لم تعد المعركة التي يخوضها لبنان معركة تشكيل حكومة تعيد الأمل بمستقبل أفضل للبنانيين وتجعلهم يتعلقون ببلدهم بدل الهجرة منه. وتهجير اللبنانيين، خصوصًا المسيحيين من أرض وطنهم مهنة احترفها العماد ميشال عون، المولود في حارة حريك معقل "حزب الله" في هذه الأيام. لم يفوت النائب عون فرصة لجعل اللبنانيين يكفرون ببلدهم وأرضهم، هو الذي خاض كل الحروب التي كان عليه خوضها وافتعالها لتمكين النظام السوري من تنفيذ اتفاق الطائف علي طريقته وتحويله من الطائف العربي الذي يحظي بغطاء من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلي وسيلة لفرض نظام الوصاية علي لبنان واللبنانيين. نعم، المطروح حاليا أبعد من تشكيل حكومة برئاسة النائب سعد الحريري زعيم الأكثرية في مجلس النواب. كشفت المناورات والألاعيب التي تخللت مرحلة السعي إلي تشكيل الحكومة الناس علي حقيقتهم. كشفت الأدوات وأدوات الأدوات التي تستخدم بكل حذاقة ودهاء في عملية تفكيك لبنان وجعله رهينة لدي المحور الإيراني- السوري. المطروح في مواجهة الأزمة أن يتمكن لبنان من الصمود مثلما صمد طوال أربعين عاما أي منذ توقيع أتفاق القاهرة في العام 1969، لا خيار آخر غير الصمود في وجه الهجمة التي تستهدف تفكيك الوطن الصغير عن طريق إظهاره أنه ليس قادرا أن يحكم نفسه بنفسه وأنه في حاجة دائمة إلي الأخ الأكبر السوري يرعاه ويرعي الأمن فيه ويضبط الوضع الأمني. كانت آخر نكتة أطلقها هذا النظام، وهي نكتة لا يصدقها إلا السذج، أن الأزمة في لبنان أزمة نظام سياسي. في حال كانت هناك أزمة نظام في لبنان، وليس هناك في لبنان من ينكر وجود أزمة، ما الذي يمكن قوله عن النظام السوري الذي يحكم بالحديد والنار منذ وصول حزب البعث إلي السلطة في الثامن من مارس 1963 بموجب قانون الطوارئ الذي ألغي الحياة السياسية. هناك علي الأقل حياة سياسية في لبنان، هناك تنوع سياسي وهناك مستوي مقبول من الحياة الثقافية والفنية. هناك من يتجرأ علي تسمية الأشياء بأسمائها. هناك رجال كبار في لبنان. أحد هؤلاء الزعيم الوطني وليد جنبلاط ، أقله في مرحلة ما قبل إصابته بحال الهلع واضطراره، بسبب السلاح الإيراني الموجه إلي صدور اللبنانيين، إلي قول كل الكلام الجميل عن اليسار والأمجاد والانتصارات العربية الوهمية. لم تكن تلك الانتصارات في واقع الحال، سوي انتصار علي لبنان وعلي كل ما هو حضاري في المنطقة. قد تتشكل حكومة لبنانية قريبا. الأمر وارد، خصوصا مع زيارة العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز لسوريا. أن تشكيل الحكومة حدث ضخم في حد ذاته خصوصا أننا قد نشهد مجددا، في حال عدم افتعال حروب داخلية عن طريق إثارة الغرائز المذهبية، عودة الحياة إلي مشروع الانماء والاعمار الذي أسس له الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هذا المشروع الذي وضع لبنان مجددا علي خريطة المنطقة والعالم فجنّ جنون النظامين الإيراني والسوري وأرادا إعادة عقارب الساعة إلي خلف غير متنبهين إلي ما ستكون عليه ردة فعل الشعب اللبناني بكل طوائفه ومذاهبه. ولكن هناك ما هو أهمّ من ذلك بكثير. الخوف كل الخوف، هذه الأيام أن تكون العراقيل التي وضعت في وجه تشكيل الحكومة خطوة أخري في اتجاه أخذ البلد رهينة علي غرار ما حصل مع الطائفة الشيعية الكريمة التي يتبين كل يوم أنها خضعت لعملية تدجين استمرت ثلاثين عاما شارك فيها الإيراني والسوري. استخدم الجانبان كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة بما في ذلك السلاح والمال في عملية اخذ الشيعة اللبنانيين، بأكثريتهم، رهائن وعزلهم عن دورة المجتمع اللبناني، خصوصا الدورة الاقتصادية، وحتي عن الحياة السياسية الطبيعية. من يتمعن في نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة يجد أن الأصوات الشيعية صبت في اتجاه معين وكأن الطائفة كلها صارت ميليشيا تابعة ل"حزب الله"، أي ل"الحرس الثوري الإيراني". علي الرغم من كل ما حصل وما لحق من ظلم بالشيعة اللبنانيين ستنتفض الطائفة مجددا وتؤكد أنها قادرة علي استعادة دورها علي الصعيد اللبناني في وجه الأطماع والنيات السورية والإيرانية. في موازاة تشكيل الحكومة اللبنانية، يبدو مفيدا الالتفات إلي تطورين في غاية الأهمية. التطوران مرتبطان إلي حد كبير بما يدور داخل الطائفة نفسها. يتعلق التطور الأول بفضيحة صلاح عز الدين، رجل المال والأعمال، الذي أضاع ملايين الدولارات العائدة إلي عائلات شيعية بعضها مجرد عائلات فقيرة تمتلك مبالغ مالية متواضعة. لا يمكن الفصل بين صلاح عز الدين و"حزب الله". السؤال ماذا ستكون انعكاسات الفضيحة علي الجو الشيعي في غضون سنة أو سنتين عندما سيستفيق المواطن العادي من حال التنويم المغناطيسي التي يعاني منها منذ ثلاثة عقود؟ أما التطور الآخر ففي أساسه اضطرار السلطات في دولة الإمارات إلي إبعاد عدد صغير من أبناء العائلات الشيعية. هؤلاء لبنانيون كانوا موضع ترحيب في الإمارات مثلهم مثل أي عربي آخر. لماذا دخولهم في لعبة يفترض بهم أن يكونوا أبعد الناس عنها؟ من المسئول عن مصير هؤلاء؟ أليس "حزب الله" الذي يحاول جر المغتربين الشيعة إلي مكان آخر لا علاقة لهم به خدمة لسياسات إيرانية وغير إيرانية؟ في النهاية لابد من التساؤل: هل سيصمد لبنان؟ الجواب أن التطورين الأخيرين المرتبطين بما يدور داخل الطائفة الشيعية نفسها يبعثان علي الأمل. الأمل بأن ساعة الحقيقة تقترب. هل لبنان كله رهينة لدي المحور الإيراني- السوري... أم أن فك أسر لبنان بدأ وبات قريبا اليوم الذي سيكون كل اللبنانيين تحت شعار لبنان أوّلا... تحت سماء لبنان!