لقد دأبت كثير من الدراسات والكتابات الغربية علي تصوير ما يحدث في الصومال منذ انهيار الدولة المركزية فيها عام1991 بأنه نموذج مثالي للدولة الفاشلة في النظام الدولي. إذ يشهد الصومال في معظم أقاليمه حالة من العداء والصراع العنيف بين مختلف الفصائل والقوي المتحاربة, كما أنه أضحي بمثابة مأوي للجماعات والقوي غير الحكومية وغير الشرعية مثل أمراء الحرب والتنظيمات الثورية العنيفة( حركة شباب المجاهدين).
دفع ذلك إلي تبني تصورات محددة للتعامل مع المعضلة الصومالية حيث سيطرت الاعتبارات الأمنية ولا سيما ما يتعلق بأمن دول الجوار الجغرافي ومصالح القوي والأطراف الفاعلة في النظام الدولي. وقد أفضت مشكلة القرصنة وتناميها قبالة السواحل الصومالية في خليج عدن والمحيط الهندي إلي التأكيد علي هذه الافتراضات المسبقة عند التعامل مع الملف الصومالي.
والملفت للنظر حقا أن أدبيات الفكر الاستراتيجي العربي قد وقعت بدورها في شرك هذا المنظور الأمني. وبات الحديث اليوم يتركز علي خطورة سيطرة حركة الشباب المجاهدين علي العاصمة مقديشو وما يمثله ذلك من تهديد لأمن واستقرار القرن الأفريقي سواء بمفهومه الضيق أو الواسع.
علي أن القراءة الواعية للمشهد الصومالي تظهر بجلاء أن ما يحدث في الأقاليم الجنوبية والوسطي لجمهورية الصومال لا يتكرر في الإقليم الشمالي الذي بات يعرف منذ بداية التسعينيات باسم جمهورية أرض الصومال. إننا في واقع الأمر أمام تجربتين مختلفتين في بناء الدولة داخل حدود صومال ما بعد الاستقلال.
التجربة الأولي تعكسها خبرة المحمية البريطانية السابقة; أرض الصومال والتي أعلنت استقلالها من جانب واحد في18 مايو1991 وأضحت منذ ذلك الوقت تنعم بالاستقرار والأمن, بل وتطرح إمكانيات واعدة في الحكم الديمقراطي. أما التجربة الثانية فتطرحها خبرة الحرب الأهلية الممتدة في جنوب الصومال وهي التي دفعت إلي القول بوجود ما يسمي' المرض الصومالي'.
ومن المعلوم أن المنطقة الشمالية الغربية للصومال والتي تعادل مساحة انجلترا وويلز قد خضعت للاحتلال البريطاني خلال الفترة من1887 وحتي عام1960 حينما دخلت في رابطة اتحادية مع الأقاليم التي كانت خاضعة للاستعمار الإيطالي في الجنوب والشرق. وبعد انهيار نظام سيادة بري ودخول البلاد دوامة الحرب الأهلية اختارت أرض الصومال قطع الروابط مع الدولة الاتحادية وأعلنت الاستقلال من طرف واحد. وهو الإجراء الذي لم يعترف به أحد لغاية الآن في المجتمع الدولي.
ولا يخفي أن ثروات وموارد أرض الصومال غير المستغلة تشمل النفط والغاز والفحم, بالإضافة إلي امتلاكها أكبر احتياطي في العالم من الجبس. كما يمتلك الإقليم شواطئ بحرية بطول850 كم وهي غنية بمواردها البحرية. ويمثل ميناء بربرة المنفذ البحري لأرض الصومال ولأثيوبيا التي قامت بعقد اتفاق طويل المدي مع سلطات الإقليم الصومالي بهدف استغلال هذا الميناء. ويعد مدرج مطار بربرة واحدا من أطول المطارات الأفريقية علي الإطلاق. وقد تم بناؤه عام1974 علي أيدي السوفيت زمن الحرب الباردة.
وإذا كانت مؤتمرات المصالحة الوطنية الصومالية قد تم تمويلها من قبل أطراف خارجية, بل وعقدت جلساتها في أغلب الأحوال خارج الأراضي الصومالية, وهو ما جعلها تبوء بالفشل فإن أرض الصومال اتخذت موقفا ثابتا منذ البداية وهو عدم المشاركة في هذه المؤتمرات وعوضا عن ذلك أطلقت مؤتمرات للحوار والمصالحة الداخلية كان أبرزها مؤتمر( بوراما) في النصف الأول من عام1993 والذي أفضي إلي تشكيل حكومة مدنية في أرض الصومال. ويمكن النظر إلي هذه التجربة في الحوار الوطني الصومالي باعتبارها تمثل إستراتيجية واقعية للخروج من المأزق الصومالي العام.
لقد بنت أرض الصومال تجربتها في المصالحة الوطنية وإعادة الأعمار علي احترام التقاليد و المواريث الاجتماعية الصومالية وهو ما أد إلي تهميش الأحداث والمصالح الخاصة والخارجية علي السواء. وطبقا للنظام العرفي السائد يمثل كبار السن مكانة أساسية في التراتب الاجتماعي السائد.
وعادة ما تكون لهم مجالسهم التي تجتمع عند الضرورة. كما أن جماعة الدية أو( الماج) بالصومالية تمثل ضمانة لتنفيذ الأحكام في حالة ما أدين أحد أعضائها في نزاع ما. وعادة ما يتم تمثيل جماعات الدية في المجتمع الصومالي بأحد الشيوخ الذي يطلق عليه اسم' عاقل' وهو يقوم بدور مؤثر وفاعل في عمليات التفاوض وفض النزاعات.
وتتألف أرض الصومال من عشيرتين كبيرتين: الأولي والأكثر عددا هي الإسحاق التي تتركز في وسط الإقليم وتمتد إلي الأراضي الأثيوبية المجاورة, والثانية هي الدارود التي تنتشر شرق أرض الصومال وما حولها. كما توجد بعض الجماعات والعشائر الصغيرة الأخري مثل العيسي في غرب الإقليم. ويستطيع الصومالي أن يعود بنسبه إلي مئات السنين وهو ما يجعل رابطة الدم تلعب دورا مهيمنا في المجتمع الصومالي. وعلي أية حال فإن تجربة أرض الصومال في المصالحة وإعادة البناء ارتكزت علي جملة من المعايير والمبادئ المهمة لعل من أبرزها:
أولا: القبول بمبدأ التفاوض لتسوية المنازعات المحلية الراهنة أو المحتملة. وقد مثل ذلك الأساس الذي انعقدت بموجبه مؤتمرات المصالحة في أرض الصومال. ولعل ذلك المبدأ يرتكز علي الموروث الثقافي الصومالي الذي يعطي دوما الحوار والنقاش فرصة لفض النزاع. ولا يتأتي ذلك إلا من خلال إعمال حسن النية بين أطراف هذا النزاع.
ثانيا: التوكيد علي الدور والمسئولية الاجتماعية والأمنية للعشيرة. فقد نظر إلي العشيرة باعتبارها مسئولة عن سلوك وتصرفات أفرادها. وقد استند ذلك المبدأ علي تقاليد جماعات الدية باعتبارها الضامن الرئيسي لتصرفات الأفراد. بيد أن حالة أرض الصومال بعد حرب عام1991 ووجود العديد من جماعات الشباب العاطلين عن العمل والمسلحين قد أضفت تعقيدات كثيرة علي الحالة الأمنية في الإقليم ولاسيما في قضايا نزع سلاح الميليشيات وفرض الطابع المؤسسي علي مرفق الأمن العام.
ثالثا: أهمية دور الوساطة الفردية والجماعية في المواقف الصراعية. إذ عادة ما يكون الوسيط متطوعا وليس طرفا في النزاع ولكن تظل له مصلحة قي إنهائه. وقد اتضح ذلك بجلاء في حالة الصراع حول ميناء بربره وتدخل الوساطة المحلية لتسويته وإدارته بنجاح.
رابعا: الاعتماد علي التمويل الوطني الصومالي في عملية تنظيم و إدارة مؤتمرات المصالحة الوطنية. فقد استطاعت إدارة إقليم أرض الصومال الاعتماد علي جمع التبرعات من داخل الإقليم ومن المواطنين الذين يعيشون في الشتات خارجه. وهذا السلوك قد جنب التجربة الخاصة بالمصالحة وبناء السلام في الإقليم مثالب التمويل الأجنبي كما هو الحال في مؤتمرات المصالحة الصومالية العامة. لا يخفي أن تجربة أرض الصومال تعد وفقا للمعايير العربية والإفريقية واحدة من قصص النجاح التي يمكن التعويل عليها. ومع ذلك فإن المجتمع الدولي لا يزال مصرا علي توجيه ناظريه صوب مناطق الفشل وبؤر الصراع والتوتر في إفريقيا في نفس الوقت الذي يغمض فيه الطرف عن الانجازات الحقيقية كتلك التي ترتبط بخبرة أرض الصومال. فلماذا نصر علي الاستمرار في تأييد' الوصفات العلاجية' التي ثبت في غير مرة فشلها في علاج' المرض' الصومالي؟ وهل يمكن أن تمثل تجربة شمال الصومال مخرجا ملائما لأزمة باقي الأقاليم الصومالية.