الانتخابات الأمريكية.. جماعات مصالح وكتل تصويتية سمير مرقس في كل مرة يبدأ فيها سباق الانتخابات الأمريكية, يثير العقل السياسي العربي نفس الأسئلة تقريبا.. من نوعية أيهما أفضل للحكم.. الحزب الديمقراطي أم الجمهوري وأيهما الأوفر حظا. ومن منهما سيمثل دعما بدرجة أو أخري لمصالح المنطقة.. بيد أن المتابعة المتأنية تشير الي أنه لم تعد هناك فروق جذرية بين موقفي الحزبين الكبيرين في أمريكا إلا في التفاصيل. وأن الحزب بالمعني الكلاسيكي لم يعد له قيمة بالقياس لدوري جماعات المصالح والكتل التصويتية النوعية.. كيف؟. لقد أوضحت الانتخابات الأمريكية التي جرت في العام2000 تجاوز الحياة السياسية الأمريكية التنافس الحزبي بمعناه المتعارف عليه كما هو الحال في أوروبا, واستعادت تقليدا أمريكيا كان موجودا حتي الحرب العالمية الأولي يدعم محورية الرئاسة الأمريكية في التعبير عن أمريكا: جماعات المصالح.. فالرئيس المنتخب لا يعتبر مرشحا لحزب أو مدافعا عن رؤيته القومية وإنما لمصالح الكيانات الاقتصادية العملاقة التي تنتظم سياسيا فيما يعرف بجماعات المصالح. وما الحزبان الكبيران في النهاية سوي قناتين لتوصيل المرشح بغض النظر عن انتمائه الحزبي إلي تولي رئاسة أمريكا. والمتابع للتفاعلات السياسية الأمريكية علي مدي السنوات الأخيرة يمكنه أن يلحظ مثلا كيف أن الأغلبية التي حظي بها الحزب الديمقراطي في الكونجرس لم تغير من توجهات الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بسياساتها الخارجية وإن هذه الغالبية وافقت علي كل ما طلب من ميزانيات خاصة بأمن أمريكا.. الخ. والمتابع أيضا لحملات المرشحين الحاليين للرئاسة من الحزبين لا يمكنه ملاحظة أية خلافات واضحة بينهم.. فدعم تأسيس الدولة اليهودية مطلب ديمقراطي وجمهوري..( المناداة بتخفيض الضرائب من دون تقليص الميزانيات المخصصة من أجل أمن أمريكا/ كذلك الحرص علي السيطرة علي مصادر الطاقة ولكن في إطار استراتيجية شاملة/ لا تراجع عن الحرب علي الإرهاب ولكن ينبغي عدم الإفراط في الإعلان عنها).. وعليه لم تعد العلاقة بين المواطن والحزب في أمريكا تعرف نفس العلاقة التي تعرفها أوروبا. فكل حزب أوروبي نجده يعبر عن تجمع لفئات اجتماعية واقتصادية محددة حيث يعتمد في وصوله إلي الحكم علي أصوات من ينتمون إليه والمتعاطفين معه, بينما الحزب الأمريكي نجده يضم فئات وشرائح اجتماعية متنوعة ونجاح المرشح لا يعتمد بالأساس علي أعضاء الحزب.. فمركز الثقل واقعيا لتأييد هذا الحزب أو ذاك في أمريكا ليس الأعضاء المنتمين إليه, وإنما الفئات والكتل التصويتية التي يلتمس المرشح أصواتها مع وعود بتحقيق مصالحها. ومن ثم نجد جماعة الناخبين في الواقع ليست حزبية وإنما تتشكل من جماعات مصالح وكتل نوعية, حيث تسعي هذه الجماعات إلي التأثير علي السياسيين والسياسات.. وهو ما يجعل مرشح الرئاسة يهتم بهذه الجماعات وبالكتل التصويتية المتنوعة.. ويساعد النظام الانتخابي الأمريكي علي ذلك.. فمنذ اغتيال كيندي( من ولاية ماساتشوستس) الديمقراطي1963, لم ينجح أي مرشح ديمقراطي في الحصول علي مقعد الرئاسة من الشمال.. فكل من كارتر وكلينتون من ولايات الجنوب الذي يتميز بغلبة الاتجاهات الاجتماعية والدينية المحافظة( تضم كتلة تصويتية تصل إلي40 مليون صوت). في هذا السياق بدأت تتبلور الكتل التصويتية النوعية: الدينية, واللونية, والعرقية, أو الجغرافية أي جنوبية وشمالية, وربط هذه الكتل بشبكة المصالح التي يضع مصالحها العليا المجمع العسكري الصناعي التكنولوجي المالي التي تعبر عنها جماعات المصالح المختلفة( صناعة السلاح, الدواء, النفط.. الخ). مما سبق, يمكن القول إن الحزب الجمهوري عمليا لم يكن يحكم علي مدي السنوات الثماني الماضية(2000 2008) بالرغم من أن النتائج الرسمية تقول ذلك, وإنما الذي حكم هو تحالف بين المحافظين الجدد واليمين الديني الجديد, وهو التحالف الذي عكس تحولات جذرية في الخريطة الفكرية والسياسية الأمريكية, حيث عبر المحافظون الجدد كجماعة مصالح عن الأقلية الثروية الأمريكية, وعبر اليمين الديني الجديد عن نفسه ككتلة تصويتية دينية الطابع. لقد استطاع المحافظون الجدد أن يحلوا تاريخيا محل التيار الليبرالي التقليدي ليعبروا عن مصالح الأقلية الثروية والطغمة الاستثمارية التريليونية. كما نجحوا من خلال خطابهم الفكري في الترويج للتمسك بالقيم المحافظة أن يستقطبوا الكتلة الدينية التصويتية لتصبح قاعدتها الاجتماعية علي الرغم من أنها تضم فئات اجتماعية متنوعة من الفقراء والشرائح الوسطي والأغنياء بيد أن ما يجمعهم هو الرابطة الدينية, ولا يهم ان تمرر الإدارة الجديدة تشريعات تتضمن إعفاءات ضرائبية لصالح الأغنياء وتزيد الفجوة بينهم وبين الفقراء وقبول ما يترتب علي ذلك من قيم روحية وأخلاقية تتناقض مع العدل والفرص المتساوية, ومع ذلك لا يعترض الفقراء لأن هذه التشريعات والإمتيازات التي يحظي بها الأغنياء تتم تحت غطاء ديني. أدي ما سبق إلي أن يسعي كل حزب من خلال مرشحيه إلي مغازلة الكتل التصويتية, بغض النظر عن الانتماء الحزبي, وتشير دراسة مهمة أصدرتها مؤسسة بروكينجز(2007) بعنوان السياسات الأمريكية والإنقسام الديني إلي محددات التصويت في أمريكا, صحيح إنها تركز علي دور الدين والكتلة التصويتية الدينية بالأساس, إلي أن الدراسة تشرح في البداية المحددات الأساسية للتصويت وكيف يتقاطع الدين والعرق والولاية في العملية الانتخابية علي حساب الاختيار السياسي. كما تكشف دراسات حديثة عن التحييد والحصار اللذين يتما لإمكانية تبلور اتجاهات سياسية وفكرية تتجاوز الأنتماء النوعي. وبات الأمر في المحصلة هو أن الأقلية الثروية لا تحتاج من أجل مصالحها إلا لكتل تصويتية ملتزمة تؤمن النجاح للمرشحين مثل الكتلة الدينية التصويتية التي يمكنها أن تؤمن ما يقرب من25% من إجمالي المصوتين وحدة واحدة غير مفتتة, أخذا في الاعتبار أن المشاركين في العملية الانتخابية لا يزيدون علي50% في الانتخابات القاعدية التي تتم وأن انتخابات المجمع الانتخابي يمكن التحكم فيها مثلما حدث في حالة انتخاب الرئيس بوش(2000) حينما خسر الانتخابات القاعدية الشعبية( حصل علي أقل من 48%), ونجح في الحصول علي271 صوتا من أصوات المجمع الانتخابي من إجمالي538. صفوة القول ينبغي فهم الظاهرة الأمريكية من الداخل واكتشاف كيفية التعامل ليس مع الأحزاب ولكن مع جماعات المصالح والكتل التصويتية ومن ثم رؤاها وخططها إذا أردنا التأثير, ودعم المحيدين من العملية السياسية. خاصة أن هذا النمط من الديمقراطية يبدو أنه من المطلوب أن يسود في مناطق كثيرة: عملية ديمقراطية تتم بين أقلية ثروية وكتل تصويتية عددها قليل ولكنها منظمة وملتزمة, وأغلبية سياسية غائبة.. وهو ما انتبهت له ديمقراطيات عريقة( الألمانية واليابانية). عن صحيفة الاهرام المصرية 9/2/2008