وجه واحد وثلاثة أقنعة صلاح الدين حافظ يحلم الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن يغلق ملفاته ويصفي حساباته، خلال ،2008 عامه الأخير في رئاسته وحكمه للبيت الأبيض، لكن ملفاته متعددة وحساباته معقدة، تحوّل الأحلام إلى أوهام. يحلم بوش بأن يحقق إنجازاً في عامه الأخير، لم يستطع تحقيقه طوال سبع سنوات خلت، يحلم بأن يغلق أولاً ملف حربه الطويلة في أفغانستان بعد نحو سبع سنوات من الخسائر والضحايا من دون انتصار، ويحلم ثانياً بأن يصفي حسابه في حرب العراق بعد نحو خمس سنوات غارقاً في المقتلة التي لا نهاية لها، ويحلم ثالثاً بأن يحقق إنجازاً فريداً في فلسطين، بالوصول إلى اتفاق بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" بعد عقود طويلة مأساوية فشل في مواجهتها أكثر من خمسة رؤساء أمريكيين، لأنهم كانوا مثله منحازين بلا عقل أو ضمير ل"إسرائيل" المعتدية، ضد الفلسطينيين الضحايا. ومن حق بوش أن يحلم بأن يحقق كل هذه الإنجازات في عام ،2008 لكي يخرج من البيت الأبيض منتصراً، تاركاً وراءه ذكريات طيبة، تسجل له، مثلما سجل أبوه إنجازاً في حرب عاصفة الصحراء وتحرير الكويت منذ غزو العراق عام ،1990 لكن هل يملك بوش الابن أدوات وإمكانيات تحقيق مثل هذا الإنجاز بعدما هربت منه الحلول طوال سبع سنوات، بل بعدما تورط وورط أمريكا في حروب وصراعات حادة، باسم القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، وفرض هيمنتها على العالم. فإن كان من حق بوش أن يحلم، فمن حقنا أن نشك في قدرته على تحقيق حلمه، لأنه هو الذي حول الحلم إلى كابوس دموي عنيف، بدأت مرتداته تضرب صميم الدولة الأمريكية، وتثير انزعاج وفزع المجتمع الأمريكي بكل طوائفه، وتحرك في أعماقه نوازع الانتقام من إدارة بوش ومنظريها. فإن بدأنا بالحرب ضد طالبان في أفغانستان الجارية للسنة السابعة، منذ أن بدأت بعد أسابيع قليلة من الهجمات الدموية على نيويوركوواشنطن في سبتمبر/ أيلول ،2001 فإننا نلاحظ كما يلاحظ المراقبون الثقاة وفي مقدمتهم أمريكيون نابهون، أن طالبان المتشددة، قد استعادت مؤخراً قوتها الضاربة، وأصبحت الآن أقوى مما كانت عليه خلال عامي 2001-2002. وتقول تقارير مراكز البحوث وأجهزة المخابرات الدولية، وهي تقارير نشرت مؤخراً، إن طالبان أصبحت تسيطر الآن على نحو 54 في المائة من أراضي أفغانستان، وخصوصاً في المناطق الشرقية والجنوبية التي تضم معظم السكان الأفغان، بينما حكومة قرضاي محاصرة عملياً في كابول والمنطقة الخضراء، رغم الوجود العسكري الكثيف للقوات الأمريكية، المسنودة بقوات حلف الناتو. وبالتوازي أصبحت “القاعدة" وتنظيماتها المتطرفة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أقوى مما كانت عليه بعد الضربات التي تلقتها عقب هجماتها على نيويوركوواشنطن، فإذا بها تضرب في لندن ثم في مدريد، وتتمدد بأذرعها الكامنة في أوروبا وتتوسع في بلاد المغرب العربي والجزيرة العربية، بدرجة تثير الرعب، فأين هو الانتصار الذي وعد به بوش مواطنيه والعالم، بكسر طالبان والقضاء على القاعدة، وأسر ابن لادن والإتيان به داخل قفص حديدي إلى واشنطن لمحاكمته؟
ولعلنا نذكر ونذكّر الآخرين بأن بوش شن حربه الضروس على أفغانستان عام ،2001 باسم الحرب ضد الإرهاب الإسلامي، التي سماها حرب الخير ضد الشر، مدفوعاً في ذلك بنظرية “صدام الحضارات" التي تبناها المفكر الأمريكي “صمويل هنتنجتون"، القائمة على فكرة أن على الحضارة الغربية اليهودية المسيحية خوض حرب البقاء مع حضارات أخرى تهددها، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، لأنها حضارة عدوانية مقاتلة تبغي التوسع والعدوان. ولقد وجدت فكرة صراع الحضارات هذه جاذبية لدى جماعة المحافظين الجدد والتحالف المسيحي الصهيوني، أصحاب العداء والكراهية الشديدة للإسلام كدين وللمسلمين كشعوب مختلفة، مثلما وجدت مؤرخاً ومفكراً بنى تاريخه على أساس أنه الخبير الأول بالإسلام والمسلمين، ونعني “برنارد لويس" الذي أصبح بين يوم وليلة مُنظر وفيلسوف المحافظين الجدد، الذين احتشدوا من حول الرئيس بوش، وفي طليعتهم ديك تشيني نائب الرئيس ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق وبول وولفوفيتز نائبه المستقيل وغيرهم. وبعقول هؤلاء وسواعدهم، اندفع بوش في شن حربه ضد أفغانستان، ومن بعدها العراق عام ،2003 “دفاعاً عن الخير الكامن في الحضارة الغربية، ضد الشر المتراكم في الحضارة الإسلامية"، ولذلك لم تكن عبارة الحرب الصليبية التي أطلقها بوش في البدايات المبكرة، مجرد زلة لسان كما حاول المتأمركون العرب تبريرها أو إعادة تفسيرها في ما بعد، بل كانت تعبيراً عن حقيقة الأهداف والمقاصد. بعد سبع سنوات من الحرب الدامية في المستنقع الأفغاني، لم يستطع بوش مع حلف الأطلسي بكل هيلمانه أن يقضي على القاعدة وطالبان، ولم يتمكن من تحقيق حلمه بقتل ما سماه “الإرهاب الإسلامي" في مكمنه، بل إن هاجس الخوف من الهزيمة المريرة أصبح يطارده، مثلما يطارد حلفاءه الأوروبيين المشاركين في قوات الناتو (قوات إيساف)، فإذا بهم يتقاطرون خلال الأسابيع الأخيرة لزيارة أفغانستان بهدف رفع الروح المعنوية لقواتهم الموروطة هناك، ويكفي أن نعرف أن خمسة من كبار هؤلاء الحلفاء زاروا أفغانستان مؤخراً، وهم الرئيس الفرنسي ساركوزي، وجوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، وبرودي رئيس وزراء إيطاليا، وميركل مستشارة ألمانيا، ثم رود رئيس وزراء استراليا الجديد، فضلاً عن الزيارات المتواصلة لكبار المسؤولين الأمريكيين. هاجس الفشل إذن هو الذي يسيطر على هذه الأرمادا الأوروأمريكية، في مستنقع جبلي وعر، فشل في السيطرة عليه تاريخياً أباطرة كبار، من الإسكندر الأكبر قديماً إلى الاتحاد السوفييتي حديثاً، الذي حارب لعشر سنوات كاملة، لإخضاع هذا الشعب المقاتل المتمرد حتى ذاق الفشل فانسحب، تاركاً وراءه حرباً أهلية لأربع سنوات، حتى قفزت طالبان إلى الحكم لخمس سنوات، قبل أن يزيحها بوش وحلفاؤه، فلجأت مع القاعدة إلى الجبال والأقاليم ليعيدا معاً بناء قوتهما المشتركة، ويطلا على العالم من جديد بمزيد من العنف والتشدد بل والإرهاب في دول أخرى، انتقاماً من بوش وحلفائه المحاربين في أفغانستان، وهم بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وكندا وهولندا وبولندا واستراليا وتركيا. والنتيجة التي أمامنا الآن بعد سبع سنوات من الحرب، تظهر أن عنف طالبان والقاعدة قد ازداد، ملتحفاً بالغطاء الإسلامي المقاوم للغزو الصليبي الغربي، وأن أذرع الإرهاب ومنظماته الدولية امتدت وقويت وانتشرت في بلاد بعيدة، وأن الترسانة العسكرية الغربية فشلت في حسم المعارك لمصلحتها، كما يحلم بوش بأن يحقق هذا الحسم المنتصر خلال ما تبقى له من شهور في الرئاسة الأمريكية.
والحقيقة أن الفشل في الحسم العسكري قام ويقوم على فشل في تحديد فلسفة ودوافع هذه الحرب وأهدافها بدقة، لأنها فلسفة بنيت على أساس عنصري اختلط فيها ما هو سياسي اقتصادي استعماري، مع ما هو ديني، وشاعت على أنها حرب حضارة ضد حضارة، ودين ضد دين، فكان طبيعياً أن تستفز المشاعر الدينية ليس في أفغانستان فقط، بل على امتداد العالم الإسلامي كله من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً. وهذا هو الوجه الحقيقي للحرب وتوابعها، “وهو ما ينطبق أيضاً على حالة العراق وحتى فلسطين"، وهو وجه تلبسته ثلاثة أقنعة، فهناك أولاً من يرى في حركة طالبان وجهاً إسلامياً متطرفاً متعصباً يهدد أمن العالم ويسعى لتدمير الحضارة الأوروبية الأمريكية حقداً وغلاً، ولذلك وجب قتله في مهده. وهناك ثانياً من يرى في طالبان مجرد تنظيم إسلامي متشدد، أساء فهم أصول الدين الإسلامي وتفسير شرائعه ومبادئه، ولم يجد من يعظه ويرشده، ويعيد تثقيفه بالثقافة الإسلامية السمحة، ويساعده على الانفتاح على مجريات التطور وفهم طبيعة العصر ومستحدثاته وضرورات التعايش معه بحكمة واستنارة ودون غلو وتطرف. وهناك ثالثاً من يرى في طالبان، حركة تحرر وطني، غزا الاستعمار الغربي بلادها المنيعة، فهبت للدفاع عن استقلال وطنها، وفق حق التحرر والاستقلال وتقرير المصير، بمنأى عن الضغط الأجنبي والنفوذ الخارجي، وهي تفعل اليوم ما فعلته سابقاتها بالأمس ضد الغزو السوفييتي. ونظن أن هذه الأقنعة الثلاثة، قد تداخلت بدرجة كثيفة ومثيرة للالتباس، وإن ظل وجه الأزمة واحداً، وهو إطلاق وحش القوة العسكرية الأمريكية والأوروبية، لتحارب في بلاد بعيدة، بعد سنوات طوال من استراحة المحاربين، وتمارس الغزو المسلح، وتصطنع عدواً جديداً، هو الإرهاب الإسلامي، بعد زوال العدو الأصلي السابق وهو الشيوعية والاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وحلف وارسو. بالأمس كان العدو والصراع سياسياً والآن أصبح دينياً، سوء الفهم بل سوء القصد، أوقع طالبان والقاعدة في جرائم العنف والتشدد وصولاً للإرهاب، وسوء الفهم والقصد أوقع بوش وحلفاءه في جرائم حرب ضروس، جرت مثيلاتها من قبل في جبال أفغانستان الوعرة مئات المرات عبر القرون، ولم يكسبها حتى الإسكندر الأكبر، فكيف إذن يريد بوش الأصغر أن يكسبها عبر بضعة شهور في عام 2008؟ لعن الله عصابة المحافظين الجدد المتصهينين المتعصبين، الذين أوقعوا الرئيس الغر في شر أعماله، بعدما استمع لنصائحهم العنصرية المتطرفة، من دون أن يجد من يرده إلى الحكمة والعقل. آخر الكلام: يقول صفي الدين الحلي: اسمع مخاطبة الجليس ولا تكنْ عَجِلاً بنطقك قبلما تتفهمِ عن صحيفة الخليج الاماراتية 2/1/2007