سيدتى الجميلة ، أيتها الأميرة ، يانبع الروح ، ومرفأ الراحة ، لقد التقيتك يوماً ، فى مكانٍ ما ، على شاطئ الحلم ، أنتِ جارة الروح ، ورفيقة الفؤاد الجريح ، فمتى أستريح لأروِّح عن روحكِ جُرْحَ الأيام والسنين ..
عشت فى عزلةٍ عن الوقت ، لم يدركنى الناقوس ، وأدركت غرامك فى منتصف القلب .. لقد سرت بجزيرة فراتك عشر سنوات ، ومررت بقرية روحك الخضراء عشر سنوات ، وقرأت فى سفر محبتك عشر سنوات ، وظللت أشتهيكِ إلى آخر العمر ..
أنتِ زهرة عبادى ، وياقوتة أحلامى ، وزمردة صدرى ... روحى أصبحت أسيرتك منذ رأتك فى فندق البحر ، فكنتِ الهدير ، وكنتُ الذى يحرث الهدير فى صحراء الحب ..
لقد عشنا على قارعة الدهشة أعواماً ، فقضمتُ تفاحتكِ ، وفرَطْتُ رمانك وضممتكِ إلى صدرى ورحت أجوح وأمرمغ الروح ، وأجرح عَرَقَ الخدين وأنتظر .
ربما كانت لانتظارى أسباب عديدة ، ولربما سرتُ فى طريقٍ خطأ ، فما كان لى أن أجعلكِ تعيشين خطأين معى ، وأنتِ التى ذاقت من أجلى كل الأخطاء ، فيا أميرتى : لستُ العندليب الذى يصدح لكِ ؛ وان كان قلبى ينبض باسمك كل صباحٍ ومساء ..
لقد سرت على حوافِ غُرْدَكِ ، فما غَرَّدتُ وما بللتُ ، لكننى كنت كالعصفور الذى بلله القطر ، وما هذا القطر إلا القرب منك أيتها الأميرة الجميلة ابنة الجنوب السعيد ..
سأقول لكِ :
لقد عرفت شمالياً أحب جنوبية فتغير قطب الكون ، فكان الشمال فى الجنوب ، والجنوب باتجاه الشمال ، ومع كل هذا الانجذاب نحو مركز القطبين إلا أن كل حسابات الكون كانت تؤكد بألا يلتقى المتوازيان ، لكننى استطعت أن أغير منطق الحساب الكونى فالتقى المتوازيان إلا أن اللقاء كان كوميض البرق حيث التقى العاشقان عند النقطة الفاصلة بين السماء والأرض ، وبين الجزر والمدّ ..
آهِ يازيتونة الحياة ، وقرنفلة العالم التى يضوع أريجها بين خلجان روحى السابحة فى سفينة حبكِ الراسية فى قلب صحراء الدهشة ، أراكِ تقفين وحيدة ، تصارعين عَنَتْ الجبال ، وقيظ الهجير .. هل تذكر عيونك يوم أن طفت بهما ثلاث مرات ثم توقفت عند شفتيك .. يومها ارتجف الزمرد من فوق كرزك المعطر بالقرنفل .. لكننى لم أُقَدّم الزاد ، وظللتِ جوعانة طوال أعوام مرت ، ألا زلتِ تذكرين الثالث من مايو ، والرابع عشر من شهر أغسطس عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين ؟!
ياله من عام للحزن على مدينتنا ، لقد كانت " العريش " التى تسكن فى حضن سيناء تعيش حالة من الفزع ، يومها ولدتنى أمى فى عام الفزع الرهيب ..
لقد كانت جثث الشهداء تعطر المروج ، بينما كانت " يهوديت " تلك الشقراء الاسرائيلية تهمس لحبيبها : لقد تحقق الحلم " ياعزرا " ، سنتزوج فى المساء عند شاطئ البحر ، لقد دخلنا سيناء ، وغداً ندخل مصر ونشرب من النهر الخالد..أتعلمين يا حبيبتى كيف كان منظر حفل عرسهما ؟!
لقد سمع أبى همسهما فقرر أن يبارك فرحهما الأبدى .. لقد ذهب هناك وعند الموعد المنتظر أخرج مدفعه الذى عثر عليه من مخلفات جيشنا الذى تقهقر ثم صوبه نحو العريس ، لقد انطلقت الرصاصات كزغاريد تهلل فى جوف الليل ؛ فسقط الغازى دون أن يكتمل حلمه ، وما كان أبى يتركه ليدخل مصر ويقبض على شريانها النيلى المقدس .
إنهم الرجال الذين صنعوا البطولات وما كانوا ارهابيين كما وصفتهم صحف اسرائيل صباح اليوم التالى للعرس الذى لم يكتمل ، لقد كانوا يغوصون فى وطنيتهم حتى النخاع فكانت بهم الأرض ، فظل ثراها معبقاً برائحة الوطن ، ستقولين ما الذى دفع والدك لقتل الفرحة فى قلب يهوديت؟
سأقول ببساطة شديدة : لقد اطفأوا الشموع داخل الوطن ، قتلوا الأطفال ، وبقروا بطون النساء ، وذبحوا الفتيان ، وَجَزّوا البراءة فى عيون الفتيات ، فلا أقَلّ من أن نخمد شهيق فرحتهما بزفير الأسرى الذين أحرقوهم فى المذابح الجماعية ..
إن هتلر النازى ياحبيبتى لم يفعل مثلما فعل الصهاينة فى أرض العرب .. لا عليكِ من كل ذلك ياحبيبتى ، سيتهموننى حتما بعدائى للسامية ، وهم لا يعلمون بأننا نحن الأصل من جنس " سام بن نوح “ ، وما يهود الأمس مثل صهاينة اليوم ، ومع كُلٍّ فهم يهود نالوا غضب الرب وتفرقوا فى شعاب الدنيا بعد أن كانوا شعب الله المختار .
إن بروتوكولات الحب التى أحملها لك ياحبيبتى ليست كبروتوكولات صهيون التى تقطر الكراهة لكل ما هو عربى ، لذا سأكتب لكِ سفراً من أضلاع روحى ، سأخط حروفه بدمائى فلربما اغتالنى " الموساد " ، وربما ختطفونى ليطوقوننى حتى الموت ..
أنتِ لست مثلهم بالطبع ، كنت ستطوقى عنقى بسوار الياسمين وبأقراطٍ من محبتك المعقوفة على جدران روحى أما هم فإن طوقهم يريد أن يطال العنق والأنفاس والروح لكى لا أعشقك ، لذا سأقاومهم لأدافع عن عشقى لك ، ولن أجعلهم يخمدون القلب الذى يخفت بحبك كل حين ، وإلى الأبد ... سأقص عليك يا حبيبتى قصة البدوية التى أتعبها العشق فغدت تقرض الشعر سلسلاً : لقد كانت سلمى تنتظر كل صباح مجئ سالم الذى قبض عليه الصهاينة أثناء قيامه بعملية فدائية ، لذا كانت كل يوم تفرش مناديل روحها على رمال سيناء وتظل تنوح فتنهمر قطرات الدمع فوق منديلها الأبيض حتى تبلل كل حواف المنديل ، أتعلمى ياحبيبتى ماذا كانت سلمى تفعل بمنديل حبها ؟!
لقد كانت تلفه ، وتضعه داخل صدرها ثم تضع يدها الصغيرة فوق الصدر الطافح بالعشق ثم تظل تلهج قائلة :
يا قلب وايش متعبك يا قلب وايش شاقيك
يا قلب اللى سقى عود الفنا يسقيك
إنه الحب ياحبيبتى الذى يسير فى الشرايين مكان الدماء المحتجزة رهبة بهذا الفيض النورانى العظيم .
لقد عاشت سلمى يا أميرتى تنتظر حبيبها مثلما تنتظرين تماماً ، ومع أننى لست فى سجن يافا أو بئر السبع أو غيرها من السجون التى صنعوها ليمنعوا الحب عن القلوب إلا أننى كنت مسجوناً فى سجنٍٍ آخرٍ ، سجن اسمه تأنيب الضمير ..
لقد أتعبتُ الأميرة سنيناً ، وجثوت على مرمرها أعواماً ، فظلت الأميرة حبيسة قصرها تنتظر مجئ الفارس الذى لا يجئ ..
لقد أحبت الأميرة لصاً سرق قلبها وغاب به بين الجبال والسهول ، لذا هى تتلهى بالنهار حتى يجئ الليل ، وتتلهى بالليل حتى يجئ النهار وهكذا دواليك ، واللص لا يزل بأنانيةٍ يخفى قلبها البرئ بين ضلوعه ..
لقد أحبها ، لكنه لم يقدم خطوة تقربها منه ؛ لقد كان يقول فى نفسه : لص بغداد ليس مثلى ؛ فأنا الذى سرقت السهد من عين حبيبتى ، بينما الآخر سرق الغذاء ليسد أفواه الجوعى والحطابين فى الجبال ، ومع كُلٍّ لم أعتبر نفسى مثله فالبون شاسع ، والهدف بعيد المنال بعيد ..
تقولين بأن القطة أحبت كلباً لأنه كان يريد الجسد ، ولا يفهم أن افتتاحية بنتٍ جنوبيةٍ تبدأ بقبلة ، وأنا أقول بأن القطة ظلمت القط إذ كانت مخالبه قد هيضت كالصقر ذا الجناح المهيض ..
لقد ناحت الورقاء على الصقر الذى كان يناظر قمم الجبال ويطير فى زهوٍ وافتخار ، أما اليوم فياحزن الورقاء على ابن عمها ذا الجناح المكسور ..
إن الناى المكسور لا يصنع عزفاً ، والموسيقا قد تجئ مع صوت الشلال ، لكنها لا تجئ مطلقاً من بين ثنايا القلب جروح ..
قد يعزف القلب شجناً ، لكنه لن يشجى قلب المحبوب ، فلا السماء التى تسقط الشهب بمثل التى تتزين بالقمر والنجوم
إن دموع العين أهرقتها وأنا أجلس قبالتك عند شاطئك السعيد ، فلأىٍّ سوف أذهب ، ولأىِّ سوف أنتسبُ ؟!
لقد مرت الساعات والأيام والشهور والسنوات وأنتِ تنتظرين فى مكان ما على شاطئ الأحلام ، توزعين خبز المحبة للعشاق وتتوقين لكسرة من خبز حبيبك الذى لا يجئ .
هل تعلم حبيبتى بأننى أخفيت عنها الخبز متعمداً ؛ إذ خبزى مرار ، وأنا لا أريدك أن تأكلى إلا من قطر الشهد ، فيا زيتونة الروح صُبِّى قرنفلك العذب فى قارورة روحى لأعيش بكِ إلى الأبد ..
ستقولين : وماذا عنى ، عن حبيبتك التى عاشت تنتظرك طوال هذه السنوات ؟!
هل أصمتُ لتتأكد بأن القطة قد أحبت كلباً ، أم أكشف لها عن مخبوء حياتى ؟!
لقد قلتُ لها بأن الصقر مهيض ، وبأن البحر لايُخْرجُ الزبد للشاطئ ، وبأن السماء قد أجدبت ، وبأن الأرض لم تعد تنبتُ إلا الحنظل ، وبأن خبزىَ مُرّ ، وعسلى قد أهرق على طريق العمر ، وبأن ماء القلب قد أريق كَدَمىّ الذى انسال على جدران السأم ، أم هل أقول لها بأننى الحى الميت والميت الحى ، فهل نطق الأموات ، وماذا عساهم يقولون؟!
ستقول : لاتراوغ ، وتتعب روحى أكثر من ذلك ، لقد أصبحت هشة فى ملتقى الريح ، أصبحت رماداً فى قارعة
الطريق وأريدك أن تذر الرماد حتى فى الهواء .
سأقول : ياليتنى أقدر أن أكون ذرة فى رمادك وأحتضن رمضاءك وآخذك بعيداً بعيداً !!
لقد كانت لى ومض العين ، ومنبت الإلهام وأعترف بأنى ظلمتها حين دعتنى لقطاف مرمرها الفَتَّان .
فاكهتك الآن قد نضجت واحمرَّت وتكورت ، ورمانك أتشهاه ، فصبى من زيتك القرمزى لأغسل جسدى بعصيرك الفتان
هل تذكر حبيبتى يوم أن كنا فى المصعد نختلس القبلات سراً من مشكاة الوقت ، لقد قلتِ : أنت حبيبى ، فقلت لك إنه حقى فيكِ ، وآهٍ من حق الحب .
سأقص حكايتك معى ، مع الأيام ، ليعرف كل المحبين كم هو جميل هذا المسمى بالحب ..
حين ضمت " افروديت " حبيبها إلى صدرها قالت : سأحبك ما حييت ، فكان جسدها قُبَّرَةً وحبيبها طائرُ غِرِّيد ..
الآن أستطيع أن أخبرك ، لقد جمعت خمسة عصافير أسكنتهم روحى ، وكنت الأم التى لم تلدهم ، هم قطعة منىّ
وأنت قطعة من روحى ، لذا هم قطعة منى ومنك ، لأن نفسك كان فيهما ، لذا جمعتهم على قطفية حبك ، فهل يرفض قلبك أجزائى الحبيبة التى أنت كُلُّ فيها حتى أنا ؟! أنا الآن أسير فى شوارع الوقت ، لقد هيأت لك بيتاً وعصافيراً وقهوة الصباح لنشربها سوياً بنكهة الحب العظيم .
ما حسبتك ترفضين قربى ، كما قلتِ لى ذلك ، ونحن نختلس القبلات على شاطئ البحر ..
قلتِ : ياليتنى ما جئت إليك ، لقد جئت لأجدد أحزانى ، أم ماذا فعلت ؟!
لقد كنت أتجرع كلامك وليس لى من تعليق ، بينما قلبى كان كعصفور تطاله سكاكين الزمان فأنا الذى أحبك ، لكن لكِ العذر ، كل العذر ، فقد ظلمتك كثيراً ...
لقد عشت فى وسادة الأحلام عشر سنوات كاملة تعبثين بأعضاء الوحدة ، وجسدك كان وحيداً تسرى فى داخله قشعريرة العشق ، والتوق إلى دفءٍ المحبوب .
لقد كان حباً غريباً ، أفلاطونياً تارة ، ورومانتكيا إلى حد الخيال ..
ياه .. كم تنظرين كل مساء إلى جسد الوردة المقدسة ، تهذبين أطرافها ، وتعطرين حوافها انتظاراً لقدومٍ يجئ ، فصنع الانتظار ثقباً داخل الجسد الطافح ، وظلت فى ذلك الثقب أُغَمِّسُ زبدتك ، وأطفو على عريشته التى تكورت بفعل فاعلٍ ، إنه فعل الحب .
لقد كانت رسائلك بمثابة الزاد الذى أتقوَّت به للحياة ، وعندما انقطعت تلك الرسائل كنت أجوب الأرض ، وأتمرغ فى الثرى ، لقد ضعت بدونك ، فآهِ لو تعلمين بأن حبيبك الأوحد لايعرف كيف يعيش بدونك ..
لقد صنعت لكِ قصراً فى روحى ، وكنتِ الأميرة المتربعة على العرش ، وكنت أراكِ تفرشين قميصك الوردى المعسجد ، فأشاهد لجينك الظامئ ، وأسمع شهيق زفراتك الطنان ، فتطن روحى ، وتزقزق عصافيرها الحبيسة .. لقد ضبطتك مرة وأنت تدسيننى بين ضلوعك ، وكانت ابتسامتك لاتفارق ثغر التوته الحمراء ..
لم يكن حباً عابراً ، بل لقاءً ارتبه القدر ، وسافرت إلى البعيد ، وظلت صورتك مرتوقة داخل لُحْمَةِ القلب ، ثم رأيتك بعد ذلك ..
لقد تغيرت ملامحك وتدوَّرت أعضاؤك ، لكن قلبك الصغير ياحبيبةُ لم يتغير ، إذ التوق ورهبة اللقاء قد صنعا لكِ محراباً فدخلتْ تُنوُّرَك ، ومرَّرتُ بيدىَّ على أجزاء مرمرك وضمْمْتُ التفاحة ، وبلَّلتُ العروقَ التى تيبست بفعل عوامل التعرية والطقس .. إن منطقة لدى جغرافيتك لم تمسها يدى لم تدخل دائرة التاريخ بعد ، وأنا مررت بالجزء واستثنيت الكل الهائل ، فما أردت أن أقشط وجه الزبدة ولكننى اكتفيت بطعمها من شفتيك فكانت أشهى ، كما اكتفيت برؤية الشهد ، والقرب ، وكنت أتحرق ، وكنت تصارعين وتسلمين لى أمرك ، فحافظت على ارادتك التى لم تنطقها شفتاك ، وكنتُ لديكِ الفارس النبيل ..
الحب يا حبيبة أن نحافظ على مساحة فاصلة كتلك التى بين المد والجزر ، والنهار والليل ، والنور والعتمة ، وكم كنا نود معاً ألا ينسلخ المد عن الجزر ، وأن يظل النهار ملتحماً بالليل ، وأن ننسلخ معاً الكل فى الكل ، والجزء فى مجموع الأجزاء ، وبذلك تكون القسمة عادلة ليطلع الصباح السعيد ..
أنت لى ، وأنا لكِ ، قد شاءت الأقدار فلنكن ، أو لن نكون وسيظل الجزء يبحث عن الجزء ، فيكون اغتراب ، ونظل هائمين فى صحراء الحياة ، الآن قررى ، فقد قرَّ قرار القدر ، فهل يمكن ، أم هل نصبح ، أم هل ..... !!
الآن .. الآن ، ياحبيبة ، الآن وليس بعد ، أنا فى انتظار ، فى انتظار .