مع عودة "جمهورية الصومال" الي واجهة الأحداث بعد انتصارات المحاكم الإسلامية علي أمراء الحرب، تعود أيضاً الي دائرة الضوء "جمهورية أرض الصومال". في الحالة الأولي نحن أمام جمهورية معترف بها دولياً، ولكنها لاتزال غارقة في حروبها الأهلية والقبلية منذ العام 1991 في أعقاب سقوط نظام محمد سياد بري. أما في الحالة الثانية فنحن أمام جمهورية قائمة بالفعل، بكل مؤسساتها وأنظمتها، ولكن أحداً في العالم لا يعترف بها وبوجودها. وقد احتفلت بالعيد الخامس عشر "لاستقلالها" في 18 مايو الماضي. وسوف يقوم رئيسها طاهر ريالي كاهين بتلبية دعوة رئيس جامبيا يحيي جامع لحضور القمة الافريقية التي ستنعقد في عاصمة بانجول مطلع يوليو من أجل متابعة طلب انضمام "جمهورية أرض الصومال" المستقلة الي عضوية الاتحاد الافريقي، وهو الطلب المقدم منذ أواخر العام الماضي، ويلقي دعماً من طرف بعض الأوزان الافريقية الثقيلة مثل أثيوبيا وجنوب افريقيا والسنغال ونيجيريا، في حين تعارضه الدول العربية وبشكل خاص مصر والسودان وليبيا باعتباره يمس وحدة أراضي أحد أعضاء الجامعة العربية، ولأسباب أخري أكثر عمقاً، ربما كان بينها دور أثيوبيا في المنطقة وهي تراقب معظم منابع نهر النيل، والتغلغل الصهيوني الأكيد في قرن افريقيا. "جمهورية أرض الصومال"، الممتدة علي مساحة 176 ألف كلم مربع، ويقطنها 4 ملايين نسمة، نموذج فريد من نوعه في افريقيا والعالم. فهي تمتلك كل مقومات السيادة، ابتداء من الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية (كانت مستعمرة بريطانية في حين أن باقي أرجاء الصومال كان مستعمرة إيطالية)، مروراً بالعملة الخاصة بها (الشلنج) وطوابع البريد والجهاز الأمني والإداري الذي يعطي التأشيرات ويصدر جوازات السفر، وصولاً الي انتخابات ديموقراطية علي كافة المستويات. تشكل قبيلة الاسحاق نحو 80 في المائة من سكان الجمهورية. وتقول الرواية المتداولة إن الجد الأعلي لهذه القبيلة الاثنية علي وجه أصح جاء في زمن غابر من... كربلاء العراقية! ويشكل الاسحاق إحدي القبائل الخمس الكبيرة التي يتكون منها الوطن الصومالي (ترمز إليها النجمة الخماسية في العلم الصومالي الرسمي). وقد استقلت جمهورية أرض الصومال في 26 يونيه 1960 بعد احتلال انجليزي استمر منذ أواخر القرن التاسع عشر. لكن استقلالها لم يدم سوي خمسة أيام، لأن زعماء العشائر المجتمعين في العاصمة هرجيسيا قرروا الانضمام الي الصومال الموحد، في غمرة الروح الثورية التي كانت تعصف بافريقيا، لتبدأ بذلك رحلة دامت ثلاثين عاماً تخللتها مآس وتجارب مريرة كثيرة. فبين عامي 1960 و1990، لم يكن نصيب هذه المنطقة سوي 5 في المائة من مجمل 4 مليارات ونصف مليار دولار تدفقت علي الصومال. وقد سلط عليها سياد بري أجهزة الشرطة والمخابرات علي الطريقة المعروفة في ثوريات ذلك الزمان (وهذا الزمان) حتي قامت انتفاضة للعسكر الاسحاق في هرجيسيا عام 1961 تم قمعها، وأودع بعد ذلك الزعيم الوطني ابراهيم محمد عقال في السجن الانفرادي لمدة عشر سنوات. عام 1981 انتفض طلاب المدينة من جديد ضد "المحتل" فوقع 15 قتيلاً وتم توقيف المئات. وفي العام ذاته تأسست في لندن "الحركة الوطنية الصومالية" بدعم من الزعيم الأثيوبي الأحمر منجستو هايله مريم. وبعد توافق منجستو مع سياد بري، قامت قوات الحركة بدخول الأراضي الصومالية خوفاً من إبعادها عن الأراضي الأثيوبية. وتمكنت بالفعل من احتلال العاصمة هرجيسيا في مايو 1988. لكن ردة فعل سياد بري كانت رهيبة. ففي فجر يوم 27 مايو من تلك السنة قامت طائرات الميج 21 وطائرات الهوكر هنتر بدك المدينة لمدة ثمانية أيام كاملة، فدمرتها بنسبة 90 في المائة، وأوقعت ما بين 30 و40 ألف قتيل. وكان يشرف علي هذه المجزرة من مرتفعات المطار القريب، الجنرال علي سمنتر قائد الجيش الصومالي (يعيش اليوم لاجئاً في الولاياتالمتحدة في بلدة فورتونيا قرب واشنطن)، والجنرال محمد هرسي الملقب "بمرجان" الذي أصبح فيما بعد أحد "أمراء الحرب" في العاصمة مقديشيو، وهو صهر سياد بري الذي توفي في منفاه في نيجيريا عام 1995. وبعد سقوط نظامه مباشرة، اجتمع "مجلس عقلاء" أرض الصومال في 18 مايو 1991، في مدينة بوراوو، وأعلنوا الاستقلال من طرف واحد، برعاية ابراهيم محمد عقال الذي خرج حياً من سجون سياد بري. وعُقد مؤتمر وطني في بربرة، ثم في بادامو، أسس لقيام الجمهورية الجديدة. ومنذ الاستفتاء الدستوري الذي جري عام 2001 وكان بمثابة تصويت علي حق تقرير المصير (نال أغلبية 97 في المائة من الأصوات). شهدت جمهورية أرض الصومال ثلاثة استحقاقات انتخابية: المحليات عام 2002، والرئاسيات عام 2003، والتشريعيات عام 2005، وقد انتخب الرئيس الحالي طاهر ريالي كاهين عام 2003 بفارق 213 صوتاً فقط من أصل 600 ألف ناخب! لكن منافسه لم يعترض. وفازت المعارضة بالأغلبية في الجمعية الوطنية البرلمان والتوافق علي ما يرام. مع العلم أن "مجلس الحكماء" الذي يضم 82 عضواً يمثلون مختلف العشائر، هو الحكم الأخير في الأمور المستعصية، وهو الذي نظم فترة الخلافة في اجتماع دام أقل من ربع ساعة، بعد وفاة ابراهيم محمد عقال مؤسس الدولة في جنوب افريقيا، في مايو من عام 2002