شعوبنا غير صالحة للديمقراطية * رامي الخليفة العلي إطلاق هذا الحكم مثير لليأس و القنوط و لكنه مقارب جداً للحقيقة. أتمنى أن يكون خاطئاً أو مجانباً للصواب و لكن كل المؤشرات تدل على واقعيته في عالمنا العربي و الإسلامي. منذ سنين عدة و كلمة الديمقراطية أصبحت خبزنا اليومي الذي نتجرعه صباح مساء عبر وجبات دسمة و غير دسمة من الحوارات التي نشاهدها كل يوم على شاشات التلفزيون. و تنقسم الآراء إلى فريقين: الأول يرى أننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية و حرية التعبير و التنمية التي تحسدنا عليها أكبر الدول و أكثرها تطوراُ، طبعاً كل هذا بفضل حكمة القائد الملهم و عبقريته فأصبح هو المثال و النموذج حتى عجزت نساء العرب أن يلدن مثله، و يمثل هذا الفريق الإعلام الرسمي العربي من المحيط إلى الخليج. ثم الفريق الأخر الذي يرى أننا نعيش أسوء عصور الانحطاط و التخلف و الاستبداد و ذلك بسبب الأنظمة الفاسدة التي جعلت من دولنا العربية مزارع خاصة للحاكم و أولاده و أتباعه، و يتبع هذا الخط الجزيرة و من لف لفيفها. يتفق معظم المحللين و المفكرين على تعريف واحد للديمقراطية على أساس أنها "حكم الشعب نفسه بنفسه" و هذا التعريف من حيث المبدأ صحيح و لكنه تعريف سطحي لا يرقى إلى مستوى التعريف الجامع المانع و يعطي وجهاً واحداً للديمقراطية على عكس المفهوم المرتبط بوجوه كثيرة و لا يشكل هذا التعريف سوى وجهه السياسي و يتجاهل جوانبه الاقتصادية و الاجتماعية. أستطيع القول إن الديمقراطية هي تنظيم سياسي و اجتماعي و اقتصادي. و بالتالي فإن أخذ أي جانب من هذه الجوانب دون الأخرى فإنه يؤدي إلى تشوه خطير ربما يطيح بالدولة و يهدد نسيجها الاجتماعي و السياسي . و على ذلك فإن الديمقراطية و تطبيقها مرتبط بشروط لا يمكن تجاهلها و لا يمكن أن تستقيم الحياة السياسية و الاستقرار في الدولة بدونها، لأن هذه الشروط هي عبارة عن سلسلة متماسكة الأطراف تبدأ من الفرد و تنتهي بنظام الحكم مروراُ بالأسرة و المجتمع و المدرسة و الوظيفة و باقي المنظومات التي تستوعب الأفراد. و دعنا نلقي نظرة على توفر هذه الشروط في عالمنا العربي. منذ أن يفتح الطفل عيونه و هو يعيش ضمن منظومة أسرية تقوم على تراتبية تجعل من الأب المتحكم الأول في حياة و مصير هذه العائلة و في حال غيابه تأخذ الأم هذا الدور و بالتالي يحرم الطفل من الاعتماد على نفسه فهناك دائماً من هو مسؤول عنه و رأيه دائماً مرفوض و دون إعطاء مبررات، فالعائلة هي مصدر الحقيقة و بالتالي عليه الخضوع لأوامرها و نواهيها بقناعة أو بدون قناعة ، فلا يسمح له أن يقول أو يفعل إلا ما يتناسب مع هذه المنظومة و حتى و إن خالفها فإنها قابعة في أعماقه تؤنبه و تعذبه. و ما أن يشب عن الطوق قليلاً حتى يدخل المدرسة فيتحول مصدر الحقيقة من العائلة إلى المعلم الذي يلقنه المعلومات تلقيناً، فيصبح النجاح هو بمقدار ما يحفظ الطالب لا بمقدار ما يستوعب، و بالتالي تضيع أي شكل من أشكال المبادرة الفردية. بل إن القمع يصبح أشد قسوة و أثقل وطأة، و هنا تبدأ الدولة بإعطاء أطفالها سلسلة القيم التي من وجهة النظر النظام يجب أن يتحلوا بها و الأفكار التي يجب أن يؤمنوا بها في إطار تقسيم بالغ الراديكالية بحيث تصبح العلاقة بين الأفكار علاقة تصادمية فينقسم المجتمع في ذهن الطفل بين مسلم و كافر، تقدمي و رجعي، وطني و خائن وما إلى ذلك من التقسيمات، و على الطفل دائماً أن يختار ما يمليه النظام عن طريق المدرسة.
أما الوسط الاجتماعي الذي يشكله مع أقرانه التلاميذ فمن غير المسموح به أن يتفاعل إلا بالمقدار الذي يسمح به النظام المدرسي و بالنتيجة لا يستطيع تنظيم نفسه إلا من خلال المدرسة التي يمثلها المعلم, هذا المعلم الذي يبقى على مسافة شاسعة من تلاميذه في ذهنهم لأنه هو الوصي عليهم و في ذهنه أيضاً لأنه يحمل كل الموروث الاجتماعي الذي يجعله قريباً من مرتبه الأنبياء بالنسبة لتلاميذه.
ثم يدخل هذا الطالب إلى الجامعة حيث يكون ممتلئ بالرغبة بالتغير و لكن هذه الرغبة غالباً ما تكون غير واضحة المعالم لا فكر يحددها و لا منهاج شامل يحكمها بالتالي غالباً ما تصبح المشكلة هي النظام الحاكم حيث يحمل وزر كل السلبيات التي يعاني منها المجتمع فتتم معارضته تحت مسميات شتى ليبرالية و إسلامية و شيوعية, أو أن هناك من يؤيد النظام لا حباً بالنظام بل كرهاً بالبدائل المطروحة، و مع ذلك فإن الأغلبية من طلبة الجامعات هي صامته لأنها غير قادرة على تنظيم نفسها إضافة إلى شعور عميق بالعجز و قلة الحيلة و عدم توفر البديل الذي تلتقي عليه كل الأطراف، مع تشوه كامل للمفاهيم التي تكون الدولة مثل الحرية و الديمقراطية و الحكم الرشيد و الفقه و الليبرالية و التنظيم المؤسسي و القانون و غيرها الكثير، فهي تبقى ضبابية المضمون وعائمة المحتوى. و على كل حال فأن هذا المواطن هو في الغالب النموذج المثالي لما يريده النظام الرسمي العربي.
وأخيراً تكمل تربية الفرد بالخدمة العسكرية التي هي إجبارية و تتوج هذا المسار الطويل من عملية خلق الفرد النموذج، وهنا تكون القاعدة التي تحكم كل جيوشنا و هي " نفذ ثم اعترض" حيث يصبح الفرد مجرد رقم في سرية أو كتيبة، و هنا لا مجال للرأي و الاقتراح و كل ما عليك هو التنفيذ حيث القانون ينسلخ من بعده الإنساني، و تصبح العلاقة بين الأعلى و الأدنى في الرتب العسكرية أشبه بعلاقة السيد بالعبد على العبد دائماً أن يقدم فروض الولاء و الطاعة و الخضوع و الانقياد التام.
ورب قائل يقول إن الأنظمة العسكرية في كل دول العالم متشابهة إلى حد ما. و هذا صحيح نسبياً و لكن مع ذلك فإن الحياة العسكرية في الدول الديمقراطية تكون خارج السياق و يدرك العسكري أن هذا الوضع عارض و هو لتحقيق هدف واضح في ذهنه و هذا تضحية ليس في سبيل نظام و إنما في سبيل الوطن، ثم أن هذه الدول تسعى من خلال رموزها و رؤسائها أن تشاركهم في المناسبات، في طعامهم و في حياتهم اليومية. أما في عالمنا العربي فإن هذه الحياة العسكرية تأتي منسجمة مع النسق العام في بناء الفرد.
بعد ذلك يدخل الفرد في الحياة العملية حيث يصطدم بالواقع و حيث يسحقه النظام الاقتصادي و الفساد المستشري في مجتمعاتنا العربية و هنا تحدث الازدواجية في داخله بين منظومة القيم التي ورثها من خلال بنيته الدينية و الأيديولوجية حيث قيم الصدق و الأمانة و النظام و الوفاء و حب الخير...إلخ و بين القيم التي يفرضها الواقع الفاسد مثل الكذب و "الفهلوة" و الغش و ما إلى ذلك.
لابد من الإشارة إلى أن الفرد المقصود هنا هو الفرد الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى التي تعبر تماسك الدولة في كل المجتمعات هي الحاملة للمشروع الوطني و هي الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعي و الاقتصادي. كما أن هناك من الأفراد الذين ينتمون لهذه الطبقة أو من الطبقة العليا من يستطيع الخروج من هذه الشرنقة. و لكن يبقى هؤلاء قلة تقف في وجه تيار جارف.
بالله عليكم كيف يستطيع هذا الفرد أن يؤسس نظام ديمقراطي و يدافع عنه؟! كيف يستطيع أن يقبل بالرأي الأخر؟! كيف يستطيع أن يجسد مبادئ الحرية و العدالة و المساواة؟! كيف يستطيع أن يطالب بحقوقه؟! كيف يستطيع أن ينظم نفسه و الآخرين؟!
و للحديث تتمة
** باحث في الفلسفة السياسية جامعة باريس العاشرة نانتير