أوطاننا غير قابلة للقسمة مهما ضاقت أحلام الرجال محمد صادق الحسيني منذ أن تأسست الدولة الإسرائيلية وزرعت في قلب الوطن العربي والإسلامي، والنقاش والجدل لا يتوقف بين النخب في بلادنا عما إذا كان ما اخذ بالقوة والغصب من أرضنا وحقوقنا ومنابع ثروتنا كأمة وكأقطار في فلسطين أولا وفي سائر ما بات يعرف بدول الطوق ثانيا، يمكن أن يسترد بالاحتجاج السياسي والعمل الإعلامي والدعائي وبالجهد والمساعي الدبلوماسية في المحافل الدولية باعتبارها آخر ما توصل إليه ما يسمى بالمجتمع الدولي الحر والتقدمي من طرق لحل النزاعات سلميا، أو أن ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة وكل ما عدا ذلك من كلام ليس سوى تفاصيل؟.
وفيما نرى العرب والمسلمين اليوم وبعد مرور العقد تلو العقد يتناقشون ويتجادلون وأحيانا يتصارعون ويتحاربون بسبب هذا الجدال، لم يترك الإسرائيليون فرصة ولا مناسبة إلا ويثبتون لخصمهم بان الصراع إنما هو صراع وجودي وانه لا حل له إلا إما أن يتنازل أحد الطرفين للطرف الآخر سلما وفي هذه الحالة أن يقدم العرب والمسلمون صكا تاريخيا بالاستسلام للمطالب الإسرائيلية - أو أن يحسم النزاع حربا مفتوحة لا هوادة فيها، وطبقا لموازين القوى للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية والتي أنتجت فيما أنتجت أقطارنا العربية المجزأة والمتنازعة فالمنتصر معروف أيضاً.
في هذه الأثناء كانت الأمة قد أفرزت معادلة على مستوى مختلف عنوانها: المقاومة هي السبيل الوحيد لردع الاحتلال! بدأت القصة فلسطينية ثم امتدت عربية فإسلامية ثم عادت فلسطينية وهاهي اليوم تكرس لبنانية فلسطينية عربية إسلامية أصبح فيها ما يسمى بتحالف الفصائل الفلسطينية من جهة وحزب الله اللبناني من جهة أخرى بما يمثلان من حالة تراكمية واستقطابية لكل ما تبقى في الضمير والوجدان العربي والإسلامي من شحن وخبرة ودروس وعبر وكأنهما رأس الحربة في معادلة الصراع الآنفة الذكر: المقاومة هي السبيل الوحيد لردع الاحتلال.
أيا يكن الرأي بخصوص المسألة اللبنانية الداخلية، أو ما يسمى بالملف اللبناني الداخلي بتضاريسه المختلفة، فانه بات من المستحيل لأي كان أن يسجل حلولا أو يقترح تسويات لهذا الملف دون الأخذ بعين الاعتبار ما تمثله هذه المعادلة في الضمير والوجدان بل وفي موازين القوى الحقيقية على ارض الصراع العربي والإسلامي ضد إسرائيل، ولا احد في العالم كله يستطيع الآن أن يعيد عقارب الساعة في لبنان إلى الوراء، تماما.
كما انه لا يستطيع احد في العالم أن يغير عقيدة أو هوية الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية، فالمقاومة باتت اليوم عقيدة وهوية وثقافة مليونية وليست حزبا أو فئة أو طائفة أو دولة أو قطرا يشرف عليه حاكم بعينه فإذا ما تفاهمت معه على تسوية ما تستطيع أن تنفذها على ارض الواقع، ويخطئ من يظن خلاف ذلك ويضيع وقته وربما مستقبله.
ولذلك فان أي كلام من النوع الذي قد يبدو «مهذبا» آو«راقيا» أو «عقلانيا» أو«واقعيا» من النوع الذي يقول: «لماذا هذا الإصرار على توريط هذا البلد أو ذاك أو هذه الحكومة أو تلك أو حتى لماذا توريط الأمة في عمل مغامر وغير محسوب.. . يجرنا إلى مصادمة العالم أو التصادم مع المجتمع الدولي...» إلى آخر الكلام الذي قد يبدو معسولا أو جذابا لدى بعض أروقة المجتمع الدولي..
إنما سيلقى الصدود والعقوق من إسرائيل والمجتمع الدولي أولا، فضلا عن كونه يأتي متأخراً جدا بنظر الملايين من العرب والمسلمين، ولا ينال قائله سوى« شبهة» التواطؤ مع العدو، ذلك أنها مرافعة لا تستوي مع معاناة أمة وصل فيها الصراع مع عدوها إلى العظم وبات شلال دمها النازف منذ ما يزيد على القرن لا يتوقف إلا بإزالة هذه الغدة السرطانية التي اسمها إسرائيل من قلبها النابض!
لا احد هنا يطالب أو يروج لما كانت تتهم به الأمة العربية يوما بأنها تريد رمي اليهود في البحر، إنما كان ولا يزال المقصود أن إسرائيل هذه القائمة على غصب أراضي وحقوق الغير وعلى الفكر العنصري الاستئصالي إنما تمثل كيانا باليا يحمل بذور زواله في داخله فضلا عن أن ممارساته الدموية والوحشية اليومية تساهم بجد في تحقيق مقولة الاستعمار والامبريالية إنما يحفران قبرهما بأيديهما!
وان المقاومة إنما تسرع في تفكيك هذا الكيان بعدما أصبح من مخلفات الماضي، وهي عازمة على صنع البديل الحضاري الذي يجمع الأديان والأعراق والثقافات والملل والنحل في إطار الاحتكام إلى الاستفتاء الشعبي وصناديق الاقتراع لكل السكان الأصليين ومن تبقى بعد تفكيك النظام العنصري البغيض.
في هذه الأثناء يلحظ أي مراقب أو مهتم من امتنا المنكوبة بالاحتلال الاستئصالي البغيض أن ثمة غيوما سوداء تعاود الظهور في السماء العربية بعد ثمة انقشاع كنا قد تفاءلنا به خيرا قبل مدة، وثمة علامات غير صحية كذلك بدأت تغزو بعض العقل العربي وبعض أروقة صناعة القرار فيه لا يمكن تلقيها بارتياح.
فماذا يعني أن يتصاعد الخلاف العربي العربي عشية التحضير لقمة دمشق العربية إلى درجة التهديد بالمقاطعة وتفشيل القمة و«طربقتها» على رؤوس أصحابها، حتى بات العدو يشمت علنا بالتشتت والتناحر العربيين، في زمن يفترض فينا أن نغتنمه نحن لتكريس واقع الانحدار والانكسار الإسرائيليين الفاضحين؟!
أو ماذا يعني إدارة الظهر لأهلنا في غزة وتركهم محاصرين بكل أنواع الجوع والعطش والمذابح اليومية والموت البطيء والترويج لمقولات «الوساطة» بين إسرائيل وحماس والضغط عليهم للتخلي عن دفاعاتهم الشرعية، بدل دعمها وتعزيزها من خلال التوسط بين فتح وحماس وإعادة إحياء الوفاق الفلسطيني الذي هو أحوج ما يكون إليه أهلنا في غزة ورام الله من أي شيء آخر؟!
أو ماذا يعني التحول المفاجئ إلى فكرة إنقاذ الاقتصاد الأميركي المنهار بعد أن لاحت في الأفق صحوة استبشرنا بها خيرا وهي عودة بعض الرساميل العربية إلى موطنها وأهلها؟!
أو ماذا يعني الانقلاب غير المبرر في الخطاب الرسمي العربي والإسلامي على فريضة التضامن العربي والإسلامي مع المقاومة والصمود اللبناني والفلسطيني الأسطوريين في زمن الوهن الإسرائيلي والإذعان العلني لحقيقة هزيمتهم وإخفاقهم في حربهم على لبنان كما ظهر ولا يزال من قبل إجماع النخب والقيادات الإسرائيلية؟!
أو ماذا يعني الدوران المفاجئ نحو الخلف إلى حد «التواقح» على العقل العربي وذاكرته وتاريخه بإعلان استعداد البعض الاحتماء بالمظلة النووية الإسرائيلية بحجة التهديد النووي الإيراني المزعوم؟!
أو ماذا يعني إعادة إحياء مقولة «الخطر» الشيعي الموهوم على مصر والعالم العربي لمجرد موافقة مفتي مصر على قبول شيعة عرب للدراسة في الأزهر الشريف، وإن كان الطلب المقدم هو أصلا من طرف جماعة ما يسمون بشيعة 14 شباط اللبنانية المعروفة أصلا بعدائها لسورية وإيران وغزلها مع أميركا؟!
فليس صحيحا أننا نخسر بالتمسك بالمبادئ ومنها جهاد العدو الغاصب وإظهار الصلابة والعزم الراسخ في المواجهة الميدانية أو التفاوضية معه ولا نربح إلا من خلال إبداء بعض التراخي معه بحجة العقلانية أو الواقعية أو محاسبة موازين القوى المختلة لغير صالحنا، فالعكس تماما هو المطلوب مع العدو.
كما أن العكس تماما هو المطلوب في التعامل مع الداخل وأهل الدار من البيت الوطني العربي والإسلامي الواحد، أي الرفق واللين وحسن النية وتحمل الرأي الآخر وعدم التشكيك به فقط لأنه رأي آخر! وحظر التعامل معه بالقمع أو التحقير أو الازدراء أو الاستهزاء فضلا عن الاستئصال أو سحب المواطنية!
حتى وصل بالبعض ممن حسب يوما على النخبة اليسارية التي رفعت في يوم من الأيام صور كل زعماء الكفاح ضد الظلم العالمي من لينين إلى ماوتسي تونغ إلى أبو عمار إلى الإمام الخميني وحاربت الانعزاليين والعنصريين في لبنان وشعارهم المنحرف «قوة لبنان في ضعفه» إلى الارتداد من جديد والمجاهرة بالقول نعم: «إن قوة لبنان في ضعفه»! فقط وفقط لأنه لم يعد يتحمل شريكه في الوطن ولا يطيق انتصاراته، إلى درجة انه بات يريد الطلاق منه بسبب وعود واهية وفارغة!
وهل ظن كل هؤلاء أن «العصمة» في الأخوة أو المواطنة أو الشراكة في الوطن أو التضامن العربي أو الإسلامي هو بيدهم حتى يستطيعوا «تقسيم» الأرزاق والبيوت والأوطان كما يحلو لهم ومتى يشاؤون؟!
معاذ الله أن يكون ذلك كذلك!
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أحلام الرجال تضيق عن صحيفة البيان الاماراتية 2/3/2008