتخابات التشريعيَّة في شهر يونيو المقبل، خصوصًا أن نجاحه في الاستفتاء الشعبي قد حَقَّق إنجازَيْن كبيرَيْن تمثّلا في إنهاء سطوة مؤسستين اعتبرتا لسنوات طويلة حارس العلمانيَّة التركيَّة وهما القضاء والجيش، حيث أنقذت التعديلات المؤسَّسة القضائيَّة من سيطرة غُلاة المحافظين، وحظرتْ على الجيش لعب دور سياسي، وهما هدفان مهِمَّان في إطار المساعي لتخليص تركيا من قيدين أقضَّا مضاجعها منذ وصول أتاتورك للسلطة. موقف تكتيكي ولا يخفى على أحدٍ أن الموقف المتحفِّظ على المطالب الأوروبيَّة بصياغة دستور جديد من قِبل زعماء العدالة والتنمية قد يكون موقفًا تكتيكيًّا؛ فهم لا يرغبون في الاستجابة الفوريَّة للمطالب الأوروبيَّة حتى لا يُظهروا تركيا كتابع لبروكسل تنتظر التعليمات فتسرع بتنفيذها، والثاني يتمثَّل في عدم السعي لاستفزاز المؤسَّسَة العسكريَّة، باعتبار التوافق معها على حزمة من السياسات العسكريَّة، ولعل كان آخرها إجراء تعديلات على الوثيقة السياسيَّة للأمن القومي، التي ألغت تعبير "خطر الرجعيَّة" واعتبار أن سوريا وإيران وروسيا تشكِّل تهديدًا أو خطرًا محتملًا لتركيا هو أمر مهمّ لتلافي ظهور حزب العدالة والتنمية بالراغب في الهيمنة على الساحة التركيَّة بشكلٍ كامل. وليس أدلّ من الدعم المبطّن من قِبل حكومة العدالة للدعوة الأوروبيَّة لتغيير الدستور من تأكيد أردوغان منذ عدة أسابيع عن إخضاع حزبِه للدراسة مسألة تعديل النظام السياسي التركي من نظام برلماني لنظام رئاسي، وهو ما يكشف أن الحزب ذا الجذور الإسلاميَّة يخطِّط منذ مدة لتغيير جذري للدستور العسكري يعيد هندسة الساحة السياسيَّة التركيَّة، ويخرج بها من رِبقة العلمانيَّة وحماة التقاليد الأتاتوركيَّة وإن كان الحزب يفضل أن يتمَّ ذلك من خلال قناة الاتحاد الأوروبي، مما يرجّح معه أن يبدأ الحزب قيادة حملة تغيير الدستور بشكلٍ مباشر إذا استطاع الحفاظ على وجوده في الحكم بشكلٍ منفرد للمرَّة الثالثة على التوالي بعد الانتخابات العامَّة القادمة. فالحزب لن يتوانى إذا حقَّق أغلبيَّة برلمانيَّة تضمنُ له تسيير الشأن التركي بمفرده أو في حالة الدخول في ائتلاف مع حزب صغير عن المضِيّ قدُمًا في تغيير الدستور وصياغة دستور عصري يضمن نقل تركيا نقلةً نوعيَّة في مختلف المجالات ويحفظ للأقليَّات الكرديَّة والعلويَّة والمسيحيَّة حقوقها، ويرفع القيود على الحريَّات وعلى وسائل الإعلام، فضلًا عن تعديل مادتين في الدستور 35و85 تقطع الطريق أمام الجيش لاستخدام سلاحه للتصدِّي لأي تهديد للعلمانيَّة، ويمهِّد الساحة لإزالة واحدة من أهم العراقيل التي تقف دون تسريع وتيرة مفاوضات الانضمام للنادي الأوروبي. ولعلَّ مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي تبدو حاضرةً بقوَّة في أي تحرُّك سياسي داخل الساحة التركيَّة؛ فحكومة أردوغان تستغلُّ مسألة الانضمام لتبرير أي تحرُّكات تمسُّ بأمور كان يعتبرها الأتراك منذ فترة ليست بالقصيرة خطوطًا حمراء، ومنها تعديل المادة التي كانت تحظر محاكمة الضباط المتورِّطين في أي انقلاب عسكري أو مخالفة قانونيَّة تنفيذًا لمطالب الأوروبيين، بل إن حزب العدالة لا يملُّ من تكرار رغبته في تجاوز أعتاب النادي الأوروبي حتى يبدِّد الشكوى حول مرجعيَّة الحزب الإسلاميَّة في ظلّ تنامي النفوذ الدبلوماسي التركي شرقًا، وهي استراتيجيَّة قد تكبح جماح أي معارضة لإصلاحات العدالة والتنمية. كرّ وفَرّ ولكن حزب العدالة والتنمية -ورغم سعيه لصياغة دستور جديد- قد يفضِّل التحفُّظ وعدم الإسراع في تلبية المطالب الأوروبيَّة إلا إذا وجد أمام أي خطوة تستجيب لمعايير الأوروبيين ثمنًا يخفِّف به حدَّة مخاوف الأتراك من عدم جدوى الانضمام للاتحاد في نهاية الأمر؛ فمثلًا ملف مثل الأكراد فرغم أنهم حصلوا على العديد من الحقوق والمزايا التي تحترم هويتهم، إلا أن الأوضاع على الأرض لا تُنبِئ بأي تطوُّر، بل إن التوتُّر يحكم منطقة شرق الأناضول بين كرّ وفرّ بين القوَّات التركيَّة ومقاتلي حزب العمل الكردستاني، وهو ما يرجّح معه التحفُّظ على إجراء تعديلات دستوريَّة جذريَّة تصون الحقوق السياسيَّة للأقليَّات من أكراد وعلويين دون أن تقدِّم بروكسل وعودًا أقلها تسريع وتيرة مفاوضات الانضمام مقابل هذه الخطوة، وهو أمر غير مرحّج في ظلّ تنامي المعارضة في أوساط الأوروبيين لفتح النوافذ أمام تركيا. شراكة مميزة ولكنَّ هناك تساؤلًا أكثر جراءةً يطرح نفسه يتمثَّل في إمكانيَّة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في حالة صياغتها دستورًا جديدًا يواكب مطالب الأوروبيين، ويبدو أن الإجابة ب "لا" هي الحاضرة حاليًا؛ فالمعارضة لحصول تركيا على عضويَّة النادي الأوروبي هي الأعلى صوتًا في ظلّ موقف باريس وبرلين الرافض لهذا الأمر، والذي لم يطرحْ حتى الآن أكثر من شراكة مميَّزة مع أنقرة، فضلًا عن خروج تصريحات على لسان أكثر من مسئول بارز داخل الاتحاد تدور في فَلَك أن تركيا ليست جزءًا من أوروبا ولن تكون، خصوصًا أن القِيَم العالية المطبَّقَة في أوروبا، والتي هي قيم مسيحيَّة بالأساس ستفقد قيمتها بانضمام دولة إسلاميَّة كبيرة كتركيا. وزاد الطين بلَّة تأكيد زعيم حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرِّف هاينز كريستيان ستراشي أن أحزاب اليمين الأوروبيَّة تأمل في إجراء استفتاء في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي في شَأْن انضمام تركيا إلى الاتحاد، لافتًا إلى أن تركيا ليست في مكانها الصحيح في أوروبا، وينبغي الأخذ برأي مواطني الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد، معتبرًا أن الاتحاد يسلك "طريقًا خاطئًا بالكامل" إذا وافق على انضمام "دول غير أوروبيَّة" إليه، وهو ما يعدُّ عزفًا على وتر التشدُّد تجاه محاولات أنقرة الذهاب إلى بروكسل في النهاية، بل أن بُطْء وتيرة المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي وعدم تجاوزها أكثر من 35 ملف حتى الآن للوفاء بمعايير الاتحاد يشكِّل صعوبةً أمام الأتراك لرؤية الضوء في نهاية النفق. الاتجاه شرقًا ولكن كيف ستواجه تركيا هذا المنحى المتشدِّد تجاهها في ظلّ استمرار العاصمتين الأكثر تأثيرًا داخل الاتحاد في معارضة انضمام تركيا للاتحاد، والإجابة ببساطة تكمن في خيارات محدودة، فليس أمامها إلا الاستمرار في المراهنة على سياسة الاتجاه شرقًا، والتي صاغَها رئيس الدبلوماسيَّة التركيَّة أحمد دواد أوغلو والعمل على تصفير المشاكل في دول الجوار واكتساب أرضيَّة جديدة للدبلوماسيَّة التركيَّة، باعتبار أن ارتفاع وزن تركيا الدبلوماسي مضافًا إليه النجاحات الاقتصاديَّة قد يسيل لعاب الأطراف الفاعلة داخل الاتحاد الأوروبي لتعديل موقفها تجاه الطموحات التركيَّة، وهو أمر ليس قريبًا حتى لو استجابت تركيا لمطالب الأوروبيين وأقرَّت بشكلٍ سريع الدستور الجديد. أمل بعيد وفي النهاية تبقى كلمة تتمثَّل في أن تركيا لن تبدو في عجَلَةٍ من أمرها لتعديل الدستور، رغم تأييد حزب أردوغان للأمر، حيث ستعمل بقوَّة لإبرام صفقة مع الاتحاد الأوروبي لتمرير هذا التعديل، ولكن بدون تقاضي ثمن مُغرٍ لهذا الأمر؛ حيث لا يقبل الساسة الأتراك التوقيع على شيك على بياض للأوروبيين، بل سيدخلون في جولات من المفاوضات الشاقَّة لتقريب أنقرة ولو خطوات من الاتحاد الأوروبي، رغم أن كثيرًا من المراقبين يَرَوْن صعوبة دعم العديد من القوى الأوروبيَّة للطموحات التركيَّة، خصوصًا أن أغلب عرابى الاتحاد الأوروبي ينتمون في الأغلب الأعم للوبي المناهض لأنقرة، وهو أمرٌ غير مرشَّح للتغيير في القريب العاجل بشكل يؤكِّد أن النادي الأوروبي لا زال عصيًّا على العثمانيين الجُدُد حتى إشعار آخر. المصدر: الاسلام اليوم