بيئة دارفور: ضعف الطالب والمطلوب د. الصادق الفقيه استقر في عرف العالم الآن أن المشاكل والأزمات لا تحمل جوازات سفر، ومثلما تتعولم مظاهر الحياة كافة تجد أدواء الإنسان وأخطائه طريقها إلي النجومية والعالمية. وتخلق أوضاعاً يزدهر فيها عدم الاستقرار السياسي والحروب والصراعات. وتدفع العالم إلي دوامة انحدار خطرة، حيث يصبح النسيج الأساسي للمجتمعات والدول موضع شك وتتعمق الأخطاء السياسية وينمو التعصب ويتمدد التطرف. وتقول الحكمة إن التصدي لهذه التحديات يتطلب استراتيجية جماعية تشدد علي الوقاية بدلاً من القوة. ولتطوير مقاربة جديدة لمفهوم الصراع في دارفور، تنطلق من مرتكزات التنمية الإنسانية وحماية الموارد بدلاً من الاضطراب الاجتماعي والسياسي والأمني، لا بد من ترسيخ القناعة بأن احتقان السياسة ليس إلا أحد الأعراض لحالة من الاضطراب الاقتصادي والبيئي والاجتماعي التي تجتاح الإقليم، ومنها تزايد الفقر والتحولات العميقة في بني الاقتصاد، والتحركات السكانية، والكوارث الطبيعية، وتدهور الأنظمة البيئية، والتنافس علي الأرض والموارد خصوصاً المياه والكلأ. وأن هذه المشاكل لا يمكن حلها بالتمرد ونشر القوات، محلية كانت أو أممية، بل من خلال سياسات متكاملة لمعالجة أصول المشاكل التنموية. وهذه ليست حقائق جديدة تذاع لأول مرة، بل نشرت حولها عشرات المقالات والتقارير، التي تقدم عرضاً تقويمياً لحالة البيئة العامة، أو تحليلاً لبعض القطاعات الرئيسية في علاقة البيئة مع التنمية. ومثلت هذه التقارير مراجع معلومات مهمة لصناع القرار، ان كانوا يعتمدون المعلومات لا المزاج، في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية، قبل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وتقدم كثير من الدراسات رؤية شمولية للمتغيرات الحادثة في دارفور من وجهة نظر بيئية، تتضمن عناصر تغطي محاور السياسة والاقتصاد والبيئة والوضع الاجتماعي. وتعطي تعريفات متجددة لمصطلحات السياسة والسياسات الاقتصادية، وإعطائها طابعاً أكثر إنسانية، وربطها مع أولويات التنمية المستدامة في الإقليم. وتتحدي تعريف الحركات المسلحة لطبيعة الصراع، إذ تؤكد أن محور التنافس هو في حقيقة الأمر محور التحديات التنموية، وأهمها الفقر والمرض والتدهور البيئي. وتنبّه الي أن الحرب تحول انتباه الجميع عن الأسباب الجوهرية لعدم الاستقرار. فالأعمال العسكرية وردات الفعل الخطيرة التي تثيرها تدل علي وجود مصادر خفية لعدم استقرار دارفور، بما في ذلك تفاعل خطر بين التوتر الاجتماعي العرقي والتدهور البيئي وتزايد التنافس علي الأرض والموارد الأخري. وتشير ظاهرة نمو استهلاك الموارد المتاحة في الإقليم إلي حراك سكاني يتناسب عكسيا مع تدهور البيئة وقلة الموارد، خصوصاً الماء الذي هو المصدر الاستراتيجي الأهم بين كل الموارد الطبيعية في الإقليم، والذي أصبح سبباً رئيساً في الصراع المحلي. وفي المحصلة، نستنتج أن استغلال الموارد أدي دوراً في الحروب والنزاعات المسلحة التي حدثت في كل السنوات الماضية. وفي تسعينات القرن الماضي، أدت نزاعات متعلقة بالموارد إلي اشتباكات قبلية احتوتها آليات المصالحات الاجتماعية. وفي حقيقة مثيرة ذات دلالات سياسية واقتصادية هامة، فان دارفور عانت من نشوب نزاعات أهلية حديثة خلال الفترة الأخيرة أظهرت، إما ارتفاعاً في نسبة تمرد الشباب، أو ارتفاعاً في نسبة المطالب السياسية، أو نواقص في توافر الأراضي الزراعية أو المياه بالنسبة للزراع والرعاة الرحل. وتم من خلال هذه الحقيقة ايجاد رابط مباشر بين حالات تدهور الاقتصاد والبيئة وتزايد السكان في الإقليم من جهة، وتزايد نسبة الصراعات الأهلية المسلحة من جهة أخري، التي جعلت كل القطاعات تتآكل وتضعف حتي وقعت في دوامة التفكك والتصدع. وسهل جدا أن يقال إن الحل يكمن في توفر الموارد المالية لدفع عمليات التنمية. فلو ازداد الإنفاق علي التنمية، لأمكن إنقاذ دارفور. وهذا يتطلب دعماً مالياً من الخزينة العامة، أي نسبة ضئيلة جداً مما أنفقته الأطراف المتقاتلة في الإعداد العسكري والأمني. لأن مواجهة المشكلات من خلال زيادة الإنفاق العسكري والأمني لا يمكن أن يحقق مبتغاه، ما دام لا يوجد استثمار حقيقي في التنمية. وأن بعض الإجراءات التي تسببت في المزيد من التوتر والاضطراب والعنف، وإضعاف النسيج الاجتماعي، وأنظمة حقوق الإنسان والمعايير الأخلاقية لإدارة الصراع، زادت التركيز علي قضايا الأمن والعسكرة أكثر من التنمية. وبسبب هذا المناخ، ومما يزيد الأمور سوءاً أن الجهود التنموية في الإقليم تراجعت بشدة في السنوات الماضية، بسبب الصراع والإقتتال، الذي اندلع بحجة المطالبة بها. ويقدم النزوح الجماعي صورة واضحة عن الوضع السييء للتنمية في دارفور، وطغيان مفهوم الأمن العسكري والسياسي علي الأمن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ويعطي في الوقت نفسه صورة شاملة ورسالة إنذار لصناع القرار في الخرطوم وقادة الحركات المتمردة في دارفور، للتنبيه إلي الأسباب الحقيقية للاضطراب والصراع، الذي يمثله الفقر وضعف التنمية والتدهور البيئي. فتاريخ الصراع كان في جوهره تاريخاً رمزياً، نؤشر فيه للقبيلة، ولكن التطور الأخير هو ذروة سلسلة من الأحداث، والنكسات ،والأخطاء التقديرية والسياسية، والأحداث من الداخل والخارجية، التي أدت عبر تراكمها إلي اكتساح الواجهة المتحللة بصورة متفاقمة لعري العلاقات الاجتماعية، وللصمود المزعوم للعقد الاجتماعي، ولنظام الأجاويد، الذي كانت له قدرات سحرية في إطفاء الحرائق الاجتماعية وقتل نوازع العنف القبلي. غير أن النخب السياسية عجزت عن أن تتفهم بصورة كاملة المعني الحقيقي لصراع الموارد، وتراجع مصادر الثروات المحلية، وتدهور البيئة، وعجز الإدارات الأهلية المحلية في إدراك الأمر واستدراك الأخطاء، التي فاقمت من وتائره وتكاثف مطالبه. ونتيجة لهذا، فإن ما بدا واضحاً للغاية في فبراير 2003، لم يكن واضحاً علي الإطلاق بهذه الحدة قبلها، ففي 2003 كانت الفرصة الكامنة في التحرك قد وضحت بالنسبة للحركات المسلحة المتمردة علي السلطة المركزية، وذلك علي الرغم من أن ذلك العام كان عام بدايات السلام والتراضي والوفاق ووقف العدائيات في جنوب السودان، وتمظهر الآمال الكبار في نهاية الاقتتال واتفاق السلام الشامل. ولكن، وبعد نشوب أزمة دارفور، فإن استجابة الناس للتطورات السلمية صارت أقل وضوحاً، فلم يكن هناك رفض في شوارع المدن السودانية للحرب في دارفور، كما أن مظاهر الفرح لم تكن عارمة بالقدر الذي توقعه المراقبون. فقد برز التمرد في وقت خان كل التوقعات، إذ لم يكن واضحاً، رغم أنه لم يكن مفاجئاً علي نحو ما كانت حرب الجنوب، وإنما كان عملية حافلة بالفوضي وممتدة زمنياً وغارقة في المشكلات التنظيمية من حيث بداياتها، ومشوشة في برامجها، ومعقد وفادحة من حيث نتائجها، ومثيرة للجدل من حيث خسائرها، وغامضة وملتبسة في التعبير عن مطالبها. وساهم في هذا الغموض، الذي أحاط بأزمة دارفور والانشقاقات التي لا تتوقف، والتي أفقدت الحركات المسلحة الكثير من مصداقيتها، رغم أن أزمة دارفور والانشقاقات لم يكن من الممكن نسبتهما إلي سبب واحد، أو حتي تحديدها من الناحية الزمنية بصورة دقيقة. وقد حّمل الأمين العام للأمم المتّحدة، بان كي مون، التغييرات المناخية جزئياً تبعة أزمة دارفور حيث دفع القحط والجفاف بطرفي النزاع علي الإقتتال علي الكلأ ومصادر المياه. ومثل دارفور، أدّت ندرة المياه وقلّة الطعام إلي نشوب الحروب في الصّومال وساحل العاج. وقال كي مون، في مقال نشر في صحيفة واشنطن بوست : عندما تجري مناقشة ما يتم في إقليم دارفور، فإننا غالبا ما نرجع الأمر إلي أسباب سياسيّة وعسكريّة، إلا أنّنا إذا ما نظرنا إلي جذور المشكلة لوجدنا أنّ الأسباب أكثر تعقيدا من ذلك بكثير . وقد أظهرت العديد من الدّراسات أنّ معدّل سقوط الأمطار في دارفور انخفض خلال العقدين الماضيين، ويعود ذلك وفقا للتقارير إلي الأفعال البشرية علي سطح كوكب الأرض. ولا يقتصر تدهور بيئة الإقليم علي أفعال أهل دارفور والسودان وحدهم، وإنما كل البشر، وفي العالم المستقر المتقدم خاصة، الذين تجاوز استهلاكهم للموارد قدرة الطبيعة علي تعويضها، وأنهك حرصهم علي الحفاظ علي رفاهية عيشهم الأوزون واحتبس الحرارة وسخن الأرض، وتعولمت المصيبة بدرجة لم يعد بمقدور الضعفاء معالجتها أو احتمالها، فتصارعوا للنجاة منها بالموت، وإن تفننوا في تعداد أسبابه. والأمل أن تكون هذه الحقائق مجتمعة حاضرة في أذان الفرقاء، السودانيين الذين سيجتمعون في طرابلس بالجماهيرية الليبية، لأن للمشكلة جذور لا تعالجها مطالبات الحركات بالقسمة والوظائف وحدها، وان عظمت أريحية الحكومة والمجتمع الدولي في وعود العطاء السياسية. عن صحيفة الراية القطرية 24/10/2007