لعل الدعوة التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش إلى عقد اجتماع دولي في خريف هذا العام تتفاعل على غير صعيد. ولعل هذا التفاعل، في تفاؤل الرئيس الأميركي، يسفر عن نتائج ايجابية على صعيد الصراع الفلسطيني الاسرائيلي يمكنه توظيفها في استعادة بعض شعبيته في الداخل الأميركي والخارج أيضا.
ولكن هذه الدعوة قوبلت، لغاية الساعة، بمواقف متباينة ما يدفع المسؤولين الأميركيين الى الحذر وربما القلق على مصير هذا المؤتمر.
ولا بد، هنا، من الإشارة الى بعض المواقف المتحفظة على عقد هذا المؤتمر العتيد او على نتائجه. ومن هذه التحفظات: لم يظهر أي من القادة الغربيين حماسة ملحوظة لعقد هذا المؤتمر او للمشاركة الفاعلة فيه. ولعل السبب، هنا، عائد الى ان المؤتمر ذاته لم يتضمن أي جدول واضح ومسبق لأعماله، ولم يشر الى الملفات التي سيعالجها، ولم يفصّل موضوع الملف الفلسطيني الاسرائيلي الذي سيعالجه، مع ان الادارة الاميركية وقفت الى جانب إسرائيل في ضرورة تقديم أمنها على مسألة الدولة الفلسطينية والتفاوض بشأنها. وفكرة المؤتمر، على كل حال، لم تناقش مع أية دولة غربية أخرى.
يبدو أن الموقف السعودي متحفظ أصلاً على عقد هذا المؤتمر، لأنه لا يشمل القضايا الشرق الأوسطية الساخنة كافة، ولا يرتكز على مقررات قمة بيروت للعام 2002 وشروطها للسلام العادل والشامل. وقد يدفع هذا الموقف بعض الدول العربية الأخرى إلى اعتماد الرأي ذاته.
إن الجانب الإسرائيلي الرسمي متردد حيال هذا المؤتمر، لأنه يعرف أن حاجته اليوم تتمثل بضرورة تدعيم بقائه في السلطة. وهو غير مستعد «لمنح» الجانب الفلسطيني أي مكسب يزيد في إحراجه. وهو يعتقد أيضاً ان الجهة الفلسطينية المفاوضة غير قادرة على تقديم أي تنازل تستطيع حمايته. وقد يناسب اسرائيل اليوم تدويم الانقسام الفلسطيني الى ضفة فتح وغزة حماس. وتبدو إسرائيل مستعدة للتعامل مع الأولى بوعود ماكرة ومع الثانية بإجراءات زاجرة.
وعلى الرغم من هذه الظروف والتحفظات، فان احتمالات عقد هذا الاجتماع الدولي لا تزال قائمة. كما ان الادارة الاميركية حريصة على عقده بقدر ما يوفر لها من مردود سياسي يمكن توظيفه في الداخل الانتخابي الأميركي كما يمكن توظيفه في الخارج العربي أيضا.
واذا كان الاصرار الأميركي قوياً باتجاه عقد هذا الاجتماع فان الدول العربية المترددة قد تتخلى عن مواقفها المتحفظة الأولى وتضطر الى حضوره. أما الشروط الفلسطينية في تحديد «أجندا» واضحة للاجتماع، والاتفاق المسبق على المهل المتعلقة به، والحلول النهائية التي يسفر عنها... الخ، فقد لا تصمد كثيراً لدى السلطة الفلسطينية التي تدفعها الأحداث الفلسطينية ذاتها إلى حضور المؤتمر وتحصيل ما يمكن تحصيله منه.
ولكن المنظور الإسرائيلي للمؤتمر يحمل معه شروطاً صعبة قد لا تتمكن السلطة الفلسطينية من الموافقة عليها. وهي غير قادرة أصلاً على حمايتها. ومن هذه الشروط الصعبة:
واحترام التعهدات التي تطلب منهم في مجال مكافحة الإرهاب.
والتزام التوقف النهائي عن الهجمات الصاروخية ضد إسرائيل.
أما مسألة الدولة الفلسطينية التي أطلق الرئيس بوش «رؤيته» بصددها منذ مطلع هذا القرن فلا يبدو أن الجانب الاسرائيلي مستعد الآن الى رسم أي من ملامحها الأولى في سياق هذا الاجتماع الدولي. وبالتالي فان مسألة تقرير المصير للشعب الفلسطيني تخضع للكثير من الشروط وتواجه بالكثير من التحديات.
هذا في الاطار السياسي العام، أما في اطار القانون الدولي فان هذه العناوين الثلاثة (أي حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية) ليست بحاجة إلى اعتراف أي فريق مفاوض، ولا هي خاضعة لأية شروط مضادة أو مفروضة. انها من الأمور الواضحة وغير القابلة للنقاش ولا لأي تحفظ. من هنا تكمن أهمية هذا الموضوع عشية انعقاد الاجتماع الدولي للسلام، إذا انعقد فعلاً. وسيتوزع البحث، بالتالي، على ثلاثة أجزاء: حق العودة، وتقرير المصير، ومسألة الدولة الفلسطينية.
الجزء الأول
حق العودة غير قابل للتصرف
1 لعل أهمية الأحكام الدولية في إقرار حق العودة تتمثل في تركيز هذه الأحكام على إنسانية هذا الحق للفرد بحيث لا يجوز حرمانه منه أسوة بالحقوق الإنسانية الأصلية الأخرى كحقه في الصحة والتعليم والعمل والتملك وما شابهها. ولهذا السبب ورد التأكيد على حق العودة في كافة التشريعات الدولية الأخرى وكذلك في تشريعات المنظمات الإقليمية. فحق الشخص في التنقل ببلده ومغادرته والعودة إليه ورد في المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 12 في الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية والمادة 5 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
واللافت ان الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت في 11/12/1948 القرار الرقم 194 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى بيوتهم. وكان هذا القرار متزامناً مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان. ولكن القرار 194 يتميز، فضلاً عن ذلك ب:
أ انه (أي القرار) صدر على أثر تقرير مبعوث الأممالمتحدة آنذاك الكونت برنادوت الذي أكد على أحقية الفلسطينيين (كشعب) بالعودة الى ديارهم التي اضطروا الى مغادرتها قسراً. فالقرار اذن لا يتحدث عن حق فردي وحسب وإنما عن شعب طُرد وشُرّد.
ب ان القرار 194 ينطبق، بشكل عام، على الفلسطينيين كافة الذين اضطروا الى مغادرة ديارهم والعودة، من ثم، الى بيوتهم semoH بصرف النظر عما إذا كانت هذه البيوت في الدولة الإسرائيلية الراهنة او في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة منذ العام .1967
ج إن القرار 194 قد أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عشرات المرات، والواقع أن الاجتهاد الدولي يعتبر أن القرارات التي تصدرها الجمعية العامة وتؤكد على مضمونها، تكراراً، وبأكثرية كبيرة، تصبح ملزمة قانوناً لأنها تعكس رأياً عاماً دولياً ومستقراً لهذه الجهة.
د والقرار 194 كان أحد شرطين فرضتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة على اسرائيل لقبولها في عضوية الأممالمتحدة في العام .1949 فالواقع ان مجلس الأمن الدولي اكتفى حينذاك بتقديم توصية الى الجمعية بقبول اسرائيل لأنها، في رأيه، دولة محبة للسلام etatS gnivoL ecaeP انسجاماً في ذلك مع شروط المادة الرابعة من ميثاق الأممالمتحدة. ولكن الجمعية العامة طالبت اسرائيل بأن تتعهد بقبول القرار 181/1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين الى دولتين يهودية وعربية، والقرار 194/1948 الذي قضى بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى بيوتهم.
وبذلك يتضح ان القرار 194 ملزم، بالدرجة الأولى، لاسرائيل التي قدمت تعهداً بقبوله. وهو على كل حال ملز م دولياً. وبذلك يتضح ايضاً ان اسرائيل مسؤولة أمام الرأي العام العالمي في قبول القرار وتنفيذه وليس فقط أمام الشعب الفلسطيني.
2 واستناداً لما تقدم اتخذت الجمعية العامة عشرات القرارات التي أكدت فيها على القرار 194 ولا سيما حق العودة الى ان قامت، مع نهاية الستينيات من القرن الماضي، بتطوير هذا الحق وجعله غير قابل للتصرف.
فالحق الانساني يكون غير قابل للتصرف elbaneilanI عندما يلاصق الوجود الإنساني ذاته. فهو الحق الملازم للكرامة الإنسانية وبالتالي فهو لا يحتاج إلى اعتراف الآخر ولا يخضع لأي تصرف أو أي تبديل او تعديل حتى من قبل صاحبه. وهو حق غير محصور بفئة محددة من الناس خلال فترة محددة من الزمن. انه حق الإنسان الشعب في أجياله وليس مجرد حق الإنسان الفرد في أحواله. ولذلك لا يمكن أن يخضع لأي مجال في المساومة او المقايضة او أي نوع آخر من أنواع التصرف. ولذلك أيضاً لا يجوز ان يكون متساوياً، في مرتبته القانونية، مع أي حق تعاقدي آخر كالتعويض.
وكان للجمعية العامة للأمم المتحدة إسهام كبير في تصنيف بعض الحقوق الإنسانية على أنها غير قابلة للتصرف. وقد بدأ هذا الإسهام مع العام 1960 بشكل واضح. ففي ذلك العام أصدرت الجمعية العامة القرار الرقم 1514 (في 14/12/1960) حول «إعلان منح الاستقلال للشعوب والبلدان المستعمرة» وأكدت: «ان للشعوب حقاً غير قابل للتصرف لاستكمال حريتها وممارسة سيادتها ووحدتها الإقليمية». والمعروف أن هذا القرار يشكل اليوم مصدراً مرموقاً من مصادر القانون الدولي.
وثابرت الجمعية العامة على هذا المنوال من الإسهام المميز فأصدرت قرارها الرقم 2535 في 10/12/1969 وأكدت فيه: «أن مشكلة اللاجئين العرب الفلسطينيين ناشئة عن إنكار حقوقهم غير القابلة للتصرف». وقد استقر الرأي الدولي منذ ذلك العام وبواسطة الجمعية العامة ذاتها على ان هذه الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني تشمل «الحق في العودة، وتقرير المصير، والاستقلال، والمحافظة على الوحدة والهوية الوطنية، والاستفادة من فرض السلام».
كذلك أكدت الجمعية العامة في قرار لاحق فسرت بموجبه بنداً أساسياً من بنود القرار 242 وأعلنت «أن الاحترام التام لحقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف، هو عنصر لا غنى عنه في إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط». أما القرار الرقم 3263 الذي صدر عن الجمعية العامة في 22/11/1974 فكان واضحاً وجريئاً في آن، حيث ورد أن الجمعية العامة: «تؤكد من جديد حق الفلسطينيين، غير القابل للتصرف في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شُردوا منها وتطالب بإعادتهم».
وبذلك يتضح: ان حق العودة يسمو، في مرتبته القانونية، على أي حق تعاقدي آخر. ولذلك فهو غير خاضع لارادة فرد ولا لقرار سلطة. وهذا الحق غير قابل للإلغاء أيضاً ولا للتبديل ولا للتعديل.
أما إذا كانت الاشارة العامة الى القرار 194 من دون التأكيد على «حق العودة» بذاته فإن الاحتمال هنا يمكن ان يذهب الى التعويض بدلاً من العودة. ولعل الحكمة هنا من اعتباره غير قابل للتصرف تتمثل في عدم احتمال أي تبديل من هذا الحق ذاته ولا أي مجال للتصرف فيه تنازلا او تبادلا.
3 وعلى الرغم من هذا التوصيف القانوني الذي يهدف الى عصمة حق العودة وصدقيته وسموه فإنه يواجه عدداً من التحديات المتمثلة ب: ÷ المساعي الاسرائيلية المتواصلة منذ تقديم التعهد الاسرائيلي ذاته باحترام هذا الحق. ولذلك يمكن اعتبار «قانون العودة» 1950 الإسرائيلي الانتهاك الأول لحق العودة. وقد تكررت هذه المساعي وتراكمت حتى باتت تشكل التزاماً إسرائيلياً ثابتاً. وتجدر الإشارة هنا ان موافقة الحكومة الاسرائيلية على «خريطة الطريق» جاءت مقترنة بقرارها إلغاء حق العودة للفلسطينيين بشكل قاطع ونهائي.
÷ كذلك فان اللجنة الدولية المنبثقة من صيغة مدريد للعام 1991 أعلنت هدفها في تأهيل الفلسطينيين وتحسين أوضاعهم من دون اية اشارة، ولو عابرة، الى التزامها حق العودة.
÷ ولعل القرار 237/1967 بدأ يميز بين اللاجئين (1948) والنازحين (1967). وكانت إسرائيل أولى الجهات التي عملت على هذا التمييز بحيث قبلت بالتفاوض المحدود حول مسألة النازحين تحت عنوان «جمع شمل العائلات» وليس حق العودة، ورفضت التفاوض حول اللاجئين للعام .1948 ÷ ولعل «وثيقة جنيف» للعام 2003 كانت الأكثر وضوحاً في مسألة توزيع اللاجئين وإنكار او تضييع حق العودة. ومع ان هذه الوثيقة غير ملزمة لغاية الساعة، ولكنها قد تشكل اتجاهاً يخشى من اعتماده في المستقبل. هذا مع التأكيد أن هذه الوثيقة، حتى اذا اعتمدت، لا ترتقي الى مستوى الأحكام والقرارات الدولية الآنفة الذكر. وكانت هذه الوثيقة قد اقترحت توزيع اللاجئين على الدولة الفلسطينية العتيدة، والدول المضيفة، ودول الطرف الثالث، وإسرائيل. هذا بالإضافة الى بنود أخرى خطيرة وردت فيها.
والآن، يخشى أن يستدرج الفريق الفلسطيني المفاوض الى التسليم بنوع من أنواع التملص من حق العودة. علما ان الشروط (الأميركية والاسرائيلية) المسبقة تسعى الى العمل على أي إجراء او تعويض آخر يحل محل حق العودة وآثاره كافة.
ومع ذلك، يبقى المهم في الأمر أن حق العودة الملحوظ في النصوص الدولية يساهم في إحقاق الحق الفلسطيني من جهة وإرساء الاستقرار العالمي من جهة أخرى.