بين اليمن وباكستان.. هكذا «يُصنَع» التطرّف! خليل العناني ليس تنظيم «القاعدة» وحده، وعملياته الانتحارية التي وقعت أخيراً، هو ما يجمع بين اليمن وباكستان، فثمة بلدان هي بطبيعتها الجيوبوليتيكية والطوبوغرافية أقرب لبرميل بارود لا تهدأ ناره. وثمة مجتمعات هي ببنيتها القبلية والاجتماعية أقرب لحضانات «عقائدية» تتغذى عليها تنظيمات وجماعات تنازع الدولة سلطتها وهيبتها. وبين اليمن وباكستان أوجه شبه ترسم صورة واقعية لما آلت إليه البنية العقائدية «الجهادية» في الثقافة الإسلامية، وما يمكن أن تؤول إليه حركة الإسلام «الجهادي» خلال الفترة المقبلة. ومكمن الخطورة في كلا البلدين، ليس فقط هيمنة ثقافة «الانتحار» بين جماعاتهما الدينية، تلك التي باتت عملياتها أشبه ب «روتين» يومي، وإنما في كون مجتمعاتهما اعتادتا التعايش مع هذه الثقافة، وأحياناً يبدو بعضها مستفيداً من إحياء نزعاته «الجهادية»، من دون القدرة على تطوير ثقافة بديلة، يمكنها إعادة تعريف الذات القبلية والاجتماعية والدينية سلماً لا عُنفاً. ومن المدهش ذلك التلاقي «العجيب» بين اليمن وباكستان في ميكانيزمات صناعة التطرّف، حيث لا فرق بين بلد وصله الإسلام قبل ثمانية قرون (اليمن)، وآخر لا تزيد نشأته عن ثمانية عقود (باكستان)، ففي كليهما يبدو الفكر الديني أشبه بأيديولوجيا «لاهوتية»، بحيث يصبح التخلي عنها أشبه بانتحار «ديني» قد يستدعي عقاباً إلهياً. وليس أخطر من «الفعل» الانتحاري إلا حاضنته، تلك التي باتت شرطاً ملازماً لبقاء مجتمعات بعينها، وليس أشدّ من التنظيمات المتطرفة، سوى مرجعياتها الدينية والقبلية. وبنظرة أكثر عمقاً، يبدو البلدان كما لو كانا لوحة «جهادية» قُسّمَت نصفْين، بحيث لا تكتمل ملامحها إلا إذا جُمعا سوياً. فمن جهة أولى يعاني كلا البلدين (اليمن وباكستان) هشاشة وضعفاً سياسياً واجتماعياً، ولا تتمتع السلطة المركزية فيهما بأية قوة «رادعة» قد تمكنها من بسط سلطتها وسيطرتها على إقليمها الجغرافي. وفي الوقت الذي يعاني فيه اليمن «الموحَد» من بؤر متواصلة للتمرد والعصيان منذ بداية التسعينات وحتى الآن، فإن باكستان لم تعرف الهدوء والاستقرار منذ نشأتها عام 1947، وكأن حكوماتها لا تنبثق إلا من رحم الأزمات. لذا لم يكن غريباً أن يحتل كلا البلدين مرتبة متقدمة في مؤشر الدول الفاشلة الذي تصدره سنويا مجلة «السياسة الخارجية» الاميركية، حيث جاءت باكستان فى المرتبة التاسعة من بين ستين دولة، بل واحتلت المرتبة الأولى كأسوأ دولة فاشلة خلال العام الحالي 2008، في حين يحتل اليمن المرتبة الحادية والعشرين ولم تسبقه في ذلك سوى الصومال والسودان والعراق. ويزيد من وطأة هذه الهشاشة ذلك التداخل «المعهود»، عربياً وإسلامياً، بين العامليَن القبلي والسياسي ما يزيد من صعوبة دور الدولة كضابط محايد في الصراعات الداخلية، وأحياناً متواطئ فيها. ففي اليمن، لا تبدو السلطة قادرة على فرض سلطتها على بنيتها القبلية والاجتماعية، وهي التي تبدو أحياناً مستفيدة من تسخينها وتوتيرها، ليس أقلّه بهدف جلب الدعم الخارجي، وهنا مكمن الخطورة، حين تصبح النزاعات الداخلية مصدر بقاء وشرعية للنظام السياسي. وفي باكستان، تبدو المقايضة جليّة، حيث تبدو مسايرة النزعات القبلية والدينية أمراً لا مفر منه لبقاء أي حكومة (انظر مصير مشرف الذي رفض الانصياع لقواعد اللعبة)، في حين تبدو ورقة الشرعية «القبلية» أهم بكثير من أية شرعية سياسية مكتسبة. ويصبح منطقياً، والحال هذه، أن تتحول وظيفة النظام السياسي من فرض الولاء والطاعة على الجماعات والتنظيمات الدينية والقبلية المتناحِرة، إلى وظيفة «سمْسرة» وقتيّة، ما يجعله في النهاية مجرد أداة في أيدي تلك الجماعات وليس وصياً عليها. ومن جهة ثانية، يتمتع كل من اليمن وباكستان بهجين اجتماعي وثقافي وديني «عتيق»، يندر وجوده في المجتمعات العربية والإسلامية، بحيث يبدو أشبه «بمغناطيس» يجذب إليه الجماعات والتيارات الدينية كافة المتشددة من كل صوب. لذا فإن ثمة تكاملاً في الأدوار، ربما غير مقصود، فرض نفسه على الجماعات الدينية في كلا البلدين حين أطلقت حربها الجهادية ضد الشرق والغرب قبل نحو ربع قرن. وقد وصل هذا التناغم ذروته إبان حقبة «الجهاد الأفغاني» خلال الثمانينات من القرن الماضي، ففي الوقت الذي كان فيه اليمن أشبه بمحطة «ترانزيت» للمجاهدين العرب، يتم فيها توفير إمكانات الدعم البشري واللوجيستي من خلال تجهيز العشرات من الشباب العربي الطامح الى الانضمام لكتائب «المجاهدين» في أفغانستان، فإن باكستان كانت، ولا تزال، أشبه بصمام «القلب» الذي يضّخ هذه البنية البشرية والعسكرية في أذرعها وأطرافها في أفغانستان وحول العالم. وإذا كان اليمن، ومن بعده السودان، قد شهدا وضع اللبنات «الفكرية» الأولى لتنظيم «القاعدة» أوائل التسعينات من القرن الماضي عقب عودة آلاف «الأفغان العرب» إليهما، فإن باكستان شهدت الانطلاقة «العملياتية» للتنظيم بعد تدشينه الفعلي في شباط (فبراير) عام 1998. ومن جهة ثالثة، فعلى رغم ضمور تنظيم «القاعدة» كجسد وهيكل متماسك، وتحوّله إلى مجرد «رأس» يضخ جرعات شحْن سيكولوجية وعقائدية لبعض الخلايا المتشظيّة هنا وهناك، فإن ثمة قدرة عجيبة لا تزال في كلا البلدين (اليمن وباكستان) على استنساخ عشرات الخلايا «الجهادية» التي تفوق «القاعدة» تطرفاً وعنفاً. ف «طالبان» باكستان، وإن ارتبطت قبلياً وعقائدياً بقرينتها «الأفغانية»، إلا أنها تبدو أكثر ضراوة وشراسة منها، وهنا يجب التذكير بأن هذه الأخيرة لم تقم بأية عمليات انتحارية حتى وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، وإن وفرّت المأوى والملاذ لجيش «القاعدة» كي يقوم بتلك العمليات، فيما يشبه نوعاً من التحالف الوظيفي بين الطرفين. في حين تشير العمليات الانتحارية التي وقعت أخيراً في اليمن وباكستان إلى أن العقيدة «الجهادية» التي يتبناها الجيل «الجديد» من «جهادييّ» البلدين قد وصلت إلى مستويات مرعبة. ففي اليمن يجري تفجير المساجد والمدارس من دون وازع أخلاقي أو ديني، وفي باكستان يجري استهداف الصائمين من دون أي إحساس بالذنب، وذلك على رغم وقوع مراجعات عديدة من أقطاب وقيادات لها وزنها في التاريخ الجهادي. ومن جهة أخيرة، يأتي «المحدد الأميركي» كي يضع الإطار الخارجي لتلك اللوحة «الجهادية»، ففي كلتا الحالين تبدو واشنطن حاضرة بقوة في «موزاييك» العلاقة بين التنظيمات الجهادية وأنظمتها الحاكمة. وكأنما تبدّلت الحرب «الأميركية» على الإرهاب من عامِل دحْر وتشظّ لتلك التنظيمات، إلى رافعة عقائدية تزيدها عنفواناً في إطار حربها «الجهادية» ضد «الصليبيين وأذنابهم» حسب تعبيرات هذه التنظيمات. والأسوأ أن يصبح كل من اليمن وباكستان مسرحاً للحرب بين الولاياتالمتحدة والتنظيمات الجهادية. وأن تُستباح أراضي كلا البلدين من دون رجوع الى الدولة أو الاعتداد بها كفاعل رئيسي في تلك المعادلة، وذلك على غرار ما حدث أخيراً في باكستان. وتبدو حكومتا كلا البلدين عاجزتين عن وضع حد لهذا التجاذب «العسكري»، ليس فقط بسبب انعدام قدرتهما المعنوية والعسكرية على ردع المتصارعين، وإنما أيضا لإدراكهما للمكاسب «الضمنية» التي يحققها استمرار مثل هذه المواجهة. ومن المدهش حقاً أنه رغم الاختلاف الجوهري بين اليمن وباكستان، سواء في شكل الدولة أو نظامها السياسي، حيث الأولى تعد، ولو نظرياً، دولة مركزية (أو بسيطة بحسب التعريف المنهجي)، ذات نظام أحاديّ النزعة. في حين تبدو الثانية أقرب إلى دولة «فيديرالية» شديدة المركزية ذات نظام برلماني تعدديّ، إلا أن حالتيهما الجهاديتين تكادان تكونان متطابقتين من حيث مرجعياتهما الاجتماعية والعقائدية. وخطورة ذلك أن «العقيدة الجهادية»، وعلى رغم اختلاف تجاربها وسياقاتها السياسية، فإنها باتت أشبه بعقيدة «فوقية» تطال المجتمعات العربية والإسلامية كافة من دون تمييز، بل وتتمتع بأفضلية على ما عداها من عقائد وإيديولوجيات لدى بعض النخب والعوام. أوليس عجيباً أن يفشل المجتمع اليمني، بعمقه الحضاري والإنساني، في توفير «مصدّات» فكرية وثقافية لعزل «المتطرفين»، ووقف حال «الهيجان» الجهادي، على غرار ما فعلت مجتمعات أخرى في مصر والسعودية والجزائر وتونس والكويت وإندونيسيا وتركيا؟ وبالمثل، ألا يبدو غريباً فشل الباكستانيين، وهم أهل حداثة وعلم وتكنولوجيا، في وقف الانتحاريين واستبدال ثقافة «الرعب والموت» بأخرى للأمن والحياة؟ وفي ظل هذا التشابك «الخلاّق» بين «محاضن» الجهاد وتنظيماته، فإن حدثاً من نوع 11 سبتمبر 2001 يصبح بذاته مجرد كاشف لعقلية الانتحار، ومبرراً كافياً لمواصلة ثقافة الصدام والانتقام. وعليه، فلا يبدو غريباً أن يصبح «الحزام» الجغرافي الممتد من باكستان شرقاً وحتى موريتانيا غرباً أشبه برقعة «حمراء» لا يجف سائلها. فهناك تقبع مجتمعات تتغذى على ثقافة «صماء» لا تعرف التعايش السلمي، ليس فقط مع ذاك الآخر المختلف ثقافياً وحضارياً، وإنما أيضاً مع نظيره «الداخلي» الذي بات هدفاً مشروعاً لتنظيماتها، وهكذا يُصنع التطرف فى مجتمعاتنا. عن صحيفة الحياة 25/9/2008