هل تدخل دارفور التاريخ العربي باعتبارها أول أزمة سياسية تصل برئيس عربي في السلطة إلى المحاكم، خصوصاً القضاء الدولي، أم تبقى في إطار الانهيارات السياسية التي تعانيها المنطقة العربية التي تلاقى فيها زلزال أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وانهيار الاتحاد السوفياتي (وتالياً مجمل النظام السياسي لما بعد الحرب العالمية الثانية) قبل أن تستوعب آثار انهيار الإمبراطورية العثمانية الإسلامية في مطلع القرن الماضي؟ ربما يطول الجدال حول هذه المسائل، لكن ثمة بُعد مهم تغفله النقاشات السياسية كثيراً، وهو أثر البيئة في الصراع الدامي في ذلك الإقليم. فمن الناحية السياسية، تبدو الأزمة الراهنة متصلة بتاريخ قديم من النزاع بين القبائل ترجع الى ما قبل الحقبة الإسلامية فيه، حين تمتع باستقلالية نسبية في ظل نظام ملكي محلي. وقلّصت السلطنة العثمانية كثيراً من استقلالية الإقليم قبل أن تخرج منه، ليلتحق بالسودان الواسع المساحة بعيد الحرب العالمية الأولى. يضرب شح المياه على الأعصاب المكشوفة للنزاعات الاثنية في الإقليم السوداني ومن الناحية الجغرافية، تقارب مساحة دارفور مساحة فرنسا، كما أن الإقليم يمتد على الحدود التي تفصل السودان عن ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. ويتمتع بثروات باطنية هائلة، تتضمن البترول واليورانيوم، ما يتناقض مع الضنك والجوع والشظف ومرارة العيش التي يعاني منها راهناً! وإذ تميل جملة من المواقع الإلكترونية للدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية في ذلك الإقليم كما تحاول تخفيف وطأة مآسي الجوع والعنصرية والحرب، للتشديد على صراع المصالح والقبائل والأعراق، فإنها لا تُغفل عن الإشارة الى أبعاد أخرى في ذلك الصراع. ولذا، تلح مواقع مثل «سيف دارفور.أورغ» savedarfur.org و»24أورز دارفور.أورغ» 24hoursfordarfur.org و «أيز أون دارفور. أورغ» eyesondarfur.org، على البُعد البيئي في أزمة الإقليم. وتورد هذه المواقع تقارير دولية كثيرة عن أثر البيئة في ذلك الصراع، ومنها تقرير صدر أخيراً عن «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» United Nations Environment Programme يُقَيِّمُ مدى تدهور البيئة الطبيعية في السودان وأثره على الصراع في إقليم دارفور. واستباقاً، يركز التقرير على فكرة مفادها أن جلب الاستثمارات المالية الضخمة لتوظيفها في إعادة التوازن للمصادر الطبيعية في هذه المنطقة، يعتبر أمراً أساسياً لحل الصراعات وتثبيت الأمن. ومن المستبعد أن يعرف السودان أمناً دائماً إذا استمر التدهور البيئي متسارعاً فيه، وإذا لم يوضع حد للانهيار البيئي في إطار خطة متكاملة للتنمية الشاملة، التي يجب أن لا تبقى أسيرة التمييز القبائلي والعنصري أيضاً. مسلسل تدهور البيئة الطبيعية يلاحظ التقرير الآنف الذكر أن العقود الأربعة الماضية شهدت تزايداً في تدهور البيئة الطبيعية، خصوصاً تلف الأراضي الفلاحية والتصحر وزحف الرمال بمعدل 100 كم في بلد يعد أكبر بلد أفريقي مساحة. ويرجع ذلك التدهور الى أسباب طبيعية متعددة، منها الانفجار الديموغرافي حيث يتزايد السكان في السودان عموماً بنسبة تبلغ حوالى 2.8 في المئة، مع ملاحظة أن عدد سكان السودان يُقدّر بنحو 40 مليون نسمة. ويضاف الى العنصر السكاني الاستغلال الرعوي الكثيف بسبب عدد الماشية الذي انتقل من 29 مليون رأس عام 1961 إلى 135 مليوناً عام 2004، ما يُشكّل ضغطاً كبيراً على الموارد الطبيعية المحدودة، خصوصاً بالنسبة الى العشب والأشجار والمياه. ويضاف الى ذلك، الاحتطاب الجائر الذي يأتي من احتياج السكان لخشب الأشجار في التدفئة. وأدّت عوامل الضغط هذه إلى تآكل في الموارد الطبيعية، فبرزت ظاهرة تعرية الغابات، إذ فقدت منطقة دارفور ثلث غطائها الأخضر بين 1973 و2006. ويُشير التقرير إلى أن الحطب يشكل أحد الوجوه الحادة للمشاكل السياسية بين شمال السودان وجنوبه، خصوصاً في دارفور. إذ تحتاج الأعداد المتزايدة من السكان الى حطب أكثر، ما يؤدي إلى نقص الغابات المترافق مع ضرب الحياة اليومية للسكان الذين يعيشون في الغابات ويقتاتون من مواردها. ويتصل ذلك مع عيش مُزْرٍ للسكان يدفعهم للهجرة التي تُنقص من الأيدي العاملة، فتنخفض القدرة على تجديد الموارد الطبيعية ويزداد النقص بصورة مطّردة. وهكذا يرتسم تدهور البيئة في هيئة حلقة مفرغة تتسم بانحدار مستمر للحياة اليومية في مناحيها كافة. وعلى رغم الجهود المبذولة لوضع حد لهذا الصراع الطويل في المنطقة التي لم تعرف سوى عشر سنوات من السلْم بين 1972 و1983، فإن ظروف العوامل الطبيعية بلغت مستوى عالياً من التدهور. ودفعت هذه الحال المزرية آشم ستاينر المدير التنفيذي ل «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» لتصدير التقرير المُشار إليه بالعبارات الآتية «يقدم التقرير صورة عن أهمية العوامل المتعددة في مأساة السودان... هذه المأساة التي تجري منذ عقود وتؤثر في مصير ملايين الأشخاص... إن الطريقة التي سيعود بها الاعتبار للبيئة الطبيعية في السودان سيكون له الأثر الحاسم في الحفاظ على أمن المنطقة». ويتابع التقرير وصف واقع الحال في دارفور بالإشارة الى أن الحساسيات القبلية والاثنية متوترة وقديمة، ويكفي ان تتدهور البيئة الطبيعية لتشتعل نار الصراعات بين القبائل والتجمعات السكانية التي تعيش في الإقليم. وإضافة إلى الخراب الطبيعي، تبرز المأساة الإنسانية في هجرة 2.2 مليون شخص من دارفور، مع ملاحظة أن إجمالي عدد اللاجئين في السودان يقدر بحوالى 5 ملايين شخص. وغني عن القول أن الأرض التي يهجرها أصحابها لا تلاقي أيدي تعتني بها وتعمل على تجديد مصادرها. ومن الناحية الأخرى يستعمل اللاجئون الأخشاب بكثافة نظراً الى بدائية عيشهم، إذ يستخدمونها للطبخ والتدفئة وبناء بيوت عشوائية من الأجر والطين. واعْتُبِرَتْ عودة اللاجئين الى أراضيهم هدفاً حميداً، بحسب دراسات الأممالمتحدة، لكنها تُعَدُ مستحيلة في بعض الحالات بسبب التدهور المتقدم الذي يضرب الأراضي المهجورة. وتقع أكثر الأراضي تضرراً في شمال دارفور وشرقه، إضافة الى جنوب كردفان وكسلا الشرقية وشمال النيل الأزرق وشمال النيل الأعلى وشمال ولاية يونيتي. وثمة خطر بيئي كامن في الآتي من الأيام. ومع تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري (مع توقع ارتفاع حرارة الأرض بمعدل يتراوح بين 0.5 و 1.5 بين 2030 و 2060)، من المنتظر أن تنخفض نسبة هطول الأمطار بمعدل 5 %، ما يترافق مع انخفاض المحاصيل الزراعية في إقليم دارفور بمعدل قد يصل الى نحو 20 %. وأخيراً، تُقدّر الأممالمتحدة، إضافة الى مجموعة من المنظمات العالمية المهتمة بالبيئة، التكلفة المترتبة على تطبيق برنامج متوازن لتجديد المصادر البيئية في دارفور، بقرابة 120 مليون$، خلال فترة تتراوح بين 3 و5 سنوات.