رئيس لبنان ينتظر قرار المفوض السامي الأمريكي مسعود ضاهر في كتابه “سوريا إلى أين؟ الانتداب في ظلال الأرز"، الصادر في باريس عام ،1929 أشار الكاتب الفرنسي روبير دو بوبلان Robert de Beauplan إلى الطريقة التي انتخب فيها شارل دباس كأول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الإعلان عنها في مايو/ أيار 1926. فكتب ما يلي: “اجتمع مجلسا الشيوخ والنواب في 26 مايو/ أيار 1926 وانتخبا رئيساً للجمهورية اللبنانية بأغلبية 44 صوتاً من أصل 45 ووجود ورقة بيضاء هي ورقة الرئيس المنتخب شارل دباس مدير العدلية سابقاً. وبالتأكيد، لن نبالغ إذا قلنا إنه عشية ذلك الانتخاب كان هناك عشرة مرشحين على الأقل يأملون بالوصول إلى هذا المنصب الرفيع في لبنان. فاحتفظ أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب ببطاقات الانتخاب جاهزة دون أن يعرفوا اسم من سيدونون عليها. كانت أنظارهم متجهة إلى منصة المفوض السامي. وعند افتتاح الجلسة، أعلن المفوض السامي أنه لا يريد انتخاباً بالأغلبية بل بالإجماع. تلك كانت التوصية، وما إن وصلت كلمة السر حتى عمل الجميع على تنفيذها". يبدو أن التقليد الفرنسي في انتخاب رئيس جمهورية لبنان لم يتبدل كثيراً. إذ لم يغير الطامحون لرئاسة الجمهورية من عاداتهم بل أمعنوا في التبعية للخارج، وساندهم في ذلك زعماء الطوائف، والمذاهب، والميليشيات. فتغيرت جنسية المفوض السامي من فرنسية، إلى بريطانية، إلى أمريكية من دون أن يتغير التقليد. وكثيراً ما ترحم اللبنانيون على المفوض السامي الفرنسي بسبب العلاقات المتينة التي كانت تربط بين لبنان وفرنسا على مختلف الصعد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حين كانت فرنسا “الأم الحنون" التي ترعى لبنان ولا تفرط بسيادته واستقلاله. لكن أياً من المفوض السامي البريطاني أو الأمريكي، لم يكن يهتم باستقلال لبنان وسيادته لأن استراتيجية بلاده شرق الأوسطية بنيت على الدعم الكامل للمشروع الصهيوني في فلسطين. أما رئيس جهاز الاستخبارات السورية فكان يدير الانتخابات الرئاسية في لبنان نيابة عن المفوض السامي الأمريكي الأصيل. تجدر الإشارة هنا إلى أن الجمهورية اللبنانية نقلت النموذج السياسي الفرنسي بمعظم تفاصيله. فبعد الإعلان عن الدستور اللبناني لعام ،1926 منح المفوض السامي لبنان مجلساً للشيوخ وآخر للنواب. وحين أدرك فشل تجربة المجلسين في بلد صغير كلبنان، عدل الدستور عام ،1927 ودمج المجلسين، واعتمد صيغة مزدوجة بين الانتخاب والتعيين في اختيار النواب. ثم عدل الدستور للمرة الثانية عام 1929 وجعل رئاسة الجمهورية لست سنوات بدلاً من ثلاث، ولمرة واحدة غير قابلة للتجديد. ثم عطل الدستور عام 1932 ليمنع وصول الشيخ محمد الجسر من الوصول إلى رئاسة الجمهورية. وكان الجسر رئيساً لمجلس الشيوخ ثم لمجلس النواب الموحد. لقد ترسخت سياسة تعديل الدستور أو تعطيله عند بروز أزمات داخلية حادة، واعتمدت كل أشكال التجارب الطائفية في قيادة مؤسسات الدولة. فكان رئيس الجمهورية مسيحياً أرثوذكسياً أو مارونياً أو بروتستانتياً قبل أن يثبت مارونياً بعد الاستقلال. وكان رئيس مجلس النواب الموحد مسلماً وأحياناً مسيحياً إلى أن أصبح مسلماً شيعياً بعد الاستقلال. وكان رئيس الحكومة مارونياً أو سنياً في عهد الانتداب فثبت مسلماً سنياً بشكل دائم بعد الاستقلال. وعلق الصحافي إسكندر الرياشي على سياسة المفوض السامي للتلاعب بزعماء الطوائف وتعديل الدستور أو تعطيله بقوله: “كان مصير جمهوريتنا متوقفاً على كلمة واحدة تنطلق من شفاه الديكتاتور الفرنسي الذي كان اسمه المفوض السامي. كنا نمسي ولنا رئيس جمهورية ومجلس نواب ومجلس شيوخ، فإذا أصبحنا نجد أن كل شيء قد ألغي أو أوقف حتى إشعار آخر". ما أشبه اليوم بالبارحة. فعدد الموارنة المرشحين لرئاسة الجمهورية يفوق العشرة، تقدم بعضهم ببرنامج مكتوب لم يثق به اللبنانيون. فالرجل أهم من البرنامج، كما يقول أحد أبرز زعماء المعارضة، وساسة لبنان تعودوا التنكر لوعودهم على طريقة “الكذب ملح الرجال". فهم ليسوا بحاجة لبرنامج، ولا لتنفيذ ما يعدون به. فلا أحد يحاسبهم، وهاجسهم فقط الحصول على “كلمة السر" من المفوض السامي الأمريكي. لذلك يقف اللبنانيون مشدوهين على أبواب الاستحقاق الرئاسي، فلا هم يعرفون حتى اسم المرشح الذي سيحكمهم لمدة ست سنوات، ولا المرشح نفسه يعرف مصير ترشيحه، ولا رؤساء الكتل النيابية على علم باسم الرئيس العتيد، وما إذا كان توافقياً أو لا، وهل سينتخب بأغلبية الثلثين أو بأغلبية النصف زائد واحد؟ وفي الموعد المحدد بتاريخ 23 اكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أم في موعد آخر ؟ حتى إن رئيس مجلس النواب، نبيه بري، ما زال حائراً إذ لم تصله بعد “كلمة السر" بشأن مبادرته الوفاقية. فصرح في 9 اكتوبر/ تشرين الأول قائلاً: “أردت أن تكون مبادرتي لبنانية مائة في المائة. فحظيت حتى الآن برضى غالبية اللبنانيين، وأيدتها أوروبا وكذلك الفاتيكان. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنني أشعر بأنها مع المبادرة وضد المبادرة وعلى الحياد". وحين سئل: ماذا يعني ذلك؟ أجاب: “يعني أنني ما زلت قلقاً من تشجيع أي طرف في لبنان يحاول أن يستفيد من التدخلات الدولية، فيخرج عن هذا الإطار التوافقي، عندئذ يحترق ونكون جميعاً في خطر شديد". يبدو الاستحقاق الرئاسي اللبناني صعباً في ظل التوترات الإقليمية والدولية. فالمفوض السامي الأمريكي يبحث عن ضمانات لضرب المقاومة اللبنانية أو تجريدها من سلاحها وفق القرارات الدولية التي ساعد على إصدارها، وخاصة القرار 1559. وما لم يحظ الرئيس الجديد بإجماع توافقي، سيأتي مكبلاً بهواجس زعماء الطوائف والميليشيات المتوترة. فيمضي فترة رئاسته على وقع طبول الحرب التي تقرع بين الأمريكيين وخصومهم في الشرق الأوسط. ولا خيار أمام اللبنانيين سوى تحصين وحدتهم الداخلية والكف عن استجداء كلمة السر من المفوض السامي الأمريكي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 21/10/2007