معركة الحجاب في تركيا حسين العودات ارتكب (العلمانيون) الأتراك خطئاً جسيماً في معارضتهم السماح للطالبات الجامعيات بارتداء الحجاب، مما يدل على أنهم لا يفهمون بدقة معنى العلمانية ويتخذون موقفاً سياسياً أعمى، حيث جعلوا من قضية الحجاب قضية أساسية لها علاقة ببنية المجتمع وتطوره وهويته، ولاشك أن الأمر غير ذلك كلياً.
من جهة ثانية أعطى بعض فقهاء المسلمين للحجاب معنيً أكبر وأشمل من وظيفته الأصلية وكادوا يضعونه على رأس الأولويات الدينية وكأنه واحد من أركان الإسلام الخمسة. ولاشك أن الطرفين يحاولان استغلال هذا الموضوع لخوض معاركهم السياسية والثقافية وأحياناً الشخصية، ويضخمون أسباب الصراع حتى كاد أن يكون مفتعلاً.
من البديهي أن جوهر العلمانية هو فصل الدين عن شؤون الدولة وليس عن شؤون المجتمع، وها هي الكنيسة تأخذ دورها الديني كاملاً في البلدان الغربية العلمانية دون أية مقاومة أو رفض من قبل العلمانيين، في إطار من العلاقات الثنائية المستقرة والتي لم تنقص من حقوق أي من الطرفين شيئاً.
عندما نحّى الفرنسيون و(الأوروبيون الآخرون) دور الكنيسة عن التدخل في شؤون الدولة فإنما كانوا يهدفون لإلغاء سلطتها الدنيوية على حياتهم واستغلالها لهم سواء من حيث تقاضيها عشر الأموال أم اتساع ملكيتها حتى أصبحت أكبر مالك في المجتمع أو تدخلها في قوانينهم .
وشكل نظامهم السياسي وتأثيرها الفعال في توجه المجتمع وتطوره وفي حياته العامة والخاصة وقد كان الإكليروس هو الحاكم الحقيقي للبلاد، يصادق على قوانينها وينصّب ملوكها ويبارك رؤساءها مما أدى إلى ما يشبه الثورة الشعبية على هذا الحال، وأبعدت الكنيسة كلياً عن التدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية العامة .
ولكنها لم تُبعد عن المجتمع والناس وبقيت علاقاتهم الإيمانية والدينية مع الكنيسة قائمة، ولم يتدخل أحد في شؤون إيمانهم من عدمه. وبالمقابل تبنت الأنظمة السياسية العلمانية في أوروبا حقوق الإنسان والمواطن وعلى رأسها احترام الحريات وممارسة العقائد والمساواة والديمقراطية وغيرها، واعتبرتها من أولويات مهماتها، وطبقتها بدقة خلال المئة عام الماضية.
عندما تولى كمال أتاتورك السلطة في تركيا رأى أن تقدم الدولة التي أصبحت الجمهورية التركية فيما بعد يتم عن طريق القطع مع ماضي الإمبراطورية العثمانية وتخليها عن ممتلكاتها التي كانت قد خسرتها على أية حال، ولكنه وقع في الخطأ الكبير المتمثل في جانبين أولهما أنه أخذ من العلمانية الأوروبية طقوسها وليس جوهرها فغير الطربوش إلى (برنيطة) .
وفرض لباساً جديداً على النساء وألغى الحرف العربي ووضع بدلاً عنه الحرف اللاتيني مما أدى بالأتراك لنسيان تاريخهم الثري، وشجع النساء على التحلل وليس على التحرر وما أشبه ذلك من الطقوس الاجتماعية ذات العلاقة بالحياة اليومية وبعادات الناس، ورغب في فرض التقاليد الأوروبية على المجتمع.
وثانيهما أنه لم يأخذ جوهر العلمانية الذي طبقته الأنظمة السياسية الأوروبية على التوازي من تبنيها العلمانية وأعني تطبيق حقوق الإنسان والمواطن أي نواميس الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام العقائد والرأي الآخر واعتبار الثقافة الدينية هي عمق الثقافة الشعبية وإن كانت هذه الثقافة بحاجة لنقد وتنقية من الشوائب.
إلا أنه لا يجوز إقصاؤها لأنها ثقافة الأمة ونسيج استمرارها، وقد اكتفى أتاتورك بفرض الطقوس والتقاليد الأوروبية واستبدل الأنظمة الديمقراطية بنظام ديكتاتوري عسكري وهذا أبعد الأمور عن العلمانية مما أوقع الأتراك تحت سلطة حكم العسكر طوال ثلاثين عاماً.
إن عجز بعض الفقهاء أو المتفقهين عن تحديد الأساسي والثانوي وتصحيح سلم الأولويات المعمول به حالياً وإعادة صياغة خطاب إسلامي متطور ومتوائم مع روح الإسلام جعلهم يرفعون من مرتبة الحجاب في العبادات الإسلامية واللباس الإسلامي ويعطونه الأولوية الأولى وكأن الإسلام جاء من أجل فرض الحجاب!
؟. وكما وقع أتاتورك في الخطأ وقع فقهاؤنا أيضاً بدورهم في الخطأ وأساءوا جميعهم للأهداف التي يرغبون في تحقيقها وها نحن المسلمين نجد أنفسنا أمام مشكلة تكاد تجعلنا ننسى قضايانا الأساسية ونغرق في قضايا من الدرجة الثانية. خاصة وأن قضية الحجاب هي قضية إشكالية منذ عهد الوليد الثاني و(بيوت الحريم) حتى عصرنا الحاضر.
يسيء العلمانيون للعلمانية عندما يعملون لنزع الحجاب ومنع طالبات الجامعات من ارتدائه لأن هذا التصرف يعادي العلمانية كلياً التي كان ألف باؤها ومازال احترام حريات الناس وعقائدهم وممارسة متطلبات أديانهم كما تفرض العلمانية وبالتالي فهم يعملون بهذا الموقف ضد العلمانية التي يزعمون أنهم يدافعون عنها.
ومن طرف آخر يعتبر أنصار الحجاب كأنهم حققوا انتصاراً كاملاً للإسلام بقرار البرلمان التركي السماح به، ولاشك أن الأمر ليس كذلك وأن انتصار الإسلام يتم بالعودة إلى روح الدين وأهدافه وصحيحة وتطوير خطابه وتنقية تعاليمه المعمول بها من الشوائب، وتمكينه من استيعاب معطيات العصر الحالي وتعقيداته.
إنها معركة مفتعلة ومبالغ فيها لكلا الطرفين بشكلها الحالي وحدتها القائمة ومبرراتها المضخمة حيث يتوهم كل منهما أنها معركته الأولى والأخيرة، فلا منع الحجاب هو في الواقع نصر للعلمانية ولا هو من مفاهيمها، وفي الوقت نفسه فإن فرضه ليس نصراً ساحقاً للإسلام والمسلمين، ويبدو أنها معركة سياسية أو ما يشبهها وجد كل طرف فيها خيمة يستظل بظلالها.
إن العلمانية ليست طقوساً ولا محرمات وهي أكثر شمولاً وتعقيداً من قضية الحجاب نتمنى أن لا يجدها العسكر التركي مناسبة للانقضاض على الديمقراطية التركية التي مازالت ناشئة والتي يحمل رايتها حزب العدالة والتنمية. عن صحيفة البيان الاماراتية 16/2/2008