الأصوات العالية في بيروت بدر عبدالملك بعد ربع قرن من مطاردة عماد مغنية من قبل أجهزة أمنية متعددة حيث كان ثمن رأسه باهظا، وكلما كبر موقعه ومكانته في الحزب وازداد دوره الأمني والعسكري كقيادة تاريخية لحزب الله صارت المكافأة أكبر وصارت الأجهزة المضادة أكثر متابعة وتكثيفا من أجل اقتناصه، إذ مع حرب يوليو 2006.
يبدو أن تلك الأجهزة الأمنية تيقنت من دوره في المعارك العسكرية وتكتيكاتها، ومن فاعليته الأمنية في متابعة العدو الإسرائيلي في الضفة الأخرى من الشريط الحدودي. ويبدو أن سيناريو المتابعة وخطط الاقتناص تكثفت بعد تلك الحرب وهزيمة إسرائيل فيها.
ففي الوقت الذي كانت تصريحات إسرائيل متمركزة في سعيها لاقتناص الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وهذا ما صرحت به إسرائيل دائما، فإن الأهمية القصوى باتت تصب في عدة رؤوس مهمة في الحزب وبالتأكيد تنظر الأجهزة السياسية والأمنية في إسرائيل إلى أولوية وأهمية العقول الأمنية والعسكرية أكثر من الكوادر السياسية، باعتبار أن من يقاتلهم ويفشل خططهم مباشرة هو تلك الأجهزة المضادة.
تلك بديهية سياسية وعسكرية وأمنية ولكن السؤال الأهم اليوم، والذي لم تفصح عنه أية جهة كانت، سواء الجهة التي نفذت العملية بإتقان عال وبحرفية متناهية، حيث اعتمدت الرصد والمراقبة الشديدة مع قدرة عالية في تجميع المعلومات عن هدفها المنشود، وفي نفس الوقت لم تعلن لا الجهة التي تمت على أرضها وفي داخل حدودها العملية المشينة، ولا حزب الله أيضا لم ينبس ببنت شفة عن مسار تحرك عماد مغنية من لبنان إلى سوريا والعكس كذلك.
إذ كانت تحركات مغنية من المسائل العليا في سريتها كونه شخصية قيادية مهمة وكونه كان مطلوبا من عدة جهات، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة الأميركية والدولة العبرية، إذ لدى كل طرف منهما مع مغنية ثارات كبرى قديمة وحديثة ومستمرة. فمن يا ترى اصطاد ذلك الهدف الثمين والكادر المهم في حزب الله وفي بلد محكم في قدراته الأمنية والعسكرية؟
من الصعب بناء سيناريوهات وهمية تقوم على المخيلة وحدها كما هي السيناريوهات السينمائية والتي يصوغها كاتب سيناريو محترف في الأفلام البوليسية، ترى لماذا كان مغنية في هذا الوقت في دمشق؟ سؤال يعقبه أسئلة متتالية من ضمنها، هل كان مغنية يتردد دائما على دمشق لغايات كثيرة تتعلق بصلب مهماته وباعتبار أن دمشق حليف استراتيجي مع حزب الله؟
كيف عبر عماد مغنية رجل الأمن السري وخبير الشؤون العسكرية في الحزب حدود لبنان وسوريا لكي يصل دمشق وتصطاده الحلقة السرية المحكمة المعنية بملاحقة وترقب مغنية؟ وبما أن حركة مغنية شديدة الحذر وتمتاز بالكتمان الشديد فليس بالضرورة انه يتحرك بين تلك الحدود ليلا أو نهارا وبصورة اعتيادية روتينية، وهذه الحقيقة يعرفها جانبان على وجه الخصوص، من يقومون بحمايته ومن يقومون بملاحقته، فكلا الجانبين يلعبان لعبة القط والفأر.
وأخيرا كان مغنية في لحظة تاريخية ما عرضة للسقوط في خطأ فادح وينتظر من كانوا يلاحقونه، فلكل بداية نهاية محتومة في عالم الأجهزة الأمنية القادرة بتقنياتها المتطورة اختراق حماية الطرف الآخر.
لن نتوقع أن تتكشف عناصر اغتيال مغنية في هذه الفترة الوجيزة، إذ يحاول كل طرف معرفة خطوط ومتاريس خصمه، فمن جانب دمشق وحزب الله ستتم عملية فحص الأسباب التي أدت إلى وقوع عماد مغنية في الفخ وتتبع الخيوط، إذ بتركها تصبح كل الشخصيات المهمة في الحزب عرضة للاقتناص السهل، ومن جانب من أنجزوا العملية المتقنة ضرورة إخفاء كل عوامل ممكنة لتتبع مكوناتها السرية كحلقة محترفة في عالم الاغتيال .
ما وجدناه في القنوات الفضائية والتصريحات والخطب النارية في ضواحي بيروت وساحة الشهداء لم يكن يتعدى التهم المتبادلة وإلقاء الأمور على عواهنها والتشكيك في كل ما يمكنه أن يهدم العلاقات المتينة في البيت اللبناني، فمن مفارقات الوقت أن تأتي عملية اغتيال مغنية قبل يوم من ذكرى اغتيال الحريري قبل ثلاث سنوات، بل واستمعنا إلى خطب نارية وأصوات انفعالية متعالية تهدد بحرق الأخضر واليابس، مع أننا نتذكر أغنية فيروزية تترنم عن لبنان الأخضر وبدون اليابس.
فلماذا تتحول الساحة اللبنانية إلى ساحة معركة ضارية تخفي تحت جذوتها نيرانا قادمة ومرعبة؟، فيما لو فرط عقد العقل والحكمة إذ تلوح إسرائيل بحرب قادمة انتقامية واستعادة هيبتها، ولكي تضعف الجبهة الداخلية ووحدتها ينبغي دفع الأصوات العالية إلى التناحر والتناطح بخطاب القوة، في وقت لا يجوز فيه للبنان أن يخوض حربا أهلية جديدة تكون الأصوات العالية وقودها الفاعل بدلا من الاحتكام للتعايش والتقاسم والتأكيد على ضرورة السلم الأهلي والوحدة الوطنية.
غير أننا سمعنا الاتهامات والخطب النارية والشتائم في يوم الاحتفال، سواء بذكرى استشهاد رفيق الحريري أو بمناسبة تأبين وتشييع جثمان عماد مغنية إلى مثواه الأخير.
لقد كانت الساحات اللبنانية توحد شعبها في تلك الاغتيالات والموت المتربص بلبنان ورموزه وشخصياته، بينما كانت الخطابات متعالية ونارية ملتهبة تخفي تحت عباءتها أخطارا كبرى لا يحتملها لبنان مرة ثانية. والأكثر مخيفا هو ما جاء على لسان الأمين العام لحزب الله، حيث قرر كرد فعل على اغتيال عماد مغنية في أرض خارج حدود المعركة والصراع أن إسرائيل أعلنت حربا مفتوحة، وبذلك يكون حزب الله مستعدا للحرب المفتوحة.
وكما نقول الله يستر بعد اغتيال مغنية، إذ سنرى سلسلة من عمليات خارج لبنان وداخلها، فقد بلغ السيل الزبى بين الطرفين، وفي هذه المرة بالفعل سيتم إحراق الأخضر واليابس، ولكن ليس بين اللبنانيين وحسب، بل ولكل من لديهم حسابات مع سوريا وحزب الله وإيران وينبغي تصفيتها عاجلا إن لم تتم معجزة سياسية تسعى لخفض سقف الأصوات المتعالية والمتشنجة التي بلغت حد الكراهية وفقدان الثقة بين الأخوة اللبنانيين على ضفتي الساحات المتوترة للغاية. عن صحيفة البيان الاماراتية 19/2/2008