عاشوراء وذكرى الإمام شمس الدين: الوطن أولاً سعود المولى تبدأ السنة الهجرية الجديدة ومعها يبدأ موسم عاشوراء في نفس اليوم الذي يصادف الذكرى السابعة لرحيل الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (العاشر من كانون الثاني).. وفي ذكرى ذلك المجاهد الحسيني الانساني الطاهر أستعيد بعضاً من فكره ومواقفه علّ الذكرى تنفع المؤمنين... لم يخش شمس الدين الاتهامات المتطايرة من حوله ومن اليمين واليسار، حين وقف مدافعاً عن «الفكرة اللبنانيّة» (التي كانت صياغة مارونية ومسيحيّة بامتياز).. فلقد سبق للإمام الصدر أن اتّهم بأنه «سافاك» إيراني، وبأنّه شمعوني وكتائبي، وجرى اضطهاده وملاحقته حتى اضطرّ إلى الانكفاء في فندق «لالويت» قرب بعلبك، حزيناً مقهوراً، ومن حوله بضعة شبان ظلوا على إيمانهم بفكره وتعلّقهم بشخصه.. (كان ذلك في مطلع الحرب الأهليّة.. فهل نسينا؟).. لم يرتعب شمس الدين أمام العواصف الهوجاء التي واجهته حين طرح مقولة الدولة المدنيّة، «الدولة التي لا دين لها» على حدّ تعبيره حرفيّاً، يوم كان أركان ما صار لاحقاً «حزب الله» يدعون إلى إقامة جمهوريّة إسلاميّة في لبنان (1980 1988).. ولم يهن أو يستسلم في طرحه لمشروع الوطن والدولة في لبنان على قاعدة العدالة والكرامة والحرّية والمساواة للجميع وبين الجميع، وهو الذي شنّت عليه وسائل إعلام «حزب الله» أقسى الحملات الظالمة (1988 1998) واتّهمته بشتّى الاتهامات، بعد أن ضُرِبَ منزله في الضاحية بالصواريخ وجرى تهجيره وتشريده بقرار حزبي إلهي.. ورغم الآلام والجراح، التي كانت جزءاً من آلام وجراح اللبنانيين الذين أكلتهم الحروب الأهليّة ودمّرت بلدهم ومجتمعهم، لم ييأس شمس الدين، بل لعله كان أوّل مَنْ استخلص دروس الحرب، وأوّلها كان إعادة اكتشاف الوطن، والعودة إلى أحضانه.. «اكتشف اللبنانيّون ذاتهم ووجودهم وتعلّموا أنه ليس لهم إلا لبنان، مهما حاروا وداروا، ومهما وجدوا من صيغ وصداقات وتحالفات، وانها كلها تخيب وتخسر، ولا يبقى لهم إلا لبنان».. نعم.. لا يبقى لهم إلا لبنان.. وهذا اللبنان «يخلق دائماً ويومياً بإرادة اللبنانيين أبنائه.. فهو ليس وطناً معطى، أو وطناً جاهزاً، إنه وطن يُخلق يومياً»..(كل ما هو بين مزدوجين هو من كلام الامام)... هذا الوطن النهائي لم يعد شعاراً سطحياً تستخدمه لغة سياسيّة إسلاموية موسومة بالتقيّة أو قل بالأحرى بالنفاق (وشتان ما بين التقيّة المؤمنة الورعة وما بين الدجل النفاقي المعاصر). وهذا «الوطن النهائي» تجاوز المساومة السياسيّة التقليديّة التي أرست دعائم الميثاق الوطني الأوّل (1943) والثاني (1989)، والتي وجدت تنظيرها الأهم والأشهر في رسالة السيّدين كاظم الصلح وعادل عسيران المعنونة: «مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان» (1936)، أو في بيان رياض الصلح الوزاري الأول (1943) أو في ثوابت صائب سلام الشهيرة.. هذا اللبنان، الوطن النهائي، «ليس مكاناً جميلاً فحسب.. إنه كرامة وحرّية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير والنقد... إن لبنان معنى ودور، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطاً مميزاً، علينا حفظهما وتطويرهما..». ومن هنا فإن قيمة شمس الدين الأساسيّة تكمن في أنّه أعاد إنتاج الفكرة اللبنانية والصيغة اللبنانية، في سياق إدماج المسلمين عموماً، والشيعة تحديداً، في رؤية وطنيّة جامعة، وفي مشروع وطني مشترك، يقوم على مبدأ: لبنان أولاً.. حتى وصل قبيل وفاته إلى القول: «أما بالنسبة إلى سوريا ولبنان، فقلت وأكرّر انّ لبنان خارج أي صيغة من الوحدة إلى أبد الآبدين.. ولو تكوّنت جمهوريّة عربيّة من طنجة إلى عدن، سيكون لبنان الدولة العربيّة الثانية، سيبقى دولة عربيّة أخرى.. لا وحدة.. فطبيعة الاجتماع اللبناني تقتضي ذلك، وفائدة العرب تقتضي ذلك أيضاً.. ثمّة خصوصيّة تجعل من الأفضل له ولكل المحيط العربي والإسلامي أن يبقى جمهورية مستقلة ذات سيادة غير متّحدة مع أحد، تتعاون مع الكل من دون أن يذوب كيانها مع أحد». وهو طوّر رؤيته هذه في وصاياه التي نُشرت بعد وفاته، والتي أعاد فيها تأكيده على أننا في لبنان «أنجزنا أفضل صيغة في التاريخ للعيش المشترك بالرغم من كل تشكيك وكل اتهام ونحن نعتبر المحافظة عليها وصونها وترسيخها واجباً دينياً وليس فقط واجباً سياسياً». وبعد أن كان الإمام من أوائل الذين وصفوا اتفاق الطائف بأنه اتفاق الضرورة، عاد وعدّل موقفه «بعد طول تبصّر ودراسة» ليقول بالفم الملآن: «إنه اتفاق الاختيار.. وهو اتفاق مناسب لطبيعة لبنان، لأنه يوافق ويحقّق جميع الوسائل الممكنة للاستقرار والتقدّم والازدهار...». لا بل انّه قال عن الصيغة اللبنانيّة الفريدة والمميّزة: «إن هذا إنجاز من أعظم إنجازات الروح والعقل..».. و«هذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة وعلى الحسّ الإنساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية أساسية لا بد من مراعاتها».. وقد رأى شمس الدين منذ البداية «ان نجاح تجربة الطائف هو بيد المسلمين في أسلوب إدارتهم للحكم وتأسيسهم للوطن وللدولة بعد الطائف، وفي الخطاب السياسي وفي الخطاب التعبوي».. ليوجّه هذا النداء العظيم إلى المسلمين في لبنان: «إننا مسؤولون عن بعث لبنان من تحت الرماد، وإحياء دوره، وتجديد معناه، وتطوير صيغته، وبُناه ومؤسساته.. وهذا لا يكون إلا بالحوار، عبر انفتاح القلوب والعقول على بعضها، وانفتاح البصائر على المستقبل فلا نبقى مشدودين إلى الماضي، ولا نقفز إلى المجهول.. إن علينا استعادة الحلم الذي مات من مات من شباب لبنان في سبيله.. الحلم بلبنان الوطن والحرّية والكرامة والعدالة والمساواة. علينا استعادة هذا الحلم بتحصين سلمنا الأهلي بحوار دائم مفتوح ومتجدّد وبإرادة وطنيّة جامعة». ولقد ركز الإمام طوال مسيرته الوطنيّة على التأسيس النظري والبلورة الفقهيّة الكلاميّة لهذه الرؤية الإسلاميّة للوطن وللدولة وللمجتمع المتنوّع وللديموقراطية.. وهي رؤية لخّصها بقوله: «لبنان هو لبنان.. هويّته تتكوّن من تنوّعه»، ضارباً بذلك كل السجال العقيم حول الهويّة والانتماء، وداعياً في الآن نفسه المسلمين إلى وعي هذه الرؤية وإلى إيصالها إلى مستوى المبدأ والقناعة الوجدانيّة العميقة وليس إلى مجرّد كلام وشعارات أو إلى واقعيّة سياسيّة تكتيكية تتيح لأحزابهم والزعماء «دخول العمل السياسي البرلماني والانخراط في الانتخابات ودخول باب الحكم والوزارة والنيابة والإدارة»... وفي قلب دعوته هذه الموجّهة إلى المسلمين، كان للإمام دعوة خاصة تفصيليّة موجّهة إلى الشيعة منهم تحديداً.. الشيعة بين التمايز والاندماج يُعرف عن شمس الدين أنه كان صاحب أطروحة ضرورة اندماج الشيعة في أوطانهم وانخراطهم في المشاريع الوطنية لدولهم، من دون أن ينظروا إلى أنفسهم كفئة متميّزة عن سائر شركائهم في الأمة والوطن.. والاندماج الكامل في المحيط الوطني والقومي والاسلامي كان يعني عند شمس الدين «الانخراط في أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام وطاعة القوانين».. وفي مواجهة الذين قالوا إن حمل قضية العرب الأولى والقتال باسمها ونيابة عن شعبها وعن كل الأمة، هو أرقى درجات الالتزام الأخلاقي بالأمة والوطن، دعا شمس الدين الى الالتزام بمشروع الوطن والدولة في كل بلد عربي وكما تعبّر عنه دساتير ومواثيق تلك البلاد.. «وفي لبنان فإن على الشيعة (وكل اللبنانيين) التزام مشروع الدولة الذي ركّب على أساس اتفاق الطائف.. فلقد توافق اللبنانيون على مشروع دولة وعلى تنفيذه وفقاً للصيغة الدستورية القائمة فعلاً والتي هي تعبير عن اتفاق الطائف.. ومن يريد أن يعمل ضمن هذا المشروع فليتفضل، سواء أكان حزب الله أم أي حزب آخر، ديني أو علماني.. في لبنان ليس هناك طرح يتناول أصل تكوين الصيغة... فالصيغة هي هذه، والذي يريد أن يغنيها والذي يريد أن يرشدها والذي يريد أن يحصّنها، نحن نكون في غاية الشكر والامتنان له... والسؤال هو: هل نريد لبنان أم لا نريده؟ وهل نريد نظاماً جمهورياً ديموقراطياً برلمانياً أم لا؟ نحن قلنا نعم للبنان، وقلنا نعم للبنان جمهوري ديموقراطي برلماني»... وقد كان الامام يؤكد مراراً وتكراراً على انه ليس للشيعة، ولا يجوز أن يكون لهم، مشروع خاص بهم.. «الشيعة في لبنان والعالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم ولأمتهم، مشروع الدولة والمجتمع الواحد، وليس لديهم أي وهم في مشروع خاص كما انهم لا يتحملون مسؤولية أي مشروع خاص».. أما على صعيد التمذهب الخاص، فالتمايز موجود، وهو تمايز ثقافي.. وهو تمايز مبرر، دعا شمس الدين الى حفظه وتطويره ولكن على أساس عدم انشاء الشيعة لنظام مصالح خاص بهم داخل الوطن.. «أنا أقول بكسر هذا النظام من المصالح.. وأن يستبدل بنظام مصالح وطني، اقتصادي سياسي تنظيمي، ويبقى التنوع الثقافي». وفي آخر وصاياه كتب شمس الدين: «على الشيعة أن يندمجوا في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، أو من قبيل كونهم أقلية من الأقليات... لا يجوز ولا يصح أن يحاولوا، حتى أمام ظلم الأنظمة، أن يقوموا بأنفسهم وحدهم وبمعزل عن قوى أقوامهم بمشاريع خاصة للتصحيح والتقويم، لأن هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع بأي نفع... وأوصيهم وصية مؤكدة بألا يسعى أي منهم الى أن ينشئ مشروعاً خاصاً للشيعة في وطنه ضمن المشروع العام، لا في المجال السياسي أو الاقتصادي أو التنموي... أوصيهم بأن يندمجوا في نظام المصالح العام، وفي النظام الوطني العام، وان يكونوا متساوين في ولائهم للنظام وللقانون وللاستقرار وللسلطات العامة المحترمة». شمس الدين كان يرى أن الخيار الوحيد للشيعة في أوطانهم ينبغي أن ينصب على «تحقيق الكرامة والحد الأعلى من المصالح، وحفظ دينهم وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الامكان... وهذا لا يمكن أن يحصل اذا كنا مصدر خوف للآخرين، لأن الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الأنظمة فقط، بل يجعلنا وهذا أسوأ ما يكون على تناقض مع الشعوب بالذات، أي على تناقض مع شركائنا في الوطن... على الشيعة أن لا يكونوا مصدر خوف بل مركزاً للأمان...».. «ان كون الشيعة أكثر عدداً وهم على الظاهر أكبر طائفة منفردة في لبنان لا يعطيهم امتيازاً على السّنة أو على الموارنة أو على الروم أو على الطوائف قليلة العدد، لا يعطيهم امتيازاً.. هم متمثلون في نظام الطائف بالشكل الذي توافق عليه اللبنانيون والذي أُبرمت على أساسه وثيقة الوفاق الوطني ووضع على أساسها الدستور المعمول به الآن».. «ليس المطلوب اليوم إظهار تشيّع الشيعة.. فهذا ظاهر الى درجة الوجع.. المطلوب أن يكون الشيعة مندمجين ومقبولين من مجتمعهم بشكل كامل.. ستسمعون اعتراضات كثيرة ونحن تعوّدنا عليها... ولكن اعلموا ان هذا كان خط الأئمة ودينهم وسياستهم.. وهم لم يكونوا في ذلك موالين للأنظمة أو خائفين أو انهزاميين.. لقد كانت رسالتهم السياسية وإدارتهم السياسية تقتضي هذا النوع من السلوك لأنه ليس المطلوب إحداث فتنة في المجتمع، بل من المحرّم إحداث فتنة في المجتمع... أطروحتي هي هذه: الحوار والهدنة الداخلية هما الطريق الصحيح... وفي اعتقادي فإنه اذا كان من رجاء في أن تحقق مكاسب للشيعة من العالم فهي من هذا الطريق، طريق الاندماج وليس طريق الانكفاء والسلبية الكاملة، وليس هي طريق الحالة الهجومية»... وكان شمس الدين يعتقد بأنه بعد اتفاق الطائف «لم يعد هناك مبرر لادعاء أو لشكوى الحرمان لدى الشيعة أو لدى غير الشيعة... فالمسألة من الناحية السياسية والمشاركة في صنع القرار السياسي والقرار الاقتصادي والقرار الاداري هي من حيث المبدأ في الصيغة الأفضل.. لما يمكن أن يوجد... وتوجد أخطاء في التنفيذ علينا أن نتحملها.. وفي المسألة التنموية، فالمشروع التنموي في بداياته.. وكل اللبنانيين، سواء كانوا شيعة أو غير شيعة، عليهم أن يلتزموا بمشروع الدولة ولا يوجد بديل من مشروع الدولة.. وكما قلنا دائماً ونكرر: ان أي طائفة في لبنان لا يمكن أن تنجز مشروعاً خاصاً بها، وأي طائفة تريد أن تنجز مشروعاً خاصاً بها ستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع... وفي هذه المرحلة فإن منطق أقلية وأكثرية في لبنان بالمعنى الطائفي لا يجوز استخدامه ولا يمكن استخدامه... والشيعة ينبغي أن يكون مشروعهم مشروع الدولة الوطني، ولا يفيدهم في شيء، وهم على وعي بذلك، أن يكون لهم مشروع خاص».. وقد رفض رحمه الله رفضاً باتاً محاولاتنا المتكررة (نحن الذين كنا نحمل فكره ومنهجه) لتشكيل مجموعة شيعية مستقلة عن الحزبين الكبيرين (أمل وحزب الله) ودعانا وحثّنا ورعى مشاركتنا في تأسيس مجموعة وطنية لبنانية (هي المؤتمر الدائم للحوار اللبناني).. وكان يرى أنه لا بأس من تشكيل حزب سياسي اسلامي على غرار الأحزاب المسيحية الديموقراطية (يحمل اسم الحزب الاسلامي الديموقراطي) ولكن على أساس مشروع سياسي وطني ديموقراطي لا علاقة للتديّن أو للتمذهب في أساس أطروحته أو صيغته.. وهو كان يثمّن ويقدّر التجربة التركية في هذا المضمار، ويتابع عن كثب تطوّر تجارب أخرى مثل التجربة المغربية وبدايات تجربة حزب الوسط في مصر، ويدعونا الى الاستعلام والتعرّف على تجارب ماليزيا وحركات النهضة الايرانية الممهدة للثورة الاسلامية (علي شريعتي مهدي بازركان.. ودور موسى الصدر فيها). عن صحيفة السفير اللبنانية 14/1/2008