الأميركيون باتوا تحت ضغوط مادية ونفسية عاطف الغمري بقيت أيام، ويختار الأميركيون الساكن القادم للبيت الأبيض، يختارونه وهم تحت ضغوط مادية ونفسية، صنعتها أزمة اقتصادية عاتية، تشكل مع السياسة الخارجية، قضيتين يتساوي أثر مانتج عن كل منهما من هموم للمواطن الأميركي، بحيث سيؤثر موقف كل من أوباما وماكين من القضيتين، في اختيار أحدهما رئيسا لأميركا. فأميركا تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير عام 1929، وفي ناحية السياسة الخارجية، ينتظر الرئيس المقبل أصعب ميراث منذ تولي نيكسون الحكم عام 1968، فأمامه حربان بلا نهاية منظورة في أفغانستان والعراق، ومواجهة مشحونة بالتوتر مع إيران، وعلاقات انسحب منها دفئها الذي لم يستمر طويلا مع روسيا، ومخاوف من صعود الصين اقتصاديا وسياسيا كقوة عالمية منافسة، وهبوط في مصداقية ومكانة أميركا في العالم. وفي انتظار من سيقع عليه الاختيار، تكتسب المؤشرات التي تحدد ملامح سياسة كل منهما لو أصبح رئيسا، أهميتها، خصوصا وقد اتفقت آراء النخبة من الأميركيين القريبين من إدارة المعركة الانتخابية، على أن من سيفوز هو الأكثر تفهما لهموم المواطن العادي، ومن يظهر قدرته على الوقوف معه. أما بالنسبة لقضية السياسة الخارجية، ومواقف كل منهما، فإن ماكين يظل أقرب إلى التيار المحافظ التقليدي في الحزب الجمهوري، والذي ينتمي إليه، والذي يميل إلى مفهوم الهيمنة الأميركية، مستندا في تصوره إلى ما تملكه أميركا من قوة. وحتي من قبل مجيء المحافظين الجدد إلى الحكم مع بوش عام 2001 وهو ليس منهم فقد كان ماكين من أنصار تغيير الأنظمة في الدول الأخرى، حسب ما يحقق مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. بينما أوباما والذي يوصف بأنه لا يتصرف بنوازع أيديولوجية، بل طبقا لتفكيره الواقعي، فهو قد سعي لاستيعاب التحولات العالمية والتي ينبغي ألا تتجاهلها بلاده في علاقاتها بالعالم ودورها فيه. وأوباما حريص على إعادة تحسين علاقات أميركا بدول العالم، واستعادة الروابط القديمة مع الحلفاء، وأولوية الدبلوماسية في حل المشكلات، والعمل من خلال الأممالمتحدة والمؤسسات الدولية، وقد تعهد بمفاوضات غير مشروطة مع إيران، وانسحاب تدريجي للقوات الأميركية من العراق. بينما ماكين مازال متشددا تجاه إيرانوروسيا، وهو يؤيد استخدام القوة لو فشلت الدبلوماسية في الحد من مشروع إيران النووي، وفي العلاقات مع المؤسسات الدولية، فقد طرح ماكين أثناء الحملة الانتخابية، مشروعه لإنشاء «رابطة الدول الديمقراطية»، لتكون بديلا عن الأممالمتحدة، في تصريف أمور الحرب والسلام ، أو كمنظمة موازية لها. إذا كانت هناك خلافات بين الاثنين، فهل من أوجه اتفاق بينهما ؟. إن تأمل موقف كل منهما من العراق، يظهر فجوة كبيرة وواسعة، فأوباما أعلن أنه سيجري انسحابا تدريجيا للقوات الأميركية خلال ستة أشهر من حكمه، بينما قال ماكين إنه يؤيد بقاء القوات في العراق حتي ولو لمائة سنة. لكن قرارا كهذا لن يتم بهذه الطريقة، فأي منهما سواء كان هذا أو ذاك، لن يتسرع باتخاذ موقف، إلا بناء على تقارير وتقييم القيادات العسكرية في البنتاغون، والنظر إلى هذا الموضوع في إطار شكل ووضع وأهداف أميركا في الشرق الأوسط بكامله، وعلى ضوء معلومات قد لا تكون متاحة له حتي الآن، إلا حين يكون هو الرئيس والقائد الأعلي. ثم إن الشواهد تشير إلى استمرارية الوجود العسكري، بمقتضي المعاهدة الأمنية التي يجري التفاوض على صياغتها بين الحكومتين الأميركية والعراقية، وعلى أساس اتفاق بين العسكريين في البنتاغون على الاحتفاظ بخمس قواعد عسكرية كبري ودائمة داخل العراق، لا يقتصر عملها على المحيط المحلي، بل سيكون لها دور إقليمي ومهام تمتد إقليميا إلى القرن الإفريقي. ومعني ذلك أنه لو حدث انسحاب عسكري من العراق، فلن يكون في ذلك تصفية للوجود العسكري، بل انسحاب إلى القواعد داخل العراق. أما عن روسيا والصين فإن العلاقات مع كل منهما سوف تصعد إلى قائمة أولويات الرئيس المقبل، ويبدو أن اتجاهات المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية، ستكون لها الغلبة ، فأميركا ليست مهيأة في ظروف المشكلات المستعصية التي تشكل جبهات عديدة من حولها، للعودة إلى سنوات الحرب الباردة من جديد، وإذا كانت حكومة بوش قد فوجئت بعودة روسيا إلى تحدي سياسات أميركية، رأت روسيا أنها تلعب في فنائها الخارجي، في القوقاز، وفي دول أوروبا الشرقية المتاخمة لها، فإن في أميركا من صناع السياسة الخارجية، من يتفقون على أن روسيا، لم تكن لتظل مطأطئة الرأس طويلا، وسرعان ما تسترد وضعها العالمي، بعد أن تستعيد عافيتها التي تضحضحت إثر تفكك الاتحاد السوفياتي، وأن على أميركا أن تسلم بأن روسيا واحدة من أهم القوي الكبري والمؤثرة في العالم. ومهما كانت الاختلافات بين المرشحين للرئاسة، فأمامنا قاعدة ثابتة في السياسة الخارجية الأميركية تقول إن عوامل الاستمرارية أكثر وأقوي، من عوامل التغيير (مع الأخذ في الاعتبار أن ما جرى في عهد بوش لم يكن تغييرا أو استمرارية بل انقلابا في السياسة الأميركية). ثم إن أميركا دولة مؤسسات، يسمح فيها الدستور والنظام السياسي، لقوى اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وقوى ضغط، وجماعات مصالح، بأن تلعب أدوارا ليست هينة، مما يجعل «الرئيس» في النهاية واحدا ضمن فريق لاعبين، وليس اللاعب الوحيد. صحيح إن في يده الميزان، لكن الميزان له كفتان، وقد ترجح في يده هذه الكفة أو تلك، حسب قوة ضغط ما يوضع في أي منهما من ثقل، وحسب وصف أحد المفكرين الأميركيين «نحن مجتمع الضغوط».. وعندئذ يكون القرار. عن صحيفة الوطن القطرية 28/10/2008