البترول: قوة للآخرين.. وضعف للعرب شريف الشوباشي عندما وقعت عيني علي مقال بصحيفة »لوفيجارو« الفرنسية الصادرة يوم 5 مارس الحالي، بعنوان: »ارتفاع سعر البترول سيؤدي إلي إعادة تشكيل التوازنات العالمية لصالح القوي المعادية للغرب«، توقعت علي الفور أن اقرأ تحليلاً عن العرب وموقعهم علي الخريطة الاستراتيجية العالمية. فالبترول يكاد يكون في عيون الغرب مرادفاً للعرب، حيث إن بلدانه تشكل أهم مصدر للنفط، كما أنها تختزن أكبر احتياطي استراتيجي للبترول في جوف أرضها. لكنني فوجئت لدي وصولي للسطر الأخير من المقال الذي كتبته إيزابيل لاسير، إحدي كبار الصحفيات بالجريدة، أنه لا يحتوي علي أية إشارة للعالم العربي من قريب أو بعيد. واعتبرت في البداية أن هذا التجاهل المتعمد للعالم العربي هدفه التقليل من شأن الدور العربي، لكنني أدركت في النهاية مغزي عدم ورود أي ذكر للعرب في ثنايا التحليل الشيق الذي أفردته »لوفيجارو« عن دور النفط في عالمنا اليوم. وأعتقد أنه من المفيد قبل التعليق علي المقال أن أقوم بتلخيص أهم ما جاء فيه. *** الخيط الرئيسي الذي يربط المقال يقوم علي فكرة أنه لابد أن ينعكس الارتفاع الجنوني لأسعار البترول علي معطيات التوازن الجيوستراتيجي في العالم. فإن بعض الدول الغنية بالبترول ستشهد طفرة رهيبة في ثروتها، مما يؤهلها لأن تلعب دوراً أكثر أهمية علي الساحة الدولية. وقد ركزت إيزابيل لاسير علي ثلاثة أمثلة لدول استفادت إلي أقصي الحدود من ارتفاع سعر البترول الذي حطم كل الأرقام القياسية في الأيام الأخيرة.. وهي إيران وفنزويلا وروسيا. ويؤكد المقال أن البترول صار يمنح بعض الدول قوة أكبر كثيراً من تأثيرها الفعلي علي مجري الأحداث، وأن بعض هذه القوي لا تحترم حقوق الإنسان، لكن البترول يكسبها مناعة ضد أية تدخلات خارجية من أجل حثها علي تحسين أوضاعها في هذا المجال. وتري إيزابيل لاسير أنه لم يكن من الممكن لإيران أن تتحدي الولاياتالمتحدة، كما تفعل الآن لولا أنها القوة الرابعة في العالم في ترتيب الدول المنتجة للبترول. وقد ذهب أحمدي نجاد كما تقول إلي حد تهديد واشنطن بغلق حنفية البترول إن لم تتخذ موقفاً أكثر مرونة في موضوع الملف النووي الإيراني. أما هوجو شافيز رئيس فنزويلا، فقد اختطف الأضواء من الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو وسحب منه لقب زعيم المواجهة مع أمريكا علي المستوي العالمي وأصبح له وضع دولي كبير بفضل الذهب الأسود المتوفر في بلاده التي تعد المنتج السابع للبترول في العالم اليوم. وقد وصلت به الثقة بالنفس إلي تهديد الولاياتالمتحدة برفع سعر البرميل إلي مائتي دولار، إذا فكرت في مهاجمة حليفه الإيراني. وبفضل عائدات البترول استطاع شافيز تقديم المساندة المادية إلي الدول الراغبة في الانضمام لمعسكر معاداة أمريكا، كما قام بتوفير النفط بأسعار تقل عن الأسعار العالمية لبلدان مثل بوليفيا ودول الكاريبي. *** ويرجع المقال الشعبية الكبيرة التي حظي بها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين إلي ارتفاع سعر البترول الذي أتاح لروسيا أن تسدد ديونها الخارجية الضخمة في السنوات الماضية، مما فتح الباب لانتعاشة اقتصادية شعر بها الشعب الروسي بأكمله. كما استخدم بوتين في يناير 2006 سلاح الغاز لكبح جماح أوكرانيا التي كادت ترتمي في أحضان الغرب علي حساب علاقاتها مع جارها الأكبر، وهو الاتحاد الروسي. كما هدد دول أوروبا الغربية التي تعتمد اعتماداً كبيراً علي الغاز الروسي. والأخطر من ذلك - كما تقول »لوفيجارو« - وهو أن الدول المنتجة للبترول والغاز بدأت تنتهج سياسة جديدة للسيطرة علي مصادر ثروتها بدلاً من تركها للشركات العالمية الكبري التي تقوم بعمليات الحفر والتنقيب علي أراضيها. وهناك منذ بضع سنوات تحول جذري في العلاقات بين الطرفين لصالح الدول المنتجة بعد أن كانت الشركات العالمية تفرض إرادتها تماماً علي البلدان المنتجة. وتستخلص »لوفيجارو« من التحليل السابق أن ارتفاع أسعار البترول في الآونة الأخيرة قد أدي إلي تعديل تدريجي في علاقات القوي في العالم وتنتهي بالتحذير من التداخل بين السياسة والطاقة التي تعد في رأيها سلعة تجارية بحتة لا ينبغي أن تدخل في الحسابات السياسية. وينضح مقال الصحفية الفرنسية بالغضب من الأوضاع فجريدة لوفيجار معروفة بميولها اليمينية ولا تخفي أن سيطرة الغرب علي العالم هو في مصلحة الجميع من وجهة نظرها. وأدركت عندئذ الحكمة وراء عدم ذكر العرب في هذا التحليل، حيث تعتبر الكاتبة أنهم طرف مستأنس لا يثير المشاكل ولا يستغل ثروته البترولية الضخمة لتحقيق أغراض سياسية.. بل الأنكي من ذلك أن الجزء الأكبر من هذه الثروات مرهون باستثمارات أجنبية خارجية يفيد منها الغرب وإسرائيل وأكثرها مودع في بنوك لا يملك العرب سحب أرصدتهم التي يملكونها إلا بشروط مجحفة من جانب الغرب. *** وإذا كانت صحيفة لوفيجارو تتبني هذا الموقف الذي يبدو وكأنه يضع العرب في مصاف الدول »الطيبة« والمهادنة والعاقلة فإن لنا نحن وجهة نظر تختلف معهم انطلاقاً من مصالحنا الوطنية والقومية. والمفارقة أن هذه الدول التي تستثمر البترول كقوة سياسية تجعلها قادرة علي تنفيذ ما تصبو إليه ليست لها قضية مصيرية تدافع عنها وتسعي إلي حلها. أما نحن العرب فنعاني منذ أكثر من نصف قرن من مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي استنزف مواردنا وطاقاتنا وجعلنا نسير في ركاب دول كانت أقل منا نمواً وتقدماً في منتصف القرن العشرين. وبالتالي فنحن أحوج من غيرنا كثيراً لأي ورقة رابحة لها وزنها لنضعها في ميزان التفاوض مع إسرائيل ومن ورائها الولاياتالمتحدةالأمريكية. نحن أكثر حاجة من إيران وفنزويلا وروسيا في التلويح بالبترول كسلاح سياسي يعمل له ألف حساب، خاصة من الدول الغربية التي تعتمد علي الطاقة في حياتها اعتماداً كاملاً. لكن واقع الأمر الذي قفز بين سطور مقال »لوفيجارو« هو أن العرب استكانوا لمنطق الغرب وهو أن البترول مجرد سلعة تجارية لا يجوز استخدامها في غير موضعها وخاصة لأغراض سياسية. ولم يحدث سوي مرة واحدة في التاريخ الحديث، أن فكر العرب في استعمال ذلك الكنز الذي يملكونه لغرض آخر غير الحصول علي الثروة والمال. كان ذلك في أعقاب حرب أكتوبر المجيدة التي فاجأت العالم، وأثبتت للجميع أن مصر والعالم العربي قوة تنبض بالحياة مهما بدت في السطح ظواهر الاستسلام والاستكانة. وفي تلك الأيام المشرقة رفع العرب رؤوسهم وتحدوا جبروت الدول الغربية المساندة لإسرائيل في الحق والباطل. وظهرت آثار الحظر البترولي الذي فرض علي الدول الغربية المنحازة لإسرائيل والتي كانت تشجعها علي الاستمرار في عدوانها علي الشعب الفلسطيني وفي احتلال الأراضي العربية ومنها سيناء المصرية. وكانت هولندا آنذاك هي أكثر هذه الدول فجاجة في تأييد إسرائيل بأسلوب غير مشروط فعانت من الحظر أكثر من غيرها واضطرت إلي اظهار اللين والمرونة رغم أنفها. ولأن الغرب قد اهتز هزة سياسية ونفسية عنيفة من جراء الحظر العربي فقد اتخذ موقفاً صارماً وحازماً لكي لا يتكرر ذلك الموقف الذي يهدد كيانه. ويبدو أن الولاياتالمتحدة نجحت في اقناع الحكام العرب بعدم التفكير مستقبلاً في استخدام النفط كسلاح سياسي، لأي سبب من الأسباب، خاصة في صراعهم مع إسرائيل. ومن الواضح أن العرب قد رخضوا للإرادة الأمريكية واكتفوا بموقفهم المشهود في عام 1973 وتصوروا أنهم قد أدوا دورهم بذلك وليس مطلوباً منهم المغامرة بمصالحهم العليا المتمثلة في البترول من أجل القضية الفلسطينية أو الأراضي العربية المحتلة. وكان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كسنجر قد هدد بأن الغرب سيجعل العرب يشربون نفطهم وهو تهديد أجوف لأن الدول الغربية لا تستطيع أن تعيش في استقرار دون النفط العربي، وهو الأجود من حيث النوعية والأرخص من حيث تكاليف الاستخراج. *** وأنا لا أدعو بالتأكيد إلي استخدام سلاح البترول من أجل شن حرب موسعة علي الغرب أو حتي علي إسرائيل. ولا أحرض الدول العربية النفطية علي المغامرة بثرواتها وتعريض شعوبها لأية أخطار قد تنجم عن استخدام البترول كسلاح سياسي واستراتيجي. لكنه من الواضح أن هناك دولاً غير عربية نجحت في استثمار البترول لدعم قوتها وفرض إرادتها السياسية. والمطلوب هو أن يصب البترول العربي في صالح ميزان القوة العربية ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية أو الصراع العربي - الإسرائيلي، وإنما لتكون للعرب مكانة واحترام وصوت مسموع في عالم القرن الحادي والعشرين. ولا ينكر أحد أن معظم الدول النفطية استفادت من دخل الذهب الأسود لتشييد هياكل بنيتها الأساسية ولمشروعات مفيدة لشعوبها.. لكن هذا وحده لا يكفي. فالله قد حبانا بنعمة لها منافع متعددة ولابد أن نستغل البترول إلي أقصي درجة لرفع شأن العرب في العالم، كما يفعل الآخرون، خاصة أنه لن يدوم إلي أبد الابدين. أما أن يكون النفط بالنسبة لنا سبباً للانبطاح والاستسلام والخوف من المطامع الخارجية ومن ضغوط القوي الكبري في الوقت الذي يشكل قوة للآخرين.. فإنه بذلك يتحول إلي نقمة لا يقبلها الحكام ولا المحكومون. عن صحيفة الوفد المصرية 12/3/2008