الإمبراطورية الأميركية على طريق الزوال أحمد منصور أختلف مع الذين يؤملون وينتظرون التغيير في سياسة الولاياتالمتحدة تجاه بلادنا بعد اختيار الاميركيين باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأميركية في الرابع من نوفمبر، ولعل أوباما أكد على هذه الرؤية من خلال اختياره راما ايمانويل الاسرائيلي الأصل ليكون كبيرا لموظفي البيت الأبيض وهو أرفع وأهم منصب في إدارة الرئيس الأميركي، وقد جعل هذا التعيين لأول وأهم منصب في إدارة الرئيس الجديد الصحف الإسرائيلية تهلل وترحب بأول قرار يتخذه أوباما بعد انتخابه رئيسا حتى أن صحيفة «معاريف» الإسرائيلية قالت في عددها الصادر يوم الجمعة 7 نوفمبر عن ايمانويل انه «رجلنا في البيت الأبيض». ولعل تعيين اسرائيلي مديرا للبيت الأبيض يجعل العرب الذين عولوا على اختيار الاميركيين لأوباما ان يعودوا أدراجهم وأن يدركوا ان الاميركيين اختاروا أوباما ليس من اجل العرب ولا من اجل المسلمين ولكن من اجل الكارثة والميراث الثقيل الذي تركه جورج بوش للأميركيين وللعالم. كما أن رؤية أوباما لإسرائيل وأمنها هي رؤية كل من حكموا الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن ولن تتغير الا بانكماش اميركا وانكفائها على نفسها وانتهاء رؤاها الامبراطورية ونزعاتها التوسعية. اما الميراث الذي تركه بوش لأوباما فعلى الصعيد الاقتصادي وهو الأهم الآن حيث يعيش الاميركيون جميعا في كابوسه. فبعد يومين من اختيار أوباما رئيسا أكدت كبرى شركات صناعة السيارات في الولاياتالمتحدة انها على وشك الافلاس إذا لم تتدخل الحكومة الاميركية وتدعمها بما لا يقل عن 25 مليار دولار في أقرب فرصة. وقد أكدت شركات «فورد» و«كرايسلر» و«جنرال موتورز» أنهم يواجهون شبح الإفلاس إذا لم يتحرك الكونغرس والرئيس الأميركي المنتخب لنجدتهم. وقد أشارت صحيفة «واشنطن بوست» الاميركية في عددها الصادر يوم الجمعة 7 نوفمبر نقلا عن شركة «فورد» ان صناعة السيارات في الولاياتالمتحدة «تنتظرها أوقات عصيبة». ومن الطبيعي ان تقوم هذه الشركات بتسريح الآلاف من موظفيها لخفض النفقات بعدما شهدت مبيعاتها انخفاضا لم تشهده منذ 25 عاما، هذا والأزمة كما يقال في بدايتها. ومعنى الأوقات العصيبة التي تنتظر صناعة السيارات في الولاياتالمتحدة ان هناك اوقاتا عصيبة ايضا تنتظر كافة الشركات المرتبطة بصناعة السيارات مثل شركات قطع الغيار وصناعة إطارات السيارات وشركات الاقراض لراغبي شراء السيارات التي تقدر ميزانيتها بما يقرب من مائة مليار دولار، وشركات خدمات السيارات وصناعة مشتقات البترول ومحطات البنزين ومطاعم الوجبات والمأكولات والبقالات التي توجد في كل محطة بنزين تقريبا، وهذا يعني فقدان مئات الآلاف من الوظائف للذين يعملون في كافة مجالات صناعة وتسويق وخدمة السيارات مما يعني كارثة في هذا المجال لن تقل عن كارثة بطاقات الائتمان التي تقدر قيمة الخسائر فيها حتى الآن بما يقرب من مائة مليار دولار، حيث تبلغ الديون المستحقة لشركات بطاقات الائتمان في مجملها اكثر من 700 مليار، بعدما تعودت هذه الشركات التي كانت تقوم بتوزيع بطاقاتها مجانا على من يملك ومن لا يملك في الولاياتالمتحدة على إغراق الاميركيين في الديون الباهظة وتعويدهم على نمط استهلاكي مدمر حيث ينفق الانسان اضعاف دخله ويعجز عن السداد وتكتفي الشركات بإضافة المزيد من الفوائد والجزاءات على ديونه في شكل من أشكال الجشع الربوي الذي بليت به هذه المجتمعات وعممته على معظم أنحاء العالم. وقد جعل هذا السلوك الطبقة الاميركية الوسطى تعيش حالة من الضياع ولعل هذا ما دفع الرئيس الاميركي المنتخب باراك أوباما إلى أن يكون من أوائل تعهداته التي أعلنها في أول مؤتمر صحفي يعقده بعد انتخابه بيومين اي في 7 نوفمبر انه سوف يعتمد خطة للتحفيز الاقتصادي من اجل إنقاذ الطبقة الوسطى في المجتمع الاميركي، وقال أوباما ان الاقتصاد الاميركي في حالة سيئة، والشعب بحاجة الى مساعدتنا. وقد سجلت معدلات البطالة في الولاياتالمتحدة نسبة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة فقد بلغت في شهر سبتمبر الماضي ستة ونصفا في المائة وسرح خلال شهرين ما يزيد على ربع مليون اميركي من وظائفهم هذا والأزمة ما زالت في بدايتها كما يقول الخبراء. اما ازمة الرهن العقاري فهي تبلغ 700 مليار دولار من الخسائر للشركات والبنوك التي تتعامل في هذا المجال وهي التي كانت تمثل رأس جبل الجليد حينما ظهرت الأزمة الاقتصادية في منتصف سبتمبر 2008، لكنها كانت تخفي وراءها ازمات وكوارث اقتصادية في كل مجال مثل أزمة شركات إقراض الطلاب التي تزيد على 80 مليارا. ومن لا يعلم فإن الطالب الأميركي يدفع تكاليف باهظة للجامعات حينما يدرس بها، ولأن كثيرا من الطلبة لا يملكون المال ولا يجدون منحا دراسية فإن هذه الشركات تقرضهم المال اللازم لاستكمال دراستهم الجامعية مع فوائد باهظة على أن يسددوا ديونهم لتلك الشركات بعد تخرجهم وحصولهم على الوظائف ويستمرون في أداء هذه الديون لسنوات طويلة، ولأن كثيرين خسروا وظائفهم فقد أصبحوا عاجزين عن السداد مما جعل هذه الشركات تسجل خسائر فادحة جعلت بعضها يشرف على الإفلاس. ولأن كل شيء في الولاياتالمتحدة بالديون فإن حجم المبالغ غير المعلنة ربما يعادل او يزيد على مبالغ الرهن العقاري الذي طغى كرقم كبير على كثير من الأرقام الصغيرة. اما اقتصاد الحرب الذي بلغ ثلاثة تريليونات دولار من عام 2001 وحتى نهاية عهد بوش، مع خسائر فادحة تكبدتها الولاياتالمتحدة في الأرواح والمعدات في كل من افغانستان والعراق فإن الحرب وخسائرها تعتبر من أثقل ما تركه بوش لوريثه أوباما. وهي قصة اخرى معقدة لأنها ليست مجرد ديون وإنما جيوش تنتشر على رقعة واسعة تصل الى 25 دولة من آسيا الوسطى الى افريقيا وتضم جيوشا على الأرض وقواعد عسكرية وأساطيل تجوب البحار وقوات تقوم بتدريب جيوش الدول الحليفة للولايات المتحدة، وقوات تشن حروبا، كل هذا تحت مسمى «القيادة الأميركية الوسطى» التي يقع مقرها الرئيسي في ولاية تامبا الاميركية، ويقودها الآن الجنرال ديفيد بتريوس القائد السابق للقوات الأميركية في العراق. ومن ثم فإن هناك حروبا قائمة لها نفقات يومية باهظة، وجثث تعود في الأكياس السوداء كل يوم الى قاعدة دوفر شرق الولاياتالمتحدة، حيث أكبر مستودع للجثث في العالم، ومقابر وشواهد قبور تنتشر في عشرات المقابر الوطنية للجنود الاميركيين. وعلاوة على الجثث هناك عشرات الآلاف من الجنود المعاقين جسديا وذهنيا الذين يعودون لبلادهم كضحايا وجرحى لهذه الحروب، ولا يجدون الرعاية رغم ما قدموا للوطن من تضحيات في المنظور الاميركي، مما يدفع بالكثيرين منهم للانتحار. وقد نشرت في كتابي «معركة الفلوجة» إحصائيات دقيقة من مسؤولي المراكز الطبية للمحاربين القدماء في الولاياتالمتحدة تفيد بانتحار الف جندي سنويا على الأقل من العائدين من العراق وأفغانستان بسبب الأمراض النفسية التي تنهشهم بعد عودتهم من ساحات القتال، ومن يدخل على أي موقع لقدامى المحاربين الاميركيين يجد من القصص والشكاوى ما يصعب تصوره. هذا الميراث الامبراطوري العسكري الضخم بحاجة الى من يتعامل معه بحصافة ويبحث عن مخرج له، لا سيما وان كافة خبراء الاستراتيجية والمؤرخين يعتبرون ان التمدد العسكري للامبراطوريات علي مدار التاريخ مع العجز او القصور الاقتصادي عادة ما يمثل البداية للتراجع الامبراطوري ومن ثم الانكماش ثم الانهيار. هذا ما حدث مع كافة الامبراطوريات التي ظهرت واندثرت على مدار التاريخ. ولننظر من قريب خلال القرن الماضي فقط الى الامبراطورية العثمانية التي أغرقتها الديون بدءا من منتصف القرن التاسع عشر. وقد لعب يهود الدونمة الدور الرئيسي في إقراض السلاطين الذين انشغلوا ببناء القصور والبذخ مما ادى الى الانهيار الذي اعلن عنه رسميا عام 1924 لكنه كان قد بدأ قبل ذلك بخمسين عاما على الأقل. ثم ننظر الى الامبراطوريةة النمساوية التي انهارت بعد الحرب العالمية الاولى والامبراطورية البريطانية التي انهارت بعد الحرب العالمية الثانية، ثم مساعي هتلر لتكوين امبراطورية ألمانية دمرها التمدد العسكري الواسع الذي قام به، ثم انهيار الامبراطورية السوفياتية عام 1991، بعد ورطتها في أفغانستان. والآن بعد ورطة العراق وأفغانستان فإن الامبراطورية الاميركية التي تواجه تحديا اقتصاديا هو الأقسى والأصعب في تاريخها قد يمثل هذا نهايتها التي صنعها جورج بوش والتي لن يجد أوباما مفرا من التعامل معها، لكن جهده الأكبر كيف تكون هذه النهاية في شكل مشرف كما يصطلح الخبراء في المسميات ولا تكون انهيارا مشابها لما تم لكافة الامبراطوريات السابقة. اما ما يتعلق بميراث بوش على الصعيد السياسي فهذا ما سوف نتناوله في الأسبوع القادم. عن صحيفة الوطن القطرية 10/11/2008