أميركا وتركيا.. السياسة بين المنطق والمقاصد ممدوح الشيخ تلاحقت الأحداث على خط التماس العراقي التركي أو بالأحرى التركي الكردي وأصبحت أميركا وجها لوجه أمام النتائج التي كانت من البداية تبدو مترتبة حتما على وجودها في العراق.
وقد توقعت مبكرا نشوب حرب تركية أميركية بسبب المشروع الأميركي في العراق فالسياسة ليست محكومة فقط بمقاصد السياسيين بل هي محكومة ربما بقدر أكبر بالمنطق الداخلي الذي يحكم مسار التطورات وثمة نتائج تترتب حتما على مقدماتها حتى لو كانت مقاصد من يخطط أو يتخذ القرار تتجه في اتجاها مغايرا.
وقد لفت النظر إلى هذه الحقيقة مؤرخ الفلسفة المصري الدكتور يوسف كرم الذي قال إن دراسته لتاريخ المذاهب الفلسفية أوصلته إلى قناعة بأن «منطق المذاهب أقوى من مقاصد صاحب المذهب»، وهو مبدأ يصدق أيضا على السياسة ومنطق المشروع الأميركي أقوى تأثيرا من مقاصد صانع القرار الأميركي لأنهم بإسقاط النظام العراقي عبروا بالفعل حسب التعبير الروماني الشهير نهر روبيكون!
خطوط حمراء.. بالدم
والمشروع الأميركي في العراق ولد محاطا بخطوط حمراء كثيرة معمدة بالدم فالعراق كان لعقود حجر الزاوية في حالة من الاضطراب عابرة لحدود الدولة وكان شماله مركز إعصار قومي كردي يضرب بأمواجه بدرجات متفاوتة إيران وسوريا وبالطبع تركيا.
ومع زوال النظام البعثي كان واضحا أن الولاياتالمتحدة سوف تستخدم الديمقراطية «رافعة» لمشروعها وهو ما يترتب عليه بالضرورة أخذ المطالب السياسية لمكونات الدولة العراقية في الاعتبار وفي مقدمتها المطالب الكردية التي هي في مجملها مشروعة وبذل للحصول عليها الكثير من الدم عبر عقود.
والولاياتالمتحدة صاحبة تراث غني في موضوع «السيناريوهات المستقبلية» وبالتالي ليس مستساغا من الناحية المنطقية تصور أنها لم تتوقع ردود الفعل التركية حتى أقصى حدودها على منح الأكراد درجة كبيرة من الحرية في التعبير عن هويتهم بمعناها الواسع وتأثير ذلك في استقرار الداخل التركي وبخاصة في الجنوب ذي الأغلبية الكردية.
وقد تتبعت هذا المسار المتصاعد من تعارض المصالح بين تركيا وأميركا عبر مقالات عديدة في «البيان» منذ وجهت تركيا رسالة رسمية للولايات الولاياتالمتحدة تحذر فيها من «فلسطين جديدة» إذا حصل الأكراد على حكم ذاتي أو فيدرالية، ومرورا بفشل الحليفين في الاتفاق على دخول قوات أميركية من تركيا في عملية إطاحة النظام العراقي وانتهاء باعتقال الأميركيين ضباطا أتراك في شمال العراق، فضلا عن أن الفترة السابقة شهدت علامات على مشاعر كراهية متصاعدة لأميركا انعكست في فيلم سينمائي وكتاب أحدثا ضجة كبيرة في تركيا.
كما أن الأميركيين استمعوا لحلفائهم الأتراك قبل إطاحة صدام ومضوا في مشروعهم رغم علمهم بمدى تعارضه مع التصور التركي للأمن القومي فإنهم يمارسون ضغوطا ملموسة لمنعهم من عبور «نهر روبيكون» العراقي.
فعندما أعطى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمواجهة المقاتلين الأكراد وضمن ذلك دخول شمال العراق وصفت الولاياتالمتحدة الخطوة التركية بأنها «ليست حلا».
وتحاول الولاياتالمتحدة الاستفادة من مسافة هي موجودة بالفعل بين موقف العسكر وموقف الحكومة فوزير الدفاع التركي أعلن مبكرا أن البرلمان يجب أن يفوض الجيش بالقيام بعملية توغل عسكرية واسعة النطاق في شمال العراق وتزعم أنقرة منذ فترة حق اللجوء لمثل هذه العمليات بموجب القانون الدولي باعتبارها دفاعا مشروعا عن النفس.
كما أن النقاش حول التطورات الأخيرة كشف أن هناك وجودا عسكريا تركيا محدودا في شمال العراق منذ سنوات باتفاق مع الأكراد. وبسبب التباين الجزئي بين الموقفين زادت الضغوط على حكومة أردوغان لاتخاذ إجراءات مشددة هي لا تريدها لكنها مضطرة لتبنيها لاعتبارات سياسية داخلية.
خذ واترك
وعلى الأرجح كان الأميركيون يدركون أنهم سيكونون عرضة للحظة اختيار بين «العراق» وبعض المصالح أو العلاقات في المنطقة وهم على الأرجح اختاروا العراق فلم يتراجعوا بسبب تنديد عربي أو تحذير تركي أو تهديد إيراني وهو أمر له دلالات شديدة الأهمية.
وعلى مستوى التكتيك يلوح الأميركيون بكل الأوراق في وجه الأتراك، وأخطرها أن تتورط تركيا في مستنقع يستنزفها اقتصاديا وعسكريا بل قد يهدد تماسها كدولة، فحسب جنرال أميركي فإن العراق سيتصدى عسكريا لتركيا «من المهم القول إن العراق بلد يتمتع بالسيادة.
وسيتعاطون بجدية مع سيادتهم ويدافعون عن أراضيهم»، وهو ما عبر عنه مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان، وتردد تصريحات هذا الجنرال صدى تصريحات نائب رئيس الوزراء العراقي برهم صالح الذي حذر من مغبة أي توغل تركي في شمال العراق الذي ستنجم عنه «عواقب خطيرة» على المنطقة.
بل إن الأميركيين أصبحوا يتحدثون بجدية عن بدائل بعد تهديد تركيا بوقف دعمها اللوجستي الفائق الأهمية للأميركيين إذ يمر عبر قاعدة انجرليك في جنوب تركيا، 70% من الطائرات و30% من المحروقات و95% من الآليات المدرعة الجديدة المرسلة إلى العراق، والبحث عن بدائل معناه أن أميركا ما زالت ترى أن نجاح مشروعها في العراق يستحق التفكير الجدي في التضحية ولو جزئيا بالحليف التركي.
المنطق والمقاصد
ومنطق المشروع الأميركي في العراق سيضع الأميركيين وجها لوجه أمام النخبة العسكرية التركية فالمخاطر التي تهدد وحدة تركيا حقيقية وهي مخاطر ليس مصدرها مؤامرة أميركية أو حتى مخطط أيا كانت قدرات أميركا كقوة عظمة بل مصدرها أن التناغم القومي في هذا الجزء من العالم يعاني مشكلات تفاقمت بسبب انتشار التشدد القومي.
فهناك سمة «بنيوية» مشتركة هي سيطرة قومية واحدة على مقومات الهوية في بلد متعدد القوميات، أحيانا يلعب التمايز المذهبي دور العامل المساعد في هذه الحالة أو تلك لكننا أما حالة صراع يراه أطرافه في الحد الأدنى صراع إرادة وفي الحد الأقصى صراع وجود وفي هذا الجزء المضطرب من العالم وضع الأميركيون أنفسهم وسيكون مستقبل مشروعهم مرهونا في المقام الأول بالمنطق لا بالمقاصد. عن صحيفة البيان الاماراتية 27/10/2007